شهِد القرن التاسع عشر دخول "الكاتشب" (صلصة الطماطم) أول مرة إلى السوق الأميركية، مُعَّبأً في قنينات بسيطة، لكن مكوناته اختلفت كثيرا عمّا هي عليه اليوم.
آنذاك شكا خبراء الطعام أن تلك الصلصة غالبا ما كانت تُصنع من مُخلفات الطماطم ممزوجةً بقشور اليقطين المطحونة وثفل التفاح (ما فَضُل من قشرة ولب وبذور وعروق بعد عَصر الفاكهة)، أو نشا الذرة، وتُصبغ بلون أحمر للتمويه. لا غرو أن مؤلفاً فرنسياً من مؤلفي كُتُب الطهي قال إن كاتشب الأسواق "قذر، عفن، نتن".
مع حلول أواخر القرن التاسع عشر، نقصت درجة نتانتها لمَّا أضفى المُصَنِّعون مواد كيميائية حافظة لإبطاء مفعول التحلل في القنينات. لكن التغيير الحق -أي اختراع الكاتشب الحديث- جاء في القرن العشرين لينسج خيوط حكاية امتزج فيها السياسي بالشخـصي، وبـدأت أحداثها بتحالف لا يخطر على بال بين "هنري جاي. هاينز" -أحد أغنى مُصنعي الغذاء في الولايات المتحدة- وكيميائي كانت توظفه الحكومة الفدرالية نظير أجر زهيد. قَويت اللُّحمة بين الرجلين لإيمانهما أن الغذاء غير الآمن وغير الجدير بالثقة بات معضلة وطنية آخذة في الاستشراء.
لم يَعجب أحدٌ من موقف ذلك الكيميائي -واسمه "هارفي واشنطن وايلي"- بشأن المسألة؛ إذ ظل يدافع عن معايير سلامة الأغذية منذ ثمانينيات القرن الـ 19 بصفته رئيسا لدائرة الكيمياء التابع لوزارة الزراعة بالولايات المتحدة. كانت تلك الدائرة الصغيرة ساعتئذ الجهةَ الفدرالية الوحيدة المسؤولة عن جودة الغذاء في البلد. وكان الكيميائيون العاملون تحت إمرته قد كشفوا عمليات احتيال على نطاق واسع من قبيل الجبس في الدقيق، ومسحوق الطوب في القرفة، وتهور في استعمال مواد حافظة لم تخضع للاختبار، تراوحت بين مادة "الفورمالين" و"البورق".
أما موقف هاينز فكان صادماً، لا سيما لزملائه في القطاع؛ إذ رفض الانصياع لشركات أميركية أخرى تحركت في الغالب لإجهاض أي محاولة لإقرار معايير الغذاء والشراب. للإحاطة بحيثيات الموضوع، لا بد من إلقاء نظرة على هاينز الإنسان ورجل الأعمال معاً.
وُلِد هاينز عام 1844 في مدينة "بيتسبرغ" بولاية بنسلفانيا، لمهاجِرَيْن ألمانيين. كان أبوه "جون" وأمه "آنا مارغاريثا" من الأتباع المخلصين للمذهب "اللوثري"؛ وتبعا لذلك أدخلا أبناءَهما الثمانية -وكان هنري أكبرهم- إلى مدرسة لوثرية. كانت الأم تُصر على عيشهم وفق المبادئ المسيحية، ولطالما كررت قولتها الأثيرة: "اِفعل ما استطعت من خير. لا تعش لنفسك". وكان متوقَّعا أيضا أن يعمل الأطفال بجد ويكسبوا عيشا كريما.. ما في ذلك من شك.
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز