لمساتٌ كريمة
أَذكرُ شخصًا قال لي ذات مرة: "لم يسبق لي أن حضنت والدي قَط". قد لا يبدو هذا غريبًا على مسامعكم.. أليس كذلك؟
يبدو أن محاسن "العمل من بُعد" بدأت تتجلى، مع التوجه العالمي لتطبيق هذا الأسلوب، وإنْ جزئيًا. ومن أكثر ما أُقدّر في العمل من البيت، كسب ذلك الوقت الذي أنفق جيئةً وذهابًا إلى مقر العمل. وقد لاحظتُ أيضًا أن للعمل من البيت تأثيرًا إيجابيًا على نمطي الغذائي؛ إذ ازداد اعتمادي على نفسي في تحضير الطعام بدلًا من طلب وجبات جاهزة قد لا تكون صحية. وثمة تغيّرٌ سلوكي آخر طرأ علي منذئذ؛ وذلك في وجود قِط لدي بالبيت: مَيلي المستمر للمسح على هذا الهرّ كلما أحسست بإجهاد أو ضغط نفسي. ولقد أدركتُ أن هذا اللمس الوديع يوَلِّد شعورًا إيجابيًا لدى كِلينا؛ فأنا أحس بالهدوء والسكينة، و"سامي" يموء بنبرة تُعبر عن إحساسه الواضح بالطمأنينة، حتى وإن داعبته في وقت خلوته حين يفضل الابتعاد عن الجميع! يتناول التحقيق الرئيس لعددكم هذا أهمية اللمس في استدامة صحتنا النفسية والوجدانية. إذ يعكف العلماء على استعادة هذه الحاسة -على صعوبة الـمَهمة وتعقيدها- لدى أولئك الذين فقدوها في أطراف أجسامهم. فأهمية اللمس كبيرة ولا يُقدّرها إلا من فقدها. في أميركا مثلًا، طالب حقوقيون بإلغاء الحبس الانفرادي لِما له من تداعيات قاسية وخطيرة بسبب حرمان الإنسان من حاجته الطبيعية إلى الاتصال البدني. أَذكرُ شخصًا قال لي ذات مرة: "لم يسبق لي أن حضنت والدي قَط". قد لا يبدو هذا غريبًا على مسامعكم.. أليس كذلك؟ فمجتمعنا العربي -على وجه العموم- يراعي "قواعد لمس" تبيح أشكال مصافحة وتقبيل محدَّدة. لكنها في الغالب لا تخرج عن نطاق غرس قيّم الاحترام والتقدير والتوقير، مثل تقبيل اليد والجبهة لكبار السن، وتبقى محدودةً قاصرة عن اقتحام مجال أَرحب في التعبير بلغة الجسد. قد يقول قائلٌ إن في التعبير الجسدي الحرّ العفوي الصادق عن العواطف انتقاصًا من رجولة المرء أو شكلًا من أشكال الضعف؛ أما أنا فأرد عليه ومن على شاكلته بهذا القول المأثور: "لا تكن ليّنًا فتُعصر ولا قاسيًا فتُكسر". أستحضر ههنا إحدى الشمائل الكريمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة: إذ إنه مضرب مثل في التعبير العفوي عن المشاعر تجاه الجميع. فلطالما رأيناه مُقبِّلًا بكل ودٍّ وحُنو يدَ أخيه المغفور له صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان؛ ولطالما رأيناه معانقًا طفلًا أو يافعًا أو مُسِنًّا، ليُسبِغ عليهم عَطفَه ويحقق لهم هذه الأمنية. إنه درسٌ ملموس يعلمنا تخطي الحواجز التي تكبح التعبير عن حُبنا وإنسانيتنا.