تنزلق قناديل البحر القمرية عبر مراحل دورة حياتها بانسيابية مذهلة، كأنها ترسم على صفحة الماء صورة حية للتجدد اللامتناهي، متحديةً مفهوم الشيخوخة، وربما محققةً معنى الخلود.
14 نوفمبر 2025
بقلم: أناند فارما
واندر لاب – ناشونال جيوغرافيك سوسايتي
تنزلق قناديل البحر القمرية عبر مراحل دورة حياتها بانسيابية مذهلة، كأنها ترسم على صفحة الماء صورة حية للتجدد اللامتناهي، متحديةً مفهوم الشيخوخة، وربما محققةً معنى الخلود؛ فهذه المخلوقات الرائعة تبدأ رحلتها على هيئة كائنات ضئيلة الحجم تُعرف علميًا باسم (السليلة)، بالكاد تُرى، تلتصق بقاع المحيط كغصن صغير تنبثق منه المجسات بدلًا من الأوراق. وعندما يحين وقت التحوّل، تمتص أطرافها وتبدأ بالانقسام إلى طبقات رقيقة تشبه الأقراص، ينفصل كل منها ليصبح كائنًا مستقلًا يسبح نحو المجهول. ومن هذا الكائن الواحد تولد عائلة كاملة. ثم تعيد السليلة الأم الكرّة، مرارًا وتكرارًا، في دورة لا تعرف النهاية.
قد يتساءل البعض: ولماذا نهتم بكائن هلامي في قاع البحر؟ ربما لأن في دورة حياته مفاتيح علمية ثمينة، وربما يحمل في خلاياه أسرارًا تُعيننا على إبطاء الشيخوخة أو تجاوزها. لكن ما شدّني إلى قنديل البحر لم يكن وعدًا دوائيًا... بل تلك اللحظة التي شعرت فيها بانشطار داخلي، وكأن وعيي تمدّد أمام مشهد يفوق الخيال. بدا لي الأمر كالسحر، تحدّى كل ما كنت أظنه ممكنًا.
يومها قررت حمل الكاميرا والانطلاق في رحلة بحث عن الدهشة لاكتشاف هذا الجمال الخفي الكامن في عالم الطبيعة. علمني التصوير أن الإنسان، وإن عجز عن التجدد الجسدي كقنديل البحر، إلا أنه يملك هبة نادرة: الدهشة. إنها القوة التي تطلق العنان لخيالنا، تعيد تشكيل وعينا، توجّه تركيزنا بعمق، وتربطنا ببعضنا البعض. ورغم أننا نُولد بهذه الهبة العظيمة، فإن الزمن يضعف قبضتنا عليها، أصبحت مهمتي أن أُعيد إحياء هذه القدرة، وأبحث في أسرارها، وأشارك ثمارها مع العالم.
كانت بدايتي مع ناشيونال جيوغرافيك تجربةً لزرع الدهشة في أعين الآخرين. طُلب مني آنذاك أن أُلهِم القرّاء لاستكشاف عالم الطفيليات... وهو تحدٍ ليس بالسهل. فمن ذا الذي يرغب حقًا في التقرّب من هذه الكائنات المجهرية الغامضة التي تتحكم في عقول مضيفيها؟ لكنني كنت أؤمن أن ما وراء النفور عالمًا يستحق أن يُرى.
وثّقت عبر عدستي دبورًا يحوّل ضحيته إلى زومبي، ودودةً تُغرق مضيفها، وكائنات بحرية صغيرة لاصقة تُحوِّل ضحاياها إلى أمهات وهميات يعتنين ببيضهن. أردت أن أُظهر هذا العالم كمشهد مدهش يستحق التأمل، فابتكرت أساليب إضاءة خاصة، استلهمتها من السينما الغامضة الكلاسيكية (أفلام النوار)، والقصص المصورة، والأنمي الياباني. وعندما وصلتني رسالة من قارئ يقول: "كنت أرى الحشرات مقززة، أما الآن فأراها رائعة"، علمت أنني نجحت.
انطلقت بعدها في مغامرة جديدة، وهذه المرة كان أبطالها قناديل البحر. أردت معرفة ما إذا كان بالإمكان تعميق علاقتي بالطبيعة من خلال ابتكار تقنيات جديدة لتصوير هذه الكائنات الغامضة. تعاونت مع معهد فرانكلين في فيلادلفيا لإنشاء معرض تفاعلي يعرض صورًا حية لدورة حياة القنديل. في يوم الافتتاح، جلس طفل صغير أمام الشاشة بلا حراك. وحين حمله والداه للمغادرة، بكى وفرّ منهما ليعود ويكمل المشاهدة. في عينيه رأيت نفسي... طفلًا مندهشًا، يكتشف الحياة من جديد. عندها أيقنت أن الدهشة ليست مجرد شعور بالجمال أو الجديد، بل هي حالة نادرة من الانتباه، لحظة من الصفاء العقلي، تخترق فوضى العالم وتضعنا في حضرة شيء أعظم من أنفسنا.
وفي عام 2022، أنشأت "واندر لاب" في مصنع كاتشب مهجور في بيركلي، كاليفورنيا. وهو مساحة هجينة بين استوديو تصوير، ومختبر، وفصل دراسي. هنا نبتكر تقنيات تصوير، ونشارك أدواتنا مع العلماء والطلاب ورواة القصص. أحدث مشاريعنا كانت مجموعة أدوات تصوير تعليمية بسيطة للمدارس، تمنح الأطفال حرية التجربة والاستكشاف والتصوير بمرونة دون قيود المجاهر التقليدية التي توجه النظر في اتجاه واحد. أرسلنا هذه المجموعة إلى خمس مدارس تتراوح أعمار طلابها من 3 إلى 18 سنة، وكانت النتائج مذهلة: طلاب كانوا يعانون من التشتت أصبحوا يطلبون البقاء بعد انتهاء الدوام لإكمال مشاريعهم التصويرية. وجدنا أن التصوير لا يوثّق فقط، بل يُشعل الدهشة الجماعية، ويخلق تجربة تربط الطلاب ببعضهم وبالطبيعة.
أنا لست وحدي في هذا الطريق. مشروع التعليم الرائع (Wonderful Education Project) في جامعة فريجي بأمستردام أثبت أن الدهشة تُحفّز الفضول الفطري، وتُنمّي الداوافع الداخلية للتعلم، وتُحرر الفكر من الأحكام السطحية. وأذكر هنا ما أكده الدكتور داكر كيلتنر من جامعة كاليفورنيا، وهو أن الدهشة تربطنا بأفكار أوسع من ذواتنا، وتُعيد إلينا أعظم قيمنا، وتساعدنا في تحديد أهدافنا وتحقيقها، وتشكل بوصلة تقودنا لتحديد أولوياتنا في الحياة.
تخيل لو أننا جميعًا استطعنا استعادة قدرتنا العميقة على الإحساس بالدهشة... لربما هدأت وتيرة حياتنا الصاخبة، ووصلنا إلى مستوى عميق من التركيز، ووسعنا مجال رؤيتنا، وعمّقنا إدراكنا للتفاصيل التي غالبًا ما تغيب عن أعيننا، وزدنا من صبرنا لفهم الأمور المعقّدة. أعتقد أن مواجهة تحديات المستقبل تبدأ من هنا: من دهشة حقيقية، من تلك القوة الدفينة التي تنتظر أن نستدعيها من جديد.
هل يمكن استرجاع المعلومات التاريخية الحبيسة في الصفائح الجليدية القطبية قبل أن تذوب بالكامل؟