:عدسة روبرت كلارك
1 June 2017
بعد ظهر يوم 21 مـارس 2011، كـــان أحــــد مُشـــغِّــلي الآلـــيـــات الثقيلة، واسمه "شاون فانك"، منهمكا في جرف الأتربة؛ ولم يكن بباله أنه على موعد وشيك مع "تنين".
بدأ يوم الاثنين ذاك مثل سابقيه في "منجم الألفية" المكشوف، الذي يتّخذ شكل حفرة واسعة. تسهر على استغلال المنجم شركةُ الطاقة "سانكور" (Sancor)، وهو يقع على بعد 27 كيلومتراً إلى الشمال من بلدة "فورت ماك موراي" بمقاطعة "ألبرتا" الكندية. على مدى ساعات متتالية، واصلت حفّارة فانك الشاهقة شق طريقها نحو طبقة من الرمل المختلط بالقار، تشكلت من تحول بقايا النباتات والمخلوقات البحرية التي سادت ثم بادت هناك قبل أكثر من 110 ملايين عام. وقد ظل هذا المشهد الجيولوجي يمثل مظهر الحياة القديمة الوحيد الذي اعتاد فانك رؤيته. فقد حفر ههنا طيلة 12 عاما، صادفتْ خلالها حفّارتُه مراراً وتكراراً مطبّات من الخشب المتحجر وجذوع الأشجار؛ ولكنها لم تصادف قَطُّ بقايا حيوان.. فما بالك بديناصور.
ولكن في حوالى الساعة الواحدة والنصف بُعيد الظهيرة، قضمت مجرفة فانك شيئا أصلب من الصخور الموجودة في المكان. وبرزت من جدار الحفرة كتل غريبة اللون وانزلقت إلى الأسفل. وما هي إلا دقائق قليلة حتى تملكت الحيرة فانك ورئيسَه "مايك غراتون" من أمر هذه الصخور بُنّية اللون: هل هي شرائط من الخشب المتحجر، أم إنها أضلاع حيوان ما؟ بعدئذ، قام الرجلان بقلب إحدى تلك الكتل، ليكتشفا شكلا غريبا: إنها صفوف متوالية من الحلقات البنية اللاصقة في حجر رصاصي اللون.
وتعليقاً على ذلك الاكتشاف، قال فانك في مقابلة معه عام 2011: "على الفور، كان لسان حال مايك يقول بضرورة عرض الأمر على نظر الخبراء؛ ذلك أننا لم نرَ قَط شيئا مثل هذا من قبل".
وبعد نحو ستة أعوام على ذلك، زُرتُ مختبرَ إعداد الأحافير لدى "متحف تيريل الملكي" في ألبرتا، ذات التضاريس الوعرة. كان المستودع الكهفي يعج بضجيج أجهزة التهوية وصخب الفنيين وهم يكشطون القشرة الصخرية عن العظام المتحجرة، بواسطة أدوات ذات رؤوس مثل الإبر، وهي أشبه ما تكون بمثاقيب كهربائية مصغَّرة. ولكن تركيزي ظل منصبا على كتلة حجرية من 1100 كيلوجرام، كانت في ركن المستودع.
للوهلة الأولى، تبدو هذه الكتل الرمادية -التي أُعيد تجميعها- مثل نحت لديناصور بطول 275 متراً. تكسو رقبتَه وظهره فسيفساءٌ كبيرة مصفَّحة، وترسم حدودَ حراشفه دوائرٌ رمادية. وتتخلل رقبتَه تموجاتٌ انسيابية إلى اليسار، كما لو كان يشرئب إلى بعض النباتات الشهية. ولكن هذا ليس منحوتة نابضة بالحياة؛ بل هو ديناصور حقيقي متحجر.. من الخطم إلى الحوض.
كلما نظرتُ إلى هذا المخلوق، ازدادت حيرتي في أمره. فما زالت بقايا متحجرة من الجلد تغطي الصفائح الصدفية المنتشرة في شكل بقع ناتئة محيطة بجمجمته. قدمه الأمامية اليمنى مبسوطة إلى جانبه بأصابعها الخمسة المعقوفة إلى الأعلى؛ ويمكنني عَدُّ الصفائح في باطن قدمه. زاد من دهشتي "كايلِب براون"، دكتور باحث لدى المتحف، إذ قال في ما بعد: "هذا ليس مجرد هيكل عظمي؛ إنه ديناصور كما كان قيد حياته".
ويرى علماء الأحافير أن المستوى المذهل لتحجر هذا الديناصور -بفعل غوصه السريع في أعماق البحر بعد نفوقه- يعد نادرا مثل الفوز في اليانصيب. عادة ما تبقى العظام والأسنان وحدها سليمة، لكن نادرا ما تحل المعادن محل الأنسجة الرخوة قبل تعفنها. كما أن لا شيء يضمن احتفاظ أحفورة ما بشكلها الحقيقي. فالديناصورات ذات الريش التي عثر عليها في الصين -على سبيل المثال- كانت منسحقة، وديناصورات أميركا الشمالية "المحنطة" التي تشبه البطة في منقارها، وهي من أكمل الديناصورات المكتشفة على الإطلاق، تبدو عليها علامات الهزال والتيبّس بفعل الشمس.
ظل "جايكوب فينثر" -عالم أحياء الأحافير وخبير التلوّن لدى الحيوان في جامعة "بريستول" البريطانية- يَدرس مجموعة من أفضل الأحافير في العالم، بحثاً عن آثار صِبغ الميلانين. لكنه أصيب هو الآخر بالذهول، بعدما اشتغل طيلة أربعة أيام على هذا الديناصور يكشط منه عينات رفيعة بعناية كبيرة. فهو في حالة جيدة من الحفظ "تجعلك تعتقد أنه كان يتجول هنا قبل بضعة أسابيع"، يقول فينثر مازحا؛ قبل أن يضيف: "لم يسبق لي أن رأيت شيئا من هذا القبيل".