:عدسة زياد بن رمضان
2 سبتمبر 2017
يُمثِّل لهم نور الشمس رعباً حقيقياً، فلا يُغادرون سجنهم الاضطراري الدامس إلا بعد الغروب. يُعدُّ الليل فرصتهم الوحيدة لتلمُّس شوارع وأزقة مدنهم وقراهم، ذلك أن جلودهم رفضت مصافحة الشمس فاختارتهم ضحايا تقترن حياتهم بمدى هروبهم منها؛ كلما تفادوها ازداد رصيدهم من دقائق الحياة. إنهم "أطفال القمر" الذين يصارعهم النهار ويهادنهم الليل، ويعيشون بيننا من دون أن نراهم، ويرحلون في صمت من دون أن نعرف عنهم.. إلا أقل القليل.
يُعدُّ مصطلح "أطفال القمر" تعبيراً جميلاً ومُلطّفاً لمرض خبيث يدعى "جفاف الجلد المصطبغ" (Xeroderma Pigmentosum) والذي يعرف اختصاراً بـ(XP)؛ وهو مرض وراثي نادر اكتشفه لأول مرة عام 1870 "موريتز كابوسي" -وهو طبيب عاش في مدينة فيينا- بعدما تنبّه إلى ظهور بقع لونية، أشبه بالنمش، على جلود أطفال تعرضوا إلى أشعة الشمس، قبل أن تتطور هذه البقع خلال سنوات قليلة إلى تقرحات قاتلة.
يقول الدكتور محمد الزغل، الطبيب المتخصص بالأمراض الجلدية ورئيس "جمعية أطفال القمر" بتونس: "إن طفل القمر يولد بصحة جيدة من دون أي علامة إصابة، لكن لدى تعرضه للأشعة فوق البنفسجية المتأتية من الشمس أو من أنابيب الإضاءة الفلورية يحمرُّ وجهه، ويستمر هذا الإحمرار ما بين 4 و 5 أيام، ويكون مصحوبا بتسلُّخات جلدية. ثم تبدأ بقعٌ بيضاء وأخرى بنية في الظهور، ومع مرور الأشهر تتطور هذه البقع إلى سرطان جلدي". ولدى بلوغ هذه المرحلة، يتابع الدكتور الزغل "لا مجال لإيقاف التطور السريع للمرض إلا بالعيش في فضاء خالٍ من الأشعة فوق البنفسجية، والوقاية منها عبر ارتداء ملابس كاسية وأقنعة ونظارات واقية إضافة إلى استعمال مراهم جلدية على كامل الجسد".
تضم منطقة المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب) أكبر تجمع في العالم لمرضى "جفاف الجلد المصطبغ". إذ تُرَجِّح تقديرات أولية -نظراً لغياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة- وجود أكثر من 3000 إصابة بهذا المرض تمثل نصف الحالات العالمية، وهي نسبة جد مرتفعة ويترتب عليها تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة. ومن بين هذه الحالات تستحوذ تونس وحدها على زهاء ألف إصابة تتركز جغرافياً في مناطق الجنوب والشمال الغربي. ويُعيد الدكتور الزغل هذه الأرقام المفزعة إلى النسبة المرتفعة لزواج الأقارب في هذه المناطق والتي تتعدى الـ 32 بالمئة، إضافة إلى نقص الوعي المجتمعي بهذا المرض.
وقد أوردت "هيفا فاسيهي" -وهي باحثة في معهد "سانت جون" للأمراض الجلدية ببريطانيا- عبر دراسة أجرتها في عام 2012 ونشرتها على موقع "الجمعية الملكية للكيمياء"، بعض الإحصاءات الدولية حول معدلات الإصابة بهذا المرض. وأشارت الباحثة إلى أن معدل الانتشار في الولايات المتحدة يبلغ إصابة واحدة من بين كل 250 ألف نسمة، وفي اليابان بلغ المعدل إصابة واحدة من بين 80 ألفاً. أما في تونس فوصل المعدل إلى إصابة واحدة من بين 10 آلاف نسمة، وضرب المعدل في المناطق الجنوبية والشمالية الغربية لهذا البلد العربي رقماً قياسياً عالمياً إذ سجّل إصابة واحدة من بين كل 100 نسمة.
تنتج الأعراض المرضية لـ"جفاف الجلد المصطبغ" جراء فقدان "الحمض النووي الوراثي" لخاصية معالجة الطفرات الناتجة عن اختراق الأشعة فوق البنفسجية للجلد، نتيجة غياب أنزيمي "بوليميراز 1 و 3". وتزداد حظوظ الإصابة لدى المواليد من والدين يحملان مورثة المرض، إذ ترتفع إمكانية الإصابة بسرطان الجلد بمعدل 400 مرة لدى المصاب بهذا المرض مقارنة مع الأشخاص العاديين. ومع تقدم سن المصاب بالمرض، يتزايد سمك جلده ويتعفن بشكل مفزع، وتتخلله بقع وتقرحات مختلفٌ ألوانها قبل أن يبدأ بالتساقط في شكل قطع جلدية جافة.
وتصــاحب كل هذه التشوهـات التهابات في العين نتيجة ترقق الجـفون وفقدان الرموش. كما يعاني معظم المصابين بـ"جفاف الجلد المصطبغ" من أمراض عصبية من قبيل فقدان السمع. وفي ختام المطاف، تؤدي كل تلك العوارض مجتمعة إلى اختصار العمر المتوقع للمصاب. ويقول الدكتور الزغل إن أمد الحياة لدى المصابين يتفاوت حسب النوع الجيني للمرض. إذ ثمة ثمانية أنواع جينية مكتشفة في العالم حتى الآن أكثرها انتشاراً "النوع ج" الذي يُعدّ أخطرها على الإطلاق، إذ يصل متوسط حياة المصابين به إلى 15 عاماً فقط.
يقول زياد بن رمضان -مصور هذا التحقيق- إنه لاحظ خلال توثيقه لحيوات "أبناء القمر"، ارتفاع نسب الإصابة في مناطق "ساقية سيدي يوسف" و"أريانة" و"جربة" و"مدنين" و"قصر هلال". أما أكثر المناطق كثافة بالإصابات فكانت مدينة "القصرين" وسط غربي تونس.
سألته عن سبب اهتمامه بهذه الفئة من المرضى فقال إن الهدف بالدرجة الأولى "هو توعية الناس وتعريفهم بهذا المرض النادر.. وتسليط الضوء على فئة يفتك بها الضوء، ولا نكاد نعرف عنها شيئا". ويشير زياد إلى أبرز العقبات التي واجهها خلال توثيق هذا التحقيق فيقول: "يُعد الضوء ملمحاً أساسياً لعملية التصوير، لكنه في الوقت عينه يتسبب بإصابات قاتلة للأطفال موضوع التصوير. لذلك اضطررت للتكيّف مع بيئة المصابين المظلمة. حاولت تجاوز هذه العقبة عبر مقاربات بصرية تستلهم وساوسهم ومخاوفهم ضمن عوالمهم الخالية من الألوان".
يتحدث زياد بأسى عن وضعية الأطفال المصابين بهذا المرض، إذ يقول: "تُشكل العزلة قاسماً مشتركاً بين كل الأطفال الذين تعاملت معهم، وهي تنشأ نتيجة الحواجز التي يواجهونها أثناء ممارسة حياتهم اليومية؛ بدءاً من اللباس الواقي المختلف عن لباس بقية الأطفال الأصحاء، إذ يبدو طفل القمر غريباً ببذلته الخاصة المصنوعة من مادة عازلة للشمس، مروراً بقسم المدرسة الخاص بهم ذي النوافذ المحمية بالأفلام المانعة للأشعة فوق البنفسجية، وصولاً إلى انعدام حياة اللعب العادية خارج المنزل نهاراً مع غيرهم من أقرانهم نظراً لمنظرهم المخيف خصوصاً لدى تطور المرض".
ويتطرق المصور الشاب إلى مسألة نقص الوعي المجتمعي خصوصاً لدى سكان الريف، فيقول: "ينظر الأزواج الذين أنجبوا طفلاً مصاباً بجفاف الجلد المصطبغ إلى الأمر على أنه قضاء وقدر، ولا يدركون أن لديهم فرصة كبيرة لإنجاب المزيد من الأطفال المصابين بالمرض، وأن من شأن التشخيص المبكر التخفيف من وطأة المزيد من الإصابات".
وعلى الرغم من قلة إمكاناتها، تحاول مؤسسات المجتمع المدني في تونس التخفيف من وطأة معاناة مرضى "جفاف الجلد المصطبغ". إذ أطلقت "جمعية أصدقاء القمر" -عن طريق جمع التبرعات نظراً للانعدام شبه الكلي لدعم الحكومة- برنامجاً لتوفير بيئة عيش خالية من الأشعة فوق البنفسجية للمصابين، وتمكينهم من وسائل الوقاية والعلاج المتطور، وإدماجهم في الحياة الاجتماعية وكسر عزلتهم عن طريق تجهيز أقسام آمنة داخل المدارس تكون مجهزة بوسائل حماية، ما مكَّن عشرات الأطفال من الانتظام في صفوف الدراسة. كما تعمل الجمعية على توفير تكاليف التحاليل الوراثية للأجنة (والبالغة 1200 دولار أميركي) للعائلات المعوزة، إضافة إلى تأمين أدوية سرطان الجلد التي لا تتوفر في المستشفيات العمومية.
ولا تقل التأثيرات النفسية التي يتعرض لها أطفال القمر عن الآلام الجسدية المصاحبة للمرض. "فرعاية طفل القمر صعبة وتستلزم من أمه المكوث إلى جانبه طوال اليوم" حسب الدكتور الزغل الذي يقدم لنا لمحة من يوميات طفل مصاب، فيقول: "يستيقظ طفل القمر في الصباح لتناول الفطور مع إخوته، وعندما يغادرون المنزل يتمرَّد ويقترب من الباب محاولاً اقتحامه للخروج. ثم يعود ليشغل نفسه بألعاب سئمها قبل أن يستبدَّ به الضجر. ويظل محبوسا إلى غاية غروب الشمس، حينها يؤذن له بالخروج لكنه للأسف لا يجد أترابه، فيضطر إلى القيام بجولة قصيرة مع والده ثم يعود إلى سجنه المحتوم من جديد".
ويشير الدكتور الزغل بنوع من الأسى إلى تجاهل العالم العربي لمرض "جفاف الجلد المصطبغ" وغياب الاستثمار في الأبحاث العلمية والطبية المتعلقة به، ما يجعل أطفال القمر في دائرة التهميش بعلة أن هذا المرض لم يرتقِ إلى مستوى الظاهرة المفزعة، على عكس الاهتمام الواسع في البلدان الأوروبية التي خصصت حيزا مهما من الأبحاث والأموال لحماية هؤلاء الأطفال؛ عبر ابتكار بذلات خاصة تقيهم الأشعة، وتخصيص فضاءات ترفيهية محمية تمكنهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي وتشعرهم بأنهم أشخاص أسوياء، لا ظواهر ينبغي الخجل منها أو التكتم عليها.
ورغم سوداوية الصورة، إلا أن اليأس لا يجد سبيله إلى نفس الدكتور الزغل، الذي أخذ على عاتقه منذ أكثر من ثلاثين عاماً مهمة البحث عن أصول هذا المرض وتطوير وسائل جديدة للوقاية منه. إذ يقول: "لقد تمكنا في تونس، بفعل تراكم خبرات علم الأحياء الوراثية من تحقيق اختراقات متقدمة في سبيل مكافحة هذا المرض. فقد أصبحنا قادرين على تمييز كل أنواعه الوراثية، وبتنا نمتلك قدرة القيام بتحاليل الأجنة الوراثية والتعرف على الأفراد غير المصابين الحاملين لنسخة من جين المرض. ولدينا أيضاً كل التقنيات اللازمة لتقليص عدد المصابين بالإعاقات الوراثية بنسبة 80 بالمئة. كل ما يلزمنا الآن هو التمويل لمواصلة هذا العمل".
"أطفال القمر" يُنفِّذون حكم الشمس فيهم بالسجن المؤبد في غياهب الظلام، ومع ذلك فإنهم لا يكرهونها، ويحلمون في يوم يعانقون فيه شعاعها شأننا نحن "أطفال الشمس".