أصلية وحيوية، مع بعض الخلل الطفيف: إنها ذاكرة الإنسان وأحد أكبر ألغاز العقل المبهمة. لماذا نتذكر ما نتذكر وننسى ما نحاول جاهدين الاحتفاظ به؟ وهل يمكننا تحسين أداء ذاكرتنا؟ فما الذي أتى بي إلى هنا؟
عندما تنظر "لافانيا أولوبان" إلى صور طفولتها، تشعر أن ذكرياتها غير مكتملة؛ إذْ تقول: "إنها غير واضحة، وأنا أملأ الأجزاء الناقصة من اللغز بذاكرة ليست حقيقية تمامًا". تبلغ أولوبان من العمر 38 عامًا وتعيش في برمنغهام بإنجلترا، ولا تحتفظ إلا بعدد قليل من صور أعياد ميلادها عندما كانت صغيرة. لكن ابنها "أرلو" البالغ من العمر ثماني سنوات يحتفظ "بما لا يقل عن 200 صورة" التقطها مختلف المدعوين لعيد ميلاده بهواتفهم الذكية. تقول: "تكاد أن تكون كل ثانية من حياة أرلو موثَّقة. فلديه تمثيل مفصَّل لكل حدث كأنه محاكاة للواقع الافتراضي، وذلك لوجود كثير من الصور ومقاطع الفيديو. أعتقد أن ذاكرته مفعمة إلى حد كبير". يَستحيل عَدّ الصور التي تُلتقط سنويا بالهواتف الذكية في جميع أنحاء العالم، لكن شركة واحدة متخصصة في أبحاث السوق على الأقل تتوقع أن يقترب العدد من تريليوني صورة في عام 2025. فلدى أولوبان وحدها أكثر من 150 ألف صورة على هاتفها تم تحميلها على الذاكرة السحابية: صور شخصية مع أرلو، وصور لغروب الشمس، والفراشات، والمثلجات. ويمكن الوصول إليها والبحث فيها ونشرها بصورة فورية. ويقول "فابيان هوتماخر"، عالِم نفس لدى "جامعة فورتسبورغ" الألمانية يَدرس تأثير الوسائط الرقمية في ذكرياتنا، إن الجماهير الحالية التي تحمل الهواتف الذكية "تسجل بيانات عن حياتها أكثر بكثير من أي جيل سابق. ومن الطبيعي أن نتساءل: هل يغير ذلك أي شيء في الطريقة التي نتذكر بها حياتنا؟". إن للذاكرة الذاتية (وتعني تَذَكُّرنا أحداثَ حياتنا الشخصية) دورًا بالغ الأهمية في فهمنا أنفسنا؛ إذْ يقول هوتماخر: "الذكريات عنصر أساسي لتحديد هويتنا. فهي بمنزلة خزّان نرجع إليه كلما فكرّنا في حياتنا". لكن استعادة الذكريات ليست عملية بسيطة ومباشرة كما هو تشغيل مقطع فيديو؛ إذْ تقول "جوليا شواريس"، أستاذة مساعدة في علم النفس لدى "جامعة ولاية نيو مكسيكو": "إن ذاكرتنا ليست دقيقة تمامًا. فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهويتنا وبالطريقة التي نسرد بها ما يجري من أحداث طوال حياتنا". ويمكن للصور أن تعزز ذلك السرد التجميعي، ويتفق الباحثون على أن الصور غالبًا ما تساعد في إنعاش الذاكرة من خلال إظهار التفاصيل أو المشاعر التي قد ننساها. لكن هوتماخر يقول إن الصور هي أكثر من مجرد إشارة لاستعادة ما هو مخزن في أذهاننا. فهي تغير الطريقة التي نحفظ بها الذكريات من الأساس. ويوضح قائلًا إن التذكر لم يعد أمرًا داخليًا صِرفًا؛ بل هو تفاعل بين عقولنا وجميع البيانات الشخصية التي نقوم بتفريغها في الأقراص الصلبة والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. وعلى أنّ هذا التفريغ يمكن أن يخفف عنا العبء الإدراكي لتَذَكّر كل لحظة من ماضينا، فمن الممكن أيضا أن يضعف قدرتنا على تذكر التفاصيل ما لم نسعَ إلى الاستعراض النشط لتلك المواد المخزنة في وقت لاحق. ونتيجة لذلك، عندما نلجأ إلى الصور الرقمية لإعادة تجميع حدثٍ ما، فإن تلك الملفات لا تدعم ذاكرتنا فحسب، بل إنها تغذيها لتصير جزءًا منها وتُعدّلها على نحو غير ملحوظ. ويثير هذا التحول تساؤلات جديدة. فإذا كانت ذكرياتنا تتشكل جزئيًا من خلال ما نصور وما نختار أن نعيد مشاهدته، فإن أجهزتنا لا تكتفي بإبراز ماضينا فحسب، بل إنها تُشكل اللحظات التي نتذكر، ومدى وضوحها، وكيفية تفسيرنا تاريخنا الشخصي. إن التقاط مزيد من الصور لا يؤدي بالضرورة إلى ذكريات أقوى. فقد خلصت دراسة أجرتها خبيرة في علم النفس الإدراكي، ليندا هينكل، في عام 2013 إلى أن تصوير الأشياء يمكن في الواقع أن يضعف الذاكرة؛ إذْ ظهر أن المشاركين في الدراسة اعتمدوا "على ذلك الجهاز الخارجي -أي الكاميرا- ليتولى 'تذكيرهم'". ويشرح هوتماخر ذلك على النحو التالي: "إذا ذهب المرء إلى حفل موسيقي وأمضى 90 دقيقة في التصوير، مع التركيز على الحصول على زاوية جيدة، فإن ذلك يقلل من متعة الموقف، وكذا من ذكرياته بشأنه. ومن ناحية أخرى، إذا قام بتسجيل لقطة بعينها لأنها تتضمن أغنيته المفضلة، فإن ذلك يمكن أن يحسن الذاكرة لاحقًا".
هل يمكن استرجاع المعلومات التاريخية الحبيسة في الصفائح الجليدية القطبية قبل أن تذوب بالكامل؟
أصلية وحيوية، مع بعض الخلل الطفيف: إنها ذاكرة الإنسان وأحد أكبر ألغاز العقل المبهمة. لماذا نتذكر ما نتذكر وننسى ما نحاول جاهدين الاحتفاظ به؟ وهل يمكننا تحسين أداء ذاكرتنا؟ فما الذي أتى بي إلى هنا؟
مصورٌ فرنسي الأم، ياباني الأب، إماراتي الهوى يَجول بعدسته في ربوع الصحراء الرحبة ليلتقط ما تَغفل عيون الآخرين عن التقاطه.. على كل شموخه وهيبته.