مع ارتفاع الطلب على سم العقارب بفعل خصائصه الطبية، انطلق سباق محموم في صحاري مصر سعيًا وراء ثراء موعود. فهل ثمة فعلًا من يُكمل السباق؟
كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساءً في يوم من شهر أكتوبر 2020، عندما التقينا "كمال زوام"، وهو رجل أسمر السحنة ذو ملامح منحوتة على شاكلة المصريين القدماء الذين تزين صورُهم جدرانَ المعابد الفرعونية.
ينتظر هذا الرجل الأربعيني حلول فصل الصيف ليمارس مهنته الثانوية العزيزة على قلبه، وهي صيد العقارب السامة في محافظة "الوادي الجديد" بالصحراء الغربية المصرية. يخرج زوام في كل ليلة صيفية بحثًا عن تلك الكائنات من أجل الحصول على أقل من 10 دولارات يوميًا؛ إذ يصطاد 100 عقرب في المتوسط ليبيع الواحد منها بنحو 1.5 جنيه مصري (10 سنتات أميركية). ويساعده هذا المبلغ -على قلته- في توفير مصاريفه اليومية وكسر رتابة مهنته الأساسية، مزارعًا خلال النهار. يتحدث صاحبنا عن العقارب بحب شديد؛ فهو يعرف أماكن وجودها كمن يعرف كفّيه. ينتظر خروجها ليلًا كي يمسك بها بملقاط صغير، ويحرص دائمًا على ألا يصيبها أذى. يُعامِل كلَّ عقرب معاملةَ الصديق الحميم؛ كيف لا وهو يدرّ عليه رزقًا يخفف عنه جزءًا من أزمات الحياة. يمنحُه الطمأنينةَ.. ليمنحه المال. يسمى العقرب علميًا (Scorpiones) وينتمي إلى طائفة العنكبيات (Arachnids)، التي تشمل أيضا العث والقراد والعناكب. ومن الشائع أنه كائن صحراوي، لكنه يعيش أيضا في مناطق جغرافية متنوعة بجميع قارات العالم ما عدا "أنتاركتيكا". والعقرب ليلي النشاط بالأساس، ويتراوح حجمه ما بين 6.35 سنتيمتر و 21 سنتيمترًا؛ ويعيش حياة تدوم من ثلاثة أعوام إلى ثمانية. وقد وُجد على الأرض منذ مئات الملايين من السنين، وعاصر الديناصورات فنجح في معركة البقاء ضمن أصعب اختبار تعرض له كوكبنا، بفضل قدرته الفائقة على التأقلم مع أقسى البيئات مهما كانت درجات حرارتها. لا يحتاج العقرب إلى الغذاء في كل يوم، بل إن بعض أنواعه التي تعيش في الموائل القاحلة قد تبقى بلا أكل وشرب مدة تصل إلى عام كامل. وفي الغالب، يصطاد العقرب وجبةً في كل أسبوعين أو ثلاثة على الأقل، وله قائمة غذاء متنوعة للغاية، رغم أنه يقتات على الحشرات أساسًا؛ وهي ميزة أخرى تفسر قدرته المدهشة على الصمود والبقاء. ولكن للعقرب نقاط ضعف، من بينها حساسيته المفرطة لأشعة الشمس، وحاجته إلى تربة رخوة بوصفه من الكائنات الحفّارة، وكذا تعدد مفترساتِه وتوفر بعضها على مناعة ضد سمه.
وحسب "ويلسون لورينسو"، خبير العقارب لدى "المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي" بباريس، فإن عدد أنواع العقارب المكتشَفة حاليًا يناهز الـ 2200 نوع؛ بعد أن ظل في حدود 250 نوعًا عند نهاية القرن التاسع عشر. ويعود سبب ذلك إلى تنامي الاهتمام بهذه الكائنات عالميًا، وتطور تقنيات البحث العلمي لكشف أسرار "قاتل البشر" هذا الذي يتوارى في الأرض بأعداد لا تُحصى. ويقول ويلسون إن عدد الأنواع التي لها سم قوي بما يكفي لقتل إنسان، لا يتعدى ثلاثين إلى أربعين نوعًا.
على أن للعقرب فائدة مهمة على البيئة، إذ يُسهم في توازن السلسلة الغذائية بكبحه الارتفاعَ المفرط في أعداد الحشرات. أما منافع سمّه.. فتلك قصة أخرى. يكتفي زوام وغيره من صيادي العقارب بتلك الجنيهات ويفرحون بكسبها؛ وهم ربما لا يدركون أن صيدَهم ذاك كنزٌ ثمين يمكن أن يدر على آخرين أموالًا طائلة بفضل ذلك السائل النفيس الذي يخرج من زُبانى (شوكة) العقرب. في 16 مايو 2007، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية تقريرًا عنوانُه: "إن كنت تظن أن سعر البنزين مرتفع، فانظر إلى سم العقرب". وذكرت هذه الصحيفة الاقتصادية ذائعة الصيت الارتفاع المطرد لسعر هذا السم، الذي صار يُعرف باسم "الذهب السائل"، إذ يتربع منفردًا على هرم أغلى السوائل في العالم وأندرها على الإطلاق. فربما ستتفاجأ إن عَلمتَ أن سعر قُطيرة واحدة لا يتعدى حجمها حجم حُبيبة سكر يصل إلى 130 دولارًا، وسعر الغالون الواحد (3.8 لتر) 39 مليون دولار!
إن الحصول على شهادة نقاء السم أمر عسير. أما الحصول على زبائن لشرائه -مثل شركات الأبحاث والأدوية العالمية- فأصعب بكثير.
فما سر غلاء سم العقرب؟
قبل آلاف السنين من شروع زوام في البحث عن العقارب تحت جنح ظلام الصحراء الموحش، كان سم هذه الهوام يُستَخدم في الطب التقليدي بأماكن متفرقة من العالم، كالصين والهند وإفريقيا. وفي عصرنا الحديث، مازال العلماء يعكفون في مختبراتهم منذ أعوام على سبر أغوار "الذهب السائل" وفوائده المحتملة في كشف الأمراض واتقائها وعلاجها؛ بعدما نجحوا منذ زمن في تحويله إلى أمصال مضادة للسعات العقارب. وقد حصروا حتى الآن جملةً من المنافع الصحية الواعدة لبعض مكونات هذا السم، من بينها -مثالًا لا حصرًا- تسكين الآلام؛ والكشف الدقيق عن الخلايا السرطانية وتحديد حجمها؛ وعلاج بعض أمراض التهاب المفاصل؛ وعلاج الملاريا؛ وصنع الأدوية المثبطة للمناعة، والتي تساعد الجسم البشري على قبول الأعضاء المزروعة.
وما زالت الأبحاث جارية على قدم وساق لاكتناه أسرار سم العقرب، ويحذو العلماءَ أملٌ كبير في استخلاص أدوية منه ستكون لا محالة حاسمة في علاج كثير من الأمراض المستعصية التي تعانيها فئة كبيرة من البشر. وإذْ تنامت حاجة المختبرات الطبية إلى إمدادات متواصلة من سم العقرب، انطلق سباق محموم لاستخراجه من قِبَل شبان في شتى بقاع العالم، كمصر والمغرب وباكستان وإيران وأفغانستان والعراق، حيث تنتشر هذه الكائنات بأعداد هائلة ويَسهل العثور عليها وصيدها. وكذلك تحركت وكالات الأنباء العالمية ومصوروها إلى تلك الأماكن لإنجاز قصص مصوَّرة عن هؤلاء الطامحين الساعين وراء الثراء؛ مما أجج طموح مزيد من الشباب لممارسة "مهنة" استخراج "الذهب السائل" من العقرب.
ومن بين هؤلاء، ثمة رجل مصري قرر دخول هذا المجال من باب مشروع رائد لا يخلو من مغامرة وغرابة.. ورعب. حطّت بنا الطائرة في مطار مدينة الخارجة -عاصمة محافظة الوادي الجديد- حيث كان بانتظارنا "أحمد أبو السعود"، وهو رجلٌ أربعيني أنشأ مزرعة لتربية العقارب طلبًا لسُمّها في قرية "غرب الموهوب" بضواحي مدينة الداخلة. ظل صاحبنا -الذي تفيض عيناه طموحا- يحدثنا بشغف عن مشروعه الحالم هذا خلال التسعين دقيقة التي استغرقتها رحلتنا بالسيارة إلى الداخلة، حيث يوجد الفندق الذي أقمنا به. سألتُ أبو السعود: "هل بإمكاننا خوض رحلة لصيد العقارب اليوم؟". أجاب: "بالطبع يمكننا ذلك عندما يسدل الليل خيوطه فتصبح المهمة سهلة".
قصدنا "غرب الموهوب" في الموعد المتفق عليه، حيث حضر أبو السعود ومعه "عماد سبع"، شريكه في مزرعة العقارب، ليُعلنا بدءَ الرحلة. كانت الساعة تشير إلى السابعة مساءً والحرارة 32 درجة مئوية. كان ذلك في منتصف أكتوبر، أي قُبَيل أفول موسم صيد العقارب، التي تدخل سباتًا شتويًا لا تخرج منه إلا خلال شهر مايو. ترجّلنا من السيارة بعيدًا عن المزرعة بنحو 200 متر، لننطلق في الرحلة. هنالك وجدنا بانتظارنا صياد العقارب، كمال زوام، الذي باغته سبعٌ بسؤال: "هل سنجد أخوات هنا"، قاصدًا بذلك العقارب. بابتسامة تلقائية تفيض ثقة، أجاب زوام بلهجة محلية: "أكيد هنلاقي. موجودين في كل مكان".
تألفَت عُدّة الصيد من كشافات إضاءة تعكس الأشعة فوق البنفسجية وملاقطَ وصندوقًا بلاستيكيا. كان الظلام دامسًا ولم يقطعه سوى نور الكشافات. سبَقنا زوام بخطوات ممسكًا كشّافه وهو يسير كمن يهتدي ببوصلة، وملامح وجهه تشير إلى أنه لا محالة سيظفر بصيد وفير. كنَّا كَمَن يسير نحو المجهول. كلما دبَّت أقدامنا على الرمال، تمَلَّكَنا الخوفُ. وفي حمأة الهلع، قطع زوام مخاوفنا هاتفًا بصوت أجش: "هِنا.. بسرعة". هنالك رأينا كائنا فسفوريًا يضيء بشكل خلاب كأنه حجر زمرد. فلقد وجدنا ضالتنا: إنه عقرب.
تحرك زوام برشاقة الساحر والتقطه من الأرض ثم أمسك بــه عـــلى مستــوى الذَّنَب مستـــخدمًا الملقـــاط، فوضــعه في صنـــدوق بلاستيـكي. إنه عقــرب "فلسطـين الأصـــفر" (Leiurus quinquestriatus)، ويناهز طوله السبعة سنتيمترات. خلال 45 دقيقة، اصطاد زوام ورفيقَيه 20 عقربًا. كانوا ينتقون الكبيرة ويتركون الصغيرة في الصحراء؛ ذلك أن الأولى هي الأنسب للاستحلاب، أما الثانية فلديها أشهر ليشتد عودها وتصبح جاهزة للمَهمة. عُدنا من رحلة الصيد إلى المزرعة، حيث تناول أبو السعود ملقاطًا وراح يضع ضيوفَه الجدد واحدًا تلو واحد في "البيوت" البلاستيكية داخل مستودع لا تزيد مساحته على 100 متر مربع ويؤوي نحو 20 ألف من العقارب الأسيرة. يتراوح عددها في كل صندوق ما بين خمسة عقارب وسبعة من النوع نفسه والحجم نفسه تقريبًا؛ وههنا تنتظر دورها لتجود بسمّها على مربِّيها. عندما دخلنا المستودع أول مرة، انتابتنا حالة من التوتر وتملكّنا هاجس أن تنتفض العقارب وتخرج من الصناديق لتهاجمنا. أما العاملون داخل المزرعة فلا يرون فيها سوى الثروة الموعودة.
مَدَّ أبو السعود يده فسحب أحد الصناديق ليتحقق من ملصق دُوِّنَ عليه تاريخ آخر استحلاب للعقارب الموجودة بداخله؛ إذ لا يمكن إجراء هذه العملية للعقرب قبل انقضاء أسبوعين على آخر مرة استُخرج فيها سمه. التقط أبو السعود عقربًا سمينًا يبلغ طوله نحو 8 سنتيمترات بملقاط خاص، مرتديًا قفازًا بيده اليسرى ومُحكمًا السيطرة عليه؛ وبعدها غمس فرشاة بيده اليمنى في محلول ملحي خاص ليمررها على ذنَب العقرب. أما الخطوة التالية فكانت تعريضه لتيار كهربائي خفيف لتحفيزه على إفراز السم. هنالك ضغط أبو السعود على آخر حويصلتين (فقرتين) في طرف الذنب، فسقطت قطيرة واحدة شفافة داخل أنبوب صغير، ناوله أبو السعود إلى صديقه الذي أحكم إغلاقه وأودَعه على وجه السرعة في مبرّد تبلغ حرارته 20 درجة مئوية دون الصفر.
وما زالت عملية استحلاب العقارب تُجرى يدويًا لكل عقرب على حدة؛ ما يتطلب وقتًا طويلًا وجهدًا مضنيًا. على أنه في يوليو 2017، اخترع باحثون لدى "جامعة الحسن الثاني" بالمغرب أول روبوت في العالم لاستحلاب سم العقارب من بُعد. وصار بمقدور هذا الجهاز المحمول استخراج السم، بأمان وسرعة، من أربعة عقارب دُفعةً واحدة ومن دون تدخل بشري مباشر. ويتطلع العلماء والباحثون إلى اليوم الذي سيحصل فيه هذا الاختراع على كل التراخيص اللازمة ليصبح متاحًا على نحو تجاري.
وبعيدًا عن صحاري الوادي الجديد، كان عشرات الشبان الطامحين مصطفِّينَ في طوابير لدى "حي المهندسين" بوسط القاهرة. فلقد جاؤوا إلى مقر شركة "فاكسيرا" المصرية المتخصصة في المستحضرات الحيوية واللقاحات، حاملين حصادهم من سم العقارب لعلّهم ينالون شهادة نقائه.
بدا "أيمن مسعود" منهكًا وهو يحمل عبوة بلاستيكية صغيرة تحوي قطرات قليلة من سم أمضى في جمعه أكثر من عام ونصف العام وأنفق آلاف الجنيهات في شراء العقارب من الصيادين. ويقول هذا الشاب المصري الثلاثيني إنه يأمل هذه المرة أن تمنحه الشركة شهادة نقاء السم، بعد أن باءت محاولاته الأربع السابقة بالفشل. في بادئ الأمر اعتقد مسعود أن العناء الوحيد في استخراج سم العقرب يكمن في الطريقة نفسها، لكن رويدًا رويدا اتضحت له تفاصيل الصورة؛ فالحصول على شهادة نقاء السم أمر عسير، أما الحصول على زبائن لشرائه -مثل شركات الأبحاث والأدوية العالمية- فأصعب بكثير.
"لا أحد ممن أعرف حقق مكاسب فعلية من تجارة سم العقرب؛ فقط محاولات لم تؤت أكلها"
الدكتورة "ولاء حسين سلامة"، من قسم البيولوجيا الجزيئية لدى "المركز القومي للبحوث" في القاهرة
ذلك أن للقصة وجهًا آخر؛ إذ تصف الدكتورة "ولاء حسين سلامة"، من قسم البيولوجيا الجزيئية لدى "المركز القومي للبحوث" في القاهرة، هذا التهافت على استحلاب سم العقرب بـ "الوهم". وذاع السعي وراء هذه المادة في مصر ودول الشرق الأوسط ووسط آسيا منذ ستة أعوام بسبب انتشار شركات صغيرة أسسها شبان ليسوا متخصصين في غالبيتهم، بل يسعون وراء ثروة اشتد إغراؤها بفعل عشرات التقارير المنشورة حول السعر الخيالي لهذا السم. "لا أحد ممن أعرف حقق مكاسب فعلية من تجارة سم العقرب؛ فقط محاولات لم تؤت أكلها"، هكذا لخصت سلامة عشرات التجارب الفاشلة في هذا النشاط. وتستطرد قائلة: "ما زاد الطين بلة هي الدعاية لهذه المشروعات عبر الإعلام المحلي والإقليمي بعناوين براقة مثل: شبان يجنون الملايين من سم العقرب". تقول سلامة إن الرهان على هذه التجارة في تلك البلدان سهل للغاية، بسبب انتشار العقارب وتوفر الصيادين، وكذا لغياب قوانين أو قواعد منظمة لإنشاء شركات لتربية العقارب؛ ما يجعل هذا النشاط خارج نطاق القانون ويفتح مجالًا واسعًا للسعي وراء "السراب". يبدأ الفشل من عمل غير المتخصصين في استحلاب العقارب؛ إذ يُخفق هؤلاء الهواة في إنتاج درجة النقاء المطلوبة. والسبب بسيط، حسب سلامة، إذ توضح أن أشهر أخطاء الاستحلاب هو عجز جل الشبان عن التمييز بين الأنواع المختلفة من العقارب؛ فكل عقرب أصفر اللون بالنسبة إليهم ينتمي إلى نوع واحد. والحال أن تحديد الفروقات بين العقارب يتطلب خبرة لا تقل عن 10 أعوام من العمل بهذا المجال المعقد. أما خلط سم نوعين من العقارب فيقود مباشرة إلى "فساد" هذا السم ليصبح غير قابل للاستخدام، كما تقول سلامة. والشركات الكبرى لا تستثمر ملايين الدولارات هباءً لإنشاء خط إنتاج السموم؛ فهي تحتاج إلى خبراء قادرين على تصنيف أنواع العقارب بدقة متناهية، وإلى مستثمرين كبار وموثوقين في عملية تجميع السم.
فتلك القُطيرة التي نراها تخرج من زبانى العقرب لا تعني تحقيق المبتغى، بل ينبغي تحصيل جرام واحد؛ ما يتطلب استحلابَ 2000 عقرب إلى 2500 على الأقل، ويستغرق وقتًا طويلًا بالنسبة إلى شركات صغيرة يعمل بها خمسة أشخاص أو عشرة على الأكثر. وهم في الغالب شبان غير محترفين و"قليلو الصبر"، على حد تعبير سلامة؛ إذ عادة ما يستحلبون سم العقرب أكثر من مرة في الأسبوع، فيحصلون في النهاية على "سم غير نقي" لا ثمن له. ومعلومٌ أن ذلك الاستحلاب المتكرر يُفقد السمَّ محتواه المهم من البروتينيات، ويجعله غير صالح للاستخدام في التجارب العلمية. وثمة حجر عثرة آخر يتمثل في أسلوب التخزين الذي يحتاج إلى إمكانيات تقنية كبيرة وخبرات خاصة من أجل تجفيف السم وتحويله إلى مسحوق وفق شروط دقيقة للغاية. والحال أن هؤلاء الهواة يخزنونه في حالته السائلة مدة طويلة؛ مما يَحدّ من نجاعته.
أمضينا ستة أشهر ما بين القاهرة ومحافظة الوادي الجديد وتحدثنا إلى أكثر من شخص يعمل في مجال استخراج سم العقرب، من دون الحصول على إجابة واضحة عن السؤال الرئيس: أين الربح من هذه التجارة؟ وفي سبيل ذلك، سألنا مراكز أبحاث وشركات أدوية تشتغل على السموم بأوروبا وأميركا عن كيفية حصولها على سم العقرب، فكانت إجابتها واحدة: "إنها الشركات المعتمدة لدينا لتوريد السموم". أما أصحاب الشركات المحلية الصغيرة في مصر فكانوا يَدّعون أن المشروع مربح وأنهم يصدرون السمَّ إلى الخارج. لكن عند طلبنا أي مستند يُثبت عمليات التصدير تلك، كانوا يتهربون من الإجابة، قائلينَ إنها "أسرار عمل".
في مستودع العقارب لدى مزرعة أبو السعود، أثار انتباهنا زوج عقارب منفرد داخل صندوق بلاستيكي. كان هذان العقربان يبدوان للوهلة الأولى وكأنهما يستعدان لخوض معركة طاحنة. لكن تقديري كان خاطئا؛ لم يكن ذلك عراكًا، بل رقصًا بين ذكر وأنثى. سألتُ أبو السعود: "هل ترقص العقارب؟". أجاب: "نعم إنها رقصة التزاوج". وقفنا مشدوهين وأبصارنا شاخصة نحو الحبيبين وهما يتبادلان الغزل غير مكترثين لوجودنا. كان الأمر أشبه برقصة "تانغو" احترافية.
ففي مستهل عملية التزاوج، يقدم الذكر نفسه كراقص ماهر ويتفنن في ذلك لنيل إعجاب الأنثى؛ على أنه قد يكون خاسرًا، سواءً أقبلته الأنثى أم رفضته. ويطلق العلماء على رقصة التزاوج هذه عبارة "رقصة الموت"؛ فقد يدفع الذكر خلالها ثمنًا باهظًا: حياته. تتكرر الرقصة مرارًا وتكرارًا قبل أن يشرع الذكر في البحث عن مكان مناسب لتلقيح الأنثى، فيجذب محبوبته إليه ويقذف السائل المنوي لتبدأ الأنثى في التقاطه عبر فتحتها التناسلية. ههنا قد يصبح الذكر منهكًا أمام أنثى شرسة تبحث عن طعام لمواجهة متاعب الحمل؛ فيكون رفيقها "الراقص" فريستَها المناسبة، إذ تلسعه لسعة قاتلة وتبدأ في التهامه. لكن ثمة إناث أرحم لدى بعض الأنواع، إذ تترك الذكر يغادر المكان بعد إتمام مهمته؛ لكن عليه أن يكون حكيمًا وسريعًا لاتخاذ قراره المصيري: إما الفرار أو الهلاك. لا تنتهي أسرار التزاوج عند هذا الحد؛ فمراقبة عقارب في صناديق المزارع ومراكز الأبحاث لا يمكن تعميمها على أكثر من ألفي نوع لم يدرس الباحثون سوى 60 منها فقط.
في طفولتنا بالريف المصري، كانت جداتنا تتحدث دائمًا عن السيدة المتسلطة اللعوب وتنعتها بـ "العقربة" التي تهيمن على الرجل وتسلبه كل ماله ثم تتركه ليموت بحسرته. تلك قصة سمعتها كثيرًا؛ فيبدو أن الأجداد كانوا يعرفون كثيرًا عن حياة العقرب، وربما كتب المصريون القدماء قبل آلاف السنين عن "رقصة الموت" على جدران قبور ومعابد لم تُكتشف بعد. بعيدًا عن طوابير الشبان لدى شركة "فاكسيرا"، الذين يعود جلهم بـ"خفي حنين"، فإن أبو السعود يجيب صراحة أنه مازال في المرحلة الأولى من رحلة إنتاج سم العقرب وبيعه. فهو يدرك أن المهمة شاقة وتحتاج إلى استثمارات ضخمة وإلى المرور بعملية بيروقراطية معقدة للحصول على التصريحات، وصولًا إلى زبون في أوروبا يقنعه بجودة ما لديه من سم.
ربما ينجح أبو السعود يومًا ما بعد رحلة شاقة في تحقيق هدفه بتصدير جرامات "الذهب السائل"، ولكن العملية ليست سهلة كما تُظهرها كاميرات المصورين المحترفين؛ فلو كان الأمر كذلك، لكانت صحراء إفريقيا الكبرى كنزًا ولتحولت مواطن العقارب إلى زمرة الدول الغنية في بضعة أعوام. وعَدَنا أبو السعود بلقاء في خريف آخر، ربما يكون حينها قد نجح في السير خطوة جديدة إلى الأمام في مشروعه الصعب. ولكنه مشروع ليس بالمستحيل.. على كل حال.
شددنا الرحال عائدين من واحات الصحراء الغربية إلى القاهرة في رحلة بالسيارة استغرقت 10 ساعات. هنالك جنّ الليل على الفيافي ولم يبدد ظلمتَه إلا بدرٌ أنار سبيلنا. شعرتُ بأن العقارب ترافقنا وربما ترقص آخر رقصات التزاوج قبل دخولها البيات الشتوي الطويل.
حصريًا لمجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية – لمحة سريعة عن تحقيق سيصدر قريبًا عن النمر العربي، حيث سيلتقي القراء بهذه القطط الكبيرة النادرة والبرية، بجانب من يعملون بجد لإعادة إحيائها في المنطقة،...
يستحضر الصحافي "بول سالوبيك"، الذي يواصل سرد القصص عن مسيرته عبر العالم، الرحلة المروعة التي خاضها "الجيش الأحمر" الصيني قبل 90 عامًا؛ كما يلاقي القوى التي تعيد تشكيل الصين الحالية.
تُعرَف بنفورها من الماء، على أنها ظلت فردًا من طواقم السفن منذ بزوغ تاريخ الإبحار.