حلول مستدامة من وحي العراقة الثقافية، لمشكلات عصرية، تقدم للعالم درسًا نموذجيًا في فن الإصغاء إلى الطبيعة.
ما إنْ تخطو أولى خطواتك على الممر الخشبي، حتى تتعالى من حولك سيقان القصب الشاهقة لتحتضن حواسك بهدوء وهي تُداعب السماء بسيقانها الرشيقة كمداعبة فرشاة للوحة قماشية. هنالك يغشاك شعور بالسكينة وأنت تَرقُب القصب يتراقص برقّة مع النسيم، فيصدر خشخشةً تهمس بحكايات أجيال مضت، حكايات عذبة تزداد عذوبة بألحان طائر تُمَير أرجواني. ومع تسلل ضوء الشمس بين سيقان القصب، يحدّق "فيلْ دان" بعينين زرقاوين نافذتين تفيضان تأملًا ومهابة.
وراء نظرته تلك يكمن هدوء لا هوادة فيه، وإصرار عميق ورصين. فهو رجل يحمل رسالة: إنه حارس أمين للتنوع الأحيائي في "تيرّا، مدينة إكسبو دبي"، حيث يوظّف خبرته في هندسة المناظر الطبيعية ويستمد طاقته من تقديره العميق وشبه الروحاني للطبيعة. وقد وُلد شغفه الرومانسي بالطبيعة منذ زمن بعيد، في الأراضي الرطبة حيث تشكّلت طفولته. حين نَذكر الأراضي الرطبة، نادرًا ما نتصور المدن، فضلًا عن الحواضر فائقة الحداثة في دولة الإمارات العربية المتحدة. لكن قبل أن تعيد الخرسانة والزجاج تشكيل مدننا، كان القصب يبني بيوتنا، ويظلل أفنيتنا، ويحمل في جعبته حكايات شعبنا.
للناظر العادي، قد تبدو أحواض القصب المصمَّمة في "تيرّا" مجرد بقعة نباتات قوية تحاذي ممرًا خشبيًا؛ لكنه إنْ أمعن النظر وأصاخ السمع فسيدرك أن هذه النباتات لا تعالج مياه الصرف الصحي فحسب، بل تبعث الحياة في علاقة بالأرض كانت يومًا جوهر الثقافة الإماراتية.. وربما ستُسهم في صياغة مستقبلها.
كان القصب جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة على مرّ التاريخ في ربوع شبه الجزيرة العربية؛ من الحصير والسلال إلى جدران بيوت العريش التقليدية. فلقد شكّل مأوى وأداة ولمسة جمالية. وهنا، في قلب مدينة إكسبو دبي، تتكشف معالم ثورة بيئية هادئة.. تبدأ من قصبة واحدة. إن وجود القصب اليوم، في تنقية المياه وتلطيف حرّ المدن ونسج الخضرة في بساطها، لهُوَ جزء من نهضة ثقافية أوسع. فباستعادته إلى المشهد، نستعيد معه الحكمة التي وجّهت استخدامه قديمًا. يقول فيل: "أعرف ذلك أكثر من غيري؛ فقد نشأتُ في الأراضي الرطبة بكندا حيث أمضيت طفولتي في اصطياد الضفادع والسلاحف، والتجوال في المستنقعات، والتعلم من منطق الطبيعة الهادئ المتمهّل. ومنذئذ وذلك الإحساس الغريزي لا يبارحني".
لجأت "تيرّا"، بدلًا من إنشاء نظام تقليدي لمعالجة المياه العادمة، إلى مخطط بيئي طبيعي. ففي كل يوم، يمر أكثر من 20 ألف لتر من مياه الصرف الصحي الآتية من المراحيض والمجاري الأرضية عبر شبكة كثيفة من نبات القصب. تحت السطح، تعمل البكتيريا والفطريات على تفكيك الملوثات وتحليلها، فيما يمتص القصب ما تبقى منها ويخزنه. وفي غضون 24 ساعة فقط، تتحول تلك المياه العادمة إلى ماء نظيف يُستخدم لري مشهد طبيعي يستهلك مياهًا أقل بنسبة 75 بالمئة مقارنة بالمسطحات الخضراء التقليدية.
يدرك فيل قيمة هذا الحل الطبيعي لمشكلة عصرية، ويفهم أيضًا الرابط الثقافي بين القصب والأرض. يقول: "منذ أن انتقلتُ إلى الإمارات قبل أكثر من 20 عامًا، لطالما أسَرَني ارتباط الناس بأرضهم، فرغبتُ في أن أغرس هذه الدروس والعِبَر في أطفالي. فلربما لا يقتصر دور القصب على تنقية المياه؛ بل يُذكّرنا بأن حلول مستقبلنا كثيرًا ما تنشأ وتنمو من جذور ماضينا".
وما حكاية الماء تلك سوى فصل واحد من قصة القصب. في كل شتاء، تجتاح حشراتُ المنّ القصبَ بأعداد هائلة، فتمتص عصارته حتى تنحني سيقانه الخضراء تحت وطأة ثقلها. في مشهد حضري تقليدي، قد يثير ذلك الذعرَ.. أو يستدعي استخدام المبيدات. لكن مشهد "تيرّا" الطبيعي أبى أن يلجأ إلى المبيدات، بل آثر بصبر وتأنّ أن تهبّ الطبيعة لنجدته.
فسرعان ما تصل خنافس الدعسوقة المخططة، فتستعيد للمشهد توازنه بصنيعٍ هادئ من وحي الفطرة البيئية. وتتكرر هذه الدورة كل عام وكأنها طقس شعائري موسمي. هذا ليس مجرد تصميم لمشهد طبيعي؛ إنه إشراف بيئي كامل الأوصاف. ولقد توسعت وظيفة أحواض القصب هذه لتصبح موائل للكائنات، وآلية لضبط المناخ، ووسيلة تعليمية. إذْ تُخفِّض حرارة المناخ المحلّي الموقعي (Microclimate) بما يصل إلى خمس درجات مئوية، وتجتذب الطيور واليعاسيب.. وتنسج الحكايات.
فوق أحواض القصب، تنشر أشجار الطاقة الشمسية ظلًّا مرقّشًا يحمي هذا القصب ضد حرّ دبي، فيما يُبرّد القصب هذه الألواح الشمسية فيعزز كفاءتها الطاقية. إنها حلقة تكافلية متكاملـة من التصميـم الهندسي والبيئة.. وقودها الشمس وزادها الماء. وهي أيضًا حلقة جميلة. فامشِ فوق الممر الخشبي المصنوع من الخيزران وسترى أكثر من مجرد خضرة؛ ستُدرك فلسفة تُخاطبك أنْ تَمَهّل وأصغِ ودع الأرض تعلّمك. ومع ذلك، فالأمر ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل هو صحوة جديدة.. نهضة ثقافية.
شهدت دولة الإمارات تطورًا عمرانيًا سريعًا أحدث تغييرات كبيرة في ملامحها الطبيعية، حيث غلب في بعض المراحل استخدام النباتات المستوردة على الأنواع المحلية. ومع مرور الوقت، أفسح هذا التحوّل المجال للتأمل وإعادة الاهتمام بالطبيعة المحلية. واليوم، تتجه الدولة نحو تعميق ارتباطها مع بيئتها الطبيعية، في رحلة بدأت ملامحها بالظهور خلال إكسبو دبي 2020، وتواصل تطوّرها في تيرّا.
إن هذا القصب المتواضع الذي تركه الأجداد لنا يُذكّرنا اليوم بما كان وما هو كائن وما يمكن أن يصير. إنه تصميم وذاكرة ومستقبل. ربما لا يكون القصب مجرد حل لمعالجة مياه الصرف. بل هو مرآة تعكس لنا مشهد الثقافة وهي تتلاقح وتتناغم مع الطبيعة والتقنية، بلا تنافس أو صراع. فأحيانًا، ليس لك إلا أن تنتظر. فالأرض تحمل في جعبتها الأجوبة، إنْ أنت أتقنت فن الإصغاء لها.. تمامًا كما فعل أسلافنا. -كما رُويَت لحسين الموسوي
هل يمكن استرجاع المعلومات التاريخية الحبيسة في الصفائح الجليدية القطبية قبل أن تذوب بالكامل؟