الموسيقى جسرُ تواصل بين الثقافات ومَعبرٌ للقضايا النبيلة

يجوب عازف آلة "التشيللو" الفذ، "يُو-يُو مَا"، قارات العالم الست بموسيقاه الكلاسيكية، وبرسالته النبيلة الهادفة إلى إذكاء الوعي بمختلِف القضايا البيئية.

الموسيقى جسرُ تواصل بين الثقافات ومَعبرٌ للقضايا النبيلة

يجوب عازف آلة "التشيللو" الفذ، "يُو-يُو مَا"، قارات العالم الست بموسيقاه الكلاسيكية، وبرسالته النبيلة الهادفة إلى إذكاء الوعي بمختلِف القضايا البيئية.

قلم: كلوديا كالب

عدسة: Austin Mann

1 مايو 2021 - تابع لعدد مايو 2021

ذات صبيحة مشمسة من شهر فبراير في كيب تاون، انتظر "روس فريلينك" لدى مدخل منزلٍ خاص ينتصب على منحدر جبل شاهق يطل على "خليج فالس". فريلينك هو أحد مؤسسي "مشروع تغيير البحار"، وهي منظمة بيئية تُعنى بحفظ غابات عشب البحر في المياه الساحلية لجنوب إفريقيا، وقد أتى إلى هنا برفقة مجموعة من الزملاء والموسيقيين للترحيب بِـ "يُو-يُو مَا" في كيب تاون. وتُعد هذه المدينة واحدة من 36 محطة يتوقف بها عازف التشيللو في أثناء جولته عبر القارات الست ضمن "مشروع باخ". وكان التحضير لاستقبال أحد أشهر الموسيقيين في العالم، مثار رهبة وإثارة لديهم؛ إذ قال فريلينك فيما بعد: "شعرنا جميعًا بشيء من الرعب. ولكن التوتر تبدَّد ما إن وصل "يُو-يُو مَا". إذ بدا عازف التشيللو هذا ودودًا بشوشَ الوجه، ودلَّ سلوكه على حنانه وجديته وحبه للاستطلاع؛ وقد "أنار بابتسامته أرجاء الغرفة"، على حد تعبير فريلينك.
داخل ذلك المسكن الصغير المشيَّد من الخشب والحجر، أَطْلَع فريلينك و"كريج فوستر" -شريكه في "مشروع تغيير البحار"- عازفَ التشيللو على حملتهما لحماية ما يُسميانه "غابة البحر الإفريقية الكبرى"، وهي أدغال متأرجحة من عشب البحر العملاق الذي يشبِّهه فريلينك بغابات الأمازون المطرية البِكر، يؤوي مظلات كثيفة من النباتات وأسراب سمك تتقافز مثل الطيور عبر التيارات المائية. وعرض الناشطان على "يُو-يُو مَا" آلات نقر وآلات موسيقية أخرى صنعها أعضاء منظمتهما البيئية من مواد جرفتها المياه على شاطئ ساحل كيب تاون: هزازات مصنوعة من أكياس بيض القرش، وآلة وترية مصنوعة من صَدفة أذن البحر، وطبلة مصنوعة من عظم أذن الحوت الأحدب. كما عرَّفاه إلى المغنية الجنوب إفريقية، "زولاني ماهولا"، التي ساعدت أعضاء المنظمة البيئية في تأليف موسيقى نشيدها.
راح "يُو-يُو مَا" يستمع إلى ماهولا ومجموعة من موسيقيي منظمة "تغيير البحار" والمتعاونين معها عند أدائهم أول عرض لأغنية "روحي البرمائية"، وهي سرد غنائي تدفقت ألحانه من مياه البحر. استحوذ عليه جمالُ الأصوات، التي لم تَأْلَفْها أُذنه، وأَخَذَ لُبَّه بديعُ الأداء. وصف لي كل ذلك لاحقًا بقوله: "قد صنعوا ما لم نتمكن من رؤيته أو الشعور به أو سماعه؛ أداؤهم يجعلنا نرى كل شيء ونسمعه ونلمسه". أوصل هذا العمل الفني صوتَ مشروع "غابة البحر الإفريقية الكبرى" إلى الناس، وجعل من "يُو-يُو مَا" خير نصير له. ثم جاء دور عازف التشيللو هذا. إذ جلس "يُو-يُو مَا" في الهواء الطلق، على سطح منحدر جبلي مزين بقطع خشب عائمة. وفي مشهد رقصت فيه مويجات البحر المزبدة وانتصبت جبال كيب تاون شاهقة في الأفق، عزف الرجلُ إحدى مقطوعات "يوهان سباستيان باخ" من "متتاليات التشيللو المنفرد". أَغْرَت حَضْرةُ المكان المستمعين، وأَسَرَتْهم بَراعةُ عزف "يُو-يُو مَا". وكذلك أثار هذا الموسيقيُّ الإعجابَ بفيض مشاعره وعمق عاطفته.. على نحو يجعل خيط الوتر من شعر ذيل الحصان والخشب المصنوعة منه الآلة، يترنَّمان انتِشاءً.
"يُو-يُو مَا" رجلٌ عمَلي حازم. قبل مغادرة كيب تاون، وافق على أن يصبح راعيًا لـ "مشروع تغيير البحار". وبعد أشهر على ذلك، كتب عن زيارته تلك على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر مقطع فيديو لدعم عمل المشروع. وفي مقابلة أجراها "يُو-يُو مَا"، تحدث عن الحاجة إلى حماية غابة عشب البحر. وفي خريف العام الماضي، دعا عازفَ التشيللو "ماهولا" وموسيقيي "مشروع تغيير البحار" لمصاحبته في حفل موسيقي افتراضي احتفالًا بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس منظمة "الأمم المتحدة". قَدَّم "يُو-يُو مَا" مبعوث الأمم المتحدة للسلام، معزوفة "رُوحِي البرمائية" ضمن ألبومه الموسيقي، جنبًا إلى جنب مع أعمال "أنتونين دفوراك" و"لودفيغ فان بيتهوفن". ومنذ لقاء كيب تاون الودي مع "يُو-يُو مَا"، انتقل "مشروع تغيير البحار" من المستوى المحلي في المناصرة إلى المستوى العالمي. يقول فريلينك: "كان اللقاء بالنسبة إلي لحظةً عشت فيها حالةَ استفاقةٍ بكل معنىً للكلمة، لأن مهمتنا استمالت القلوب والعقول لفائدة المحيطات. يستطرد فريلينك كلامه قائلًا: "كيف السبيل إلى ذلك؟ يكون ذلك بالتواصل مع أشخاص استطاعوا بالفعل أن يجتذبوا بأعمالهم قلوب كثيرين وعقولهم، كما أن لهم ميلًا طبيعيًا إلى أهداف حفظ البيئة ذاتها، وينزعون إلى فعل الخير ويحرصون على أن يكون لهم نصيب فيه". ويضيف قائلًا إن رعاية "يُو-يُو مَا" قدَّمَت الحلقة المفقودة في المشروع؛ "إذ فتحَت أمامه الأبواب على مَصَارِيعها".

في مسيرة "يُو-يُو مَا" الفنية محطاتٌ مذهلة. كان عازفُ التشيللو الطفلَ المعجزةَ الذي عزف في عمر السابعة أمام الرئيس "جون إف. كيندي"، وسجل منذئذ أزيد من 100 ألبوم، كما أنه نال "جائزة غرامي" 18 مرة، وعزف أمام تسعة رؤساء للولايات المتحدة عبر تاريخه الموسيقي. ومع ذلك، لا يزال هذا الرجل -وهو في الخامسة والستين من العمر- يعمل بنكران ذات وبلا كلل؛ شِيمَتُه التفاؤل والتفكير بما هو أفضل. إنه إنسان يتقاسم موسيقاه مع الناس والعالم بوصفها وسيلة للتواصل.
يرى "يُو-يُو مَا" أن الثقافة -والتي يعرفها بأنها الفضاء الواسع الذي تلتقي فيه الفنون العلومَ والمجتمع- يمكن أن تساعد في تهدئة الخلافات وتقوية الروابط المجتمعية وتعزيز العدالة الاجتماعية وحماية الكوكب. ففي عام 2018، أطلق هذا الفنان "مشروع باخ"، وهو سفر طموح تُستخدم فيه الثقافة جسرًا للتواصل مع المجتمعات وللتحاور وإبراز جهود فعل الخير.
وحتى الآن، شملت جولة "يُو-يُو مَا" 28 بلدًا من أصل 36؛ في أماكن بعيدة مثل مومباي في الهند ومدينة مكسيكو في المكسيك ودكار في السنغال وكريستشيرش في نيوزيلندا. ويرتكز المشروع على معزوفات للفنان باخ بآلة التشيللو، يعزفها "يُو-يُو مَا" من دون نوتة في حفلات تستمر أكثر من ساعتين بلا انقطاع. ويتخلل برنامج عروض الجولة الموسيقية "أيام عمل"، يساعد من خلالها هذا الرجلُ في زيادة الوعي بقضايا ذات أهمية محلية وعالمية، وذلك في إطار لقاءات مع قادة المجتمع والمواطنين والفنانين والطلبة والناشطين. وعلى سبيل المثال، في شيكاغو، تصدى "يُو-يُو مَا" لقضية العنف المسلح من خلال المشاركة في مشروع غرس الأشجار باستخدام مجارف مصنوعة من أسلحةٍ مُتبَرَّعٍ بها. وفي كوريا، زار مدرسة ابتدائية في المنطقة منزوعة السلاح رفقة صانع طيارات ورقية؛ ما منح الطلاب وأهالي القرية والمعلمين فرصة لتزيين الطائرات الورقية بتطلعاتهم للمستقبل. وفي كل حدث ومناسبة، لا تتغير مَهمة "يُو-يُو مَا"، المتمثلة في الاستماع والاكتشاف والعمل مع الآخرين لبناء مستقبلٍ أفضل.

وُلد "يُو-يُو مَا" في باريس لأبوين صينيين، وبدأ يعزف على التشيللو في سن الرابعة (وكان في البداية يجلس على ثلاثة كتب كبيرة، لأن الكراسي جميعها كانت مرتفعة). أمضى طفولته المبكرة في فرنسا قبل أن تهاجر عائلته إلى مدينة نيويورك في العام الذي بلغ فيه السابعة من العمر. وإن كان هذا المزيج من التأثيرات الثقافية -الصينية والفرنسية والأميركية- قد أشعره بالحيرة، إلا أنه أكسبه فضولًا مبكرًا وحماسيًا تجاه العالم. انطلقت مسيرة "يُو-يُو مَا" المهنية وهو لا يزال مراهقًا، إذ أدى أول عزف منفرد له في "قاعة كارنيجي" في مايو 1971 وهو في سن الخامسة عشرة، تَلَتْهُ عروضٌ نالت تقديرًا من النقاد، الذين استحسنوا فيها الأداء "المثير" و"المذهل" و"الممتاز". ولكن بَدَلًا من أن يواصل دراستَه في "معهد جوليارد العالمي للموسيقى" بنيويورك -وهو اختيارٌ بديهي لعازف موهوبٍ من طينته- التحق بِـ "جامعة هارفارد". وهناك اكتشف شغفًا بالأنثروبولوجيا واختلط مع زملائه في الفصل من ثقافات ومشارب مختلفة. واليوم يصف "يُو-يُو مَا" اختياره ذاك بأنه "كان اختيارًا مناسبًا تمامًا في تلك المحطة بالنسبة إلى عازف شاب واعد يحاول شق طريقه في العالم".
حَدَّدت تلك التقاطعات الثقافية رؤية "يُو-يُو مَا" إلى الموسيقى بوصفها تجربة مشتركة تمنحه إمكانية الوصول إلى المعرفة. ولديه نهم دائم للحصول على المعرفة؛ ويتجلى هذا بوضوح في الطريقة التي يتوقف بها ويتحدث إلى الناس حين يستوقفوه خلال الحفلات الموسيقية، فيطرح أسئلة على الجميع، وفي كل مرة يضطر مرافقوه لتذكيره بلطف بأن عليهم متابعة السير. يتوق صاحبنا لمعرفة وجهات نظر محبيه. وعندما كان في أواخر الثلاثينات من عمره، سافر إلى القارة الإفريقية لدراسة التقاليد الموسيقية لشعب "بوشمان" في صحراء كالاهاري؛ وهنالك تَجَلَّت له حقيقةٌ أساسية عن الموسيقى، وهي أنها جزء لا يتجزأ منَّا، وشيء حيٌّ يمكن أن يتطور في أي مكان وفي أي وقت. ويُعدّ العمل التشاركي القائم على التعاون، سِمَة "يُو-يُو مَا" الأبرز. فقد أطلق ألبومًا ناجحًا للغاية بعنوان (Hush) بالتعاون مع المطرب "بوبي ماك فيرين" في مطلعَ تسعينيات القرن الماضي. كما أنه أطلق مشروع "طريق الحرير" في عام 2000، جمع فيه عشرات الموسيقيين من مختلِف الجنسيات، بمن فيهم "كريستينا باتو"، عازفة مزمار القِربة. وذاتَ مساء في "جامعة نيويورك"، استمعتُ إليه وباتو يعزفان للموسيقار "باخ" مقطوعةً رائعة، في دمج نادر ولكن ضروري بين آلتين مختلفتين. وفي عام 2020، أطلق "يُو-يُو مَا" ألبومًا جديدًا عنوانه (Not Our First Goat Rodeo)، بالتعاون مع مجموعة من الموسيقيين الأميركيين.
يُشبِّه "يُو-يُو مَا" هذا الشكل من تحالف الثقافات بـ "تأثير الحافة" في علم البيئة، والذي يَحدث عند التقاء حدود مَوئلين طبيعيين مختلفين، مثل التقاء الغابة بالسافانا، حيث تزدهر أنواع بيولوجية محدَّدة. وفي عالم "يُو-يُو مَا" الخاص، يزدهر عند الحواف الإبداعُ.. وهذا ما يسعى "مشروع باخ" إلى إبرازه.  

استكشاف

امرأة مصممة

امرأة مصممة

تضطلع "سابرينا تومسون" بمَهمة تمكين المرأة، بدءًا من تصميم بذلة طيران تناسب النساء.

نفوق الجرذ "ماغاوا" بعد إنقاذه أرواح كثيرين في كمبوديا

استكشاف نبوغ

نفوق الجرذ "ماغاوا" بطل الكشف عن الألغام

كان في استطاعة "ماغاوا" أن يمسح منطقة بحجم ملعب كرة مضرب في 30 دقيقة فقط، وهو أمر قد يستغرق أربعة أيام في حال استخدام جهاز الكشف عن المعادن التقليدي.

الموسيقى جسرُ تواصل بين الثقافات ومَعبرٌ للقضايا النبيلة

استكشاف نبوغ

الموسيقى جسرُ تواصل بين الثقافات ومَعبرٌ للقضايا النبيلة

يجوب عازف آلة "التشيللو" الفذ، "يُو-يُو مَا"، قارات العالم الست بموسيقاه الكلاسيكية، وبرسالته النبيلة الهادفة إلى إذكاء الوعي بمختلِف القضايا البيئية.