:عدسة روبرت كلارك وديفيد غوتنفيلدر
1 مارس 2017
نقف في الشوارع مرتعشين من البرد تحت الرذاذ الشتوي القارس ونحن بانتظار ظهور زعيم الفايكينغ وفريقه من الغزاة. إنها ليلةٌ باردةٌ رطبةٌ مزعجة من ليالي يناير في بلدة "لرويك" القديمة الواقعة على أكبر جزيرة من جزر "شتلاند" الإسكتلندية.. ومع ذلك فإن الأجواء مفعمة بالبهجة.
يضحك إلى جانبي رجلٌ برفقة ولدين صغيرين إذ يرى سديماً دخانياً أحمر يرتفع خلف دار البلديّة، ويقول: "يبدو أنهم أضرموا النار في كامل المبنى"؛ فيرسم تعليقه ابتسامات عريضة على وجوه من حوله. كيف لا، والنار هي سبب حضورنا إلى هنا أصلاً، وما نشهده هو "أب هيلي آ" (Up Helly Aa)، المهرجان الناري العظيم الذي يحتفي بما كان للفايكينغ من تاريخ غابر على جزر شتلاند. وكحال بقية الحاضرين، فقد أتيتُ إلى هنا لأرى سفينة فايكينغ وهي تحترق.
وإذ تــدلف زمرة الزعيــم وعشــرات مــن الزمــر الأخــرى إلى الشوارع، تتوهّج النيران من مئات المشاعل. وما إن تلمح الحشود منظر السفينة الطويلة الرشيقة، حتى تصيح ابتهاجاً بمرآها.
كان الفايكينغ قد رسَوا أول مرة على هذه الشواطئ الصخرية الواقعة شمال برّ إسكتلندا قبل نحو 1200 سنة، ساحقين مقاومة السكّــان الأصليـين ومستــوليــن على أرضــهم. وظلّ الزعماء النرويجيّون يحكمون جزر شتلاند على مدى سبعة قرون، إلى أن رهنوها أخيراً إلى ملك إسكتلندي. واليومَ ما زال سكّان جزر شتلاند يعتزّون أيُّما اعتزاز بماضيهم المرتبط بالفايكينغ، على أنه لم يعد للغة الإسكندينافية المحلية القديمة -المعروفة باسم "نورن" (Norn)- وجودٌ يُذكر هناك. وكل عام ينهمكون بهوَسٍ في التحضير لمهرجان "أب هيلي آ"، فيعملون على صنع نموذج لسفينة فايكينغ يحاكي السفينة الأصلية، لوحاً بلوح.
والآن، وفيما تَصدع حناجر الجمهور بالأغاني التي تمجّد ملوك البحر والسفن التنينيّة، فإن حَمَلَة المشاعل يجرّون السفينة إلى حقلٍ مسوّر. وبإشارة من الزعيم، يَضرم وابلٌ من المشاعل النارَ في السفينة. تتسارع النار صاعدةً صاريَ السفينة فيتطاير الشرر في سماء الليل. أما الأطفال فيركضون بأرجلهم ويرقصون على الأرصفة وهم في حالة من الاهتياج تكاد تبلغ حد الهذيان.
وفي وقت لاحق من ذاك المساء، وبينما كان المعربدون يلهون ويحتفلون، إذ أخذتُ أتفكّر متعجباً من قدرة الفايكينغ المستمرة على الاستحواذ على مخيّلاتنا. فهؤلاء البحّارة والمحاربون الذين كانت القرون الوسطى مسرحاً لنشاطهم وازدهارهم، ما زالوا يعيشون في عوالمَ يُبدعها صنّاع الأفلام والروائيين وفنّاني القصص المصوّرة، رغم أنهم ماتوا وبادوا منذ قرون طويلة. ومعظمنا يستطيع أن يسترجع تفاصيل من هذه الصور المتخيّلة للفايكينغ: كيف كانوا يقاتلون ويحتفلون، أين عاشوا، وكيف ماتوا. ولكن ما مبلغ علمنا عن الفايكينغ حقاً؟ من كانوا، وكيف كانوا يرون عالمهم، وكيف كانت حياتهم على أرض الواقع؟