لـؤلـؤة في ثنـايـا المـرجـان

تقوم "سعاد الحارثي" (يمين) وزميلتها في الجمعية، "رباب اللواتي"، بإعداد أجهزة قياس الحرارة قبل انطلاقهما من "مرسى الموج" باتجاه "محمية جزر الديمانيات الطبيعية" حيث سيجري تثبيت الأجهزة في مواقع مراقبة المرجان. الصورة: Christophe Chellapermal

لـؤلـؤة في ثنـايـا المـرجـان

يستعد فريق من "جمعية البيئة العمانية"، مدعومًا بمجموعة متطوعين، لإجراء استطلاع في محطات الرصد والمراقبة الخاصة بالشعاب المرجانية لدى "جزيرة الفحل" في سلطنة عمان. الصورة: Azzan Al Sinani

لـؤلـؤة في ثنـايـا المـرجـان

مستكشفة إماراتية توظف زادها العلمي وخبرتها الميدانية الواسعة لخدمة المشهد البيئي في بر عُمان وبحارها

قلم: سعاد الحارثي

1 نوفمبر 2025 - تابع لعدد نوفمبر 2025

لطالما أسرني البحر؛ فهناك سحرٌ خاص في مدّ أمواجه وجَزرها، وفي تدرجات  لونيه الأزرق والأخضر التي تتغير على مدار اليوم. للبحر قدرة عجيبة على تهدئتي وشحذ طاقتي وإشباع فضولي، ومنحي إحساسًا بالمعنى والغاية. في طفولتي،  كنت مولعة بالصخور وبكيفية عمل الظواهر الطبيعية، وأنتظر بفارغ الصبر قضاء  الوقت في استكشاف الصحاري والشواطئ مع عائلتي. 

قادني ذلك الشغف بالطبيعة إلى دراستها أكاديميًا؛ فتُوِّج هذا المسار بحصولي على الماجستير في إدارة البيئات الساحلية من "جامعة ديوك" بالولايات المتحدة. ولدى عودتي،  عملتُ في عام 2005 لدى "هيئة البيئة–أبو ظبي" وتحديدًا في قسم التنوع الأحيائي البحري. أتاح لي هذا العمل التعمقَ في مجال حفظ البيئة البحرية؛ وقررت التدرّب على الغوص الاحترافي كي أكون مُؤهلة  لاستكشاف بواطن البحر والنظر في كائناته من كثب. بعدها، تسلحتُ بمعرفتي العلمية وروح المغامرة  لدي، فانطلقتُ إلى استكشاف جزر أبوظبي النائية وتلك المطلة على السواحل،  وأصبحت عضوًا أساسيًا في الفريق الميداني لدى الهيئة المكلّف باستطلاع  الشعاب المرجانية ومروج الأعشاب البحرية والسلاحف البحرية والأطوم (أبقار  البحر).

في عام 2012 انضممت إلى "جمعية البيئة العُمانية"، وهي المنظمة غير الربحية الوحيدة في عُمان المكرّسة لحماية الأنواع المهددة بالانقراض، بدءًا من النسور وأشجار اللبان وصولًا إلى السلاحف البحرية والحيتان. أتاح لي العمل الميداني لدى الجمعية إدراك حقيقة أن تداعيات تغيّر المناخ ماثلة أمامنا اليوم وليست مشكلة تخص المستقبل البعيد كما يظن بعض الناس؛ بل إنها تتفاقم في غفلة منهم وتتزايد وتيرتها. فقد ظلت سلطنة عُمان -مثالًا لا حصرًا- تشهد ارتفاعًا في عدد الأعاصير والعواصف وشدتها؛ وكانت البداية مع إعصار "جونو" في عام 2007، مرورًا بأعاصير "فيت" و"أشوبا"  و"مكونو"، ثم "شاهين" في عام 2021.

في عام 2017 مرّت الجمعية بمرحلة  انتقالية، فوّض خلالها مجلس الإدارة مزيدًا من الصلاحيات للموظفين، وأصبحتُ أول موظفة تشغل منصب المديرة التنفيذية. ومن خلال هذا الموقع ركّزت جهودي على تطوير برامج لنشر الوعي البيئي وتعزيز الابتكار في المدارس، والدعوة لحماية البيئة عبر مبادرات مجتمعية، فضلًا عن تسهيل البحوث العلمية  التي تدعم العمل البيئي.

وتشمل البرامج الرائدة التي دأبتُ على قيادتها، الإشراف على البحوث بشأن حيتان بحر العرب الحدباء، والذي تُعد  مهددة بالانقراض وهي كذلك الأكثر عزلة في العالم، إذ يُقدَّر عددها بأقل من  مئة حوت. ويواجه هذا المخلوق الضخم تهديدات طبيعية وأخرى بشرية مثل حركة  الملاحة، والضوضاء، والوقوع في شباك الصيد. كما أننا ننفذ برنامجًا  لصون سلاحف الريماني في شمال غرب المحيط الهندي، والتي شهدت انخفاضًا بنسبة 80 بالمئة في أعداد الإناث بمواقع التعشيش على مرّ 20 عامًا. ولهذا ركّزنا جهودنا في "جزيرة مصيرة" للحد من التلوث الضوئي ومخاطر شباك الصيد.

إن  العمل في منظمة صغيرة غير ربحية تُعنى بصون البيئة يتطلب مرونة وقدرة على التحمّل، بدءًا من العمل الميداني وإجراء الاستطلاعات البيئية، إلى المشاركة في العروض التقديمية أمام الجمهور وكذلك في الاجتماعات التوعوية. أفخر بهذا العمل الذي يتيح لي التواصل المباشر مع الطبيعة؛ لكن أبرز التحديات تكمن في الموازنة بين حاجات الصون والحماية ومتطلبات التنمية، وتأمين تمويل مستدام لدعم هذا العمل الحيوي.

في يونيو 2024، نلت  "جائزة واي فايندر" من "الجمعية الجغرافية الوطنية" الأميركية، تتويجًا  لجهودي في مجال الحماية البيئية؛ وحصلت على فرصة للتقدم بطلب "منحة واي فايندر". وقد تزامن صيف 2024 أيضًا مع حدوث ابيضاض واسع النطاق للشعاب المرجانية على مستوى العالم هو الرابع من نوعه، حيث تأثر أكثر من 80 بالمئة  من الشعاب بسبب موجات الحرارة البحرية. ولمّا عاينتُ بنفسي ابيضاض المرجان  في عُمان ذلك الصيف، رغبت في توسيع معرفتنا بشعاب هذا البلد لفهم حالتها وقدرتها على الصمود في وجه مناخ متنامي الحرارة، وقدمت طلبًا للحصول على تلك المنحة لدعم المشروع.

الشعاب المرجانية حيوانات، وليست صخورًا أو نباتات كما قد يظن بعض الناس. وهي تؤدي دورًا محوريًا بوصفها خطا دفاعيا طبيعيا أو حاجزًا مائيا في المناطق الساحلية، إذ تحمي الشواطئ والمجتمعات الساحلية ضد تأثير العواصف العاتية وعوامل التعرية. وهي تُعد أيضًا مواقعَ تنوع أحيائي مهمة لمصائد الأسماك، والسياحة. والحال أنها تواجه تهديدات متزايدة من قبيل تغيّر المناخ، والأنشطة البشرية والاضطرابات الطبيعية؛ وكل ذلك يُضعف قدرتها على منح الفوائد البيئية والاقتصادية الأساسية. 

تقوم حياة الشعاب المرجانية على علاقة تكافلية مع طحالب مجهرية (حُيَيونات صفراء تُعرف باسم الزوزانتلا "Zooxanthellae"). فحين تقوم هذه الطحالب بعملية التمثيل الضوئي، تزوّدُ المرجانَ بالعناصر الغذائية؛ وبالمقابل يوفر المرجان المأوى ومواد مُغذّية إضافية للطحالب. لكن عند تعرض المرجان للإجهاد -مثل الاحترار- فإنه يطرد الطحالب التي تمنحه لونه، فيصبح مُبْيَضًّا شاحبًا، في عملية تُعرف باسم "ابيضاض المرجان" (Coral Bleaching)؛ ويؤدي ذلك إلى مجاعة المرجان وزيادة احتمال تعرضه للأمراض. ومع استمرار الاحترار العالمي، تشتد ظاهرة ابيضاض المرجان وتُصبح أخطر وأكثر تكرارًا.

إننا نستطيع تعزيز قدرة الشعاب المرجانية على الصمود والتعافي عبر الحد من بعض التهديدات المحلية التي يسببها الإنسان. وهناك اهتمام خاص بدراسة الشعاب المحلية التي تتعافى وتُظهر قدرة على الصمود، إذ يمكنها أن تقدم لنا رؤى بشأن كيفية بقاء الشعاب في مناطق أخرى من العالم، والإسهام في بلورة استراتيجيات لحمايتها.

ووعيًا منا بأهمية بناء القدرات المحلية لجمع البيانات والإسهام في رصد الشعاب المرجانية، بدأ المشروع في أبريل 2025 بورشة تدريبية  قمت بتنظيمها بالشراكة والتعاون مع "جامعة نيويورك أبوظبي" واستضافتها منظمة "عُمان للإبحار–نادي بحر عُمان"، وجرت بدعم كبير من هيئة البيئة في عُمان، واستهدفت تطوير مهارات أساسية لدى الباحثين والأكاديميين والمتطوعين المشاركين في البرنامج. وتُعد  هذه الجامعة القلب النابض إقليميًا "لمبادرة الرصد العالمي للشعاب المرجانية" (GCRMN)، وهي الجهة المسؤولة عن جمع البيانات من الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب للمساهمة في فهم إقليمي وعالمي للشعاب المرجانية. 

ويستخدم فريق الجامعة برامج حاسوبية مثل (ReefCloud) و(MERMAID) مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتسريع التحليلات وتحسين دقتها؛ والنتيجة: تقارير أسرع فائدة للباحثين وصنّاع القرار.

بعد الورشة التدريبية، تم إنشاء ثمانية مواقع لمراقبة الشعاب المرجانية حوالي مسقط، منها أربعة في "محمية جزر الديمانيات الطبيعية"، واثنان قرب "جزيرة الفحل"، واثنان في "بندر الخيران" و"جزيرة الجصة". ورغم وجود شعاب مرجانية مهمة على امتداد السواحل العُمانية، فقد تم اختيار مواقع مسقط لسهولة الوصول إليها وإمكانية المراقبة المنتظمة مرتين سنويًا على مدى عامين بوصفها نقطة البداية، مع خطط للمراقبة طويلة المدى مستقبلًا. 

ويتزايد التنوع المرجاني من شمال عمان باتجاه جنوبها؛ بوجود نحو 70 نوعًا في مسندم، و120 نوعًا في مسقط، وأكثر من 140 نوعًا في ظفار، منها أنواع متوطنة وأخرى جديدة. ومن خلال التدريب نأمل أن نزيد عدد الأفراد القادرين على مراقبة الشعاب المرجانية وتوسيع نطاق المواقع لتشمل جميع سواحل سلطنة عُمان. فلا يمكننا تتبع التغيرات وتوجيه جهود الحماية إلا عبر المراقبة طويلة المدى. وبصفتي  امرأة وعالمة ميدانية خليجية، فإن من طموحات المشروع أيضًا تشجيع مشاركة النساء في مختلف أنشطته، من العمل الميداني والتدريب، إلى دعم مبادرات المشاركة المجتمعية. وأنا فخورة بالنساء اللواتي انضممن إليّ في هذه  المسوحات الميدانية والأنشطة المجتمعية التي تقودها النساء بالأساس.

وإذْ نرى في الشباب حماة للمحيطات وأنصار للبيئة في المستقبل، فإننا نسعى لتطوير محتوى تثقيفي جاد وجذاب يوسّع فهم هذه الفئة بشأن النُّظم البيئية البحرية، والترابط بين حياتنا وصحة المحيطات. ومن خلال هذا البرنامج، آمل الإسهام في توسيع المعرفة بحالة الشعاب المرجانية في عُمان، وأن أرفد الفهم  الإقليمي والعالمي للشعاب المرجانية في ظل تغيّر المناخ. 

ما زلت مؤمنة بأنه من خلال العلم والعمل المحلي يمكننا تعزيز قدرة الشعاب المرجانية العُمانية على الصمود، ومن خلال العمل الجماعي يُمكننا تحقيق أهدافنا المنشودة؛ لذا فإنني أتقدم بالشكر لكل الجهات التي دعمتنا، لجامعة نيويورك أبوظبي، وللعزيزة هيئة البيئة في عُمان، ولأندية "رأس الحمراء" و"إكسترا دايفرز" للغوص، وأشكر أيضًا كافة المتطوعين الذين ساهموا بوقتهم وجهدهم من أجل نجاح المشروع.

 

سعاد الحارثي باحثة إماراتية متخصصة في صون البيئة ومستكشفة لدى ناشيونال جيوغرافيك؛ تقيم في سلطنة عُمان. تعمل على حماية التنوع الأحيائي البحري والبري في عُمان من خلال الأبحاث العلمية وبرامج التوعية والمبادرات التعليمية.

استكشاف

غيـــبون يؤدي رقصة روبـــوت

غيـــبون يؤدي رقصة روبـــوت

فكّ شفرة الحركات الغريبة لقِرَدَة آسيا الراقصة

إنقاذ قصص حبيــسة  فـي الجـليد

استكشاف

إنقاذ قصص حبيــسة فـي الجـليد

هل يمكن استرجاع المعلومات التاريخية الحبيسة في الصفائح الجليدية القطبية قبل أن تذوب بالكامل؟