منذ اليوم الأول لمولد "كريستيان غواردينو"، كانت أمه "إليزابيث" على دراية بأنه لم "ير النور" بعد، وأن مشكلةً تعتور عينيه؛ فقد كانتا لا تثبتان في مكانيهما، بل تدوران وتنحرفان باتجاه الأعلى إلى أن تختفيا، وأصاب الحول إحدى عينيه لتستقر محدَّقة باتجاه الأنف. وعندما كانت إليزابيث تطعم صغيرها، كان لا ينظر باتجاهها، بل كان يحدِّق باتجاه أكثر مصادر الضوء القريبة سطوعاً؛ كالمصابيح عندما يكونا داخل المنزل، أو الشمس إذا كانا خارجه.
كان أول طبيب عيون فحص كريستيان، قد أحال الأسرة وهو متجهم الوجه على أخصائي في مستشفى "جبل سيناء" في مدينة نيويورك، حيث أجرى "مُخَطَّطُ الشَّبَكِيَّة الكهربائي" (ERG)، وهو إجراء طبي يقيس مدى استجابة شبكية العين لومضات الضوء من خلال جهاز استشعار إلكتروني دقيق يوضع على العين. إذ تستجيب شبكية العين السليمة بإطلاق إشارة كهربائية على طول العصب البصري، تظهر على الرسم البياني الذي يطبعه جهاز (ERG) على شكل واد عميق (أدنى مستوى ) يليه ارتفاع حاد (أعلى مستوى). لكن مخطط كريستيان لم يُظهر أي شيء من هذا القبيل، إذ لم تظهر إلا تموجات غير واضحة الشكل وضعيفة في سعتها.
أخبر الطبيب إليزابيث بأن كريستيان يعاني مرضاً في شبكية العين يسمى "فقد البصر الوراثي" (LCA)؛ فنظره الضعيف أصلا لم يكن ليتحسن البتة بشكل كبير، ولم يكن ممكناً إخضاعه لأي علاج، ولن ير هذا الصبي سوى أموراً قليلة من هذا العالم، وسيعتمد دائماً وأبداً في تحركه على عصا يتوكأ عليها بعد أن يتعلم طريقة المشي.
كان كريستيان يحتاج فعلاً إلى عصا، وإلى ساعِد أمه أيضاً، عندما زار لأول مرة في عام 2012 -وهو لا يـزال في سن الثانية عشرة- عيادة طبية يديرها معهد "شي آي" التابع لجامعة بنسلفانيا. لكن كريستيان دلف في شهر يناير الماضي إلى المبنى الرئيس للمعهد من دون عصا وبملامح لا تظهر عليها أمارات الخوف. كان الصبي يمزح ويتحدث إلى المحيطين به وهو يتقدم مجموعة من حملة الدكتوراه والأطباء وفنيي المخابر وأنا، باتجاه البهو الفسيح. وكان ينظر باندهاش كبير إلى الفسحة السماوية الشاهقة في قلب المبنى التي تبرز منها الشرفات المشمسة حيث يجلس الناس لاحتساء القهوة.
أطلق كريستيان صيحة انبهار مع اقترابنا من مخرج المبنى، إذ كان أمامنا باب دوّار ضخم يدور بأجزائه الهائلة حول محوره. وكانت والدته هذه المرة تسير خلفه؛ إذ كان يمشي معتمداً على نفسه فلا يتوقف، بل يسير بهدوء عبر إحدى فتحات الباب الدوّار المكونة من الفولاذ والزجاج، وحافظ على وتيرة سيره عندما انغلق هذا الجزء من الباب وراءه وانفتح جزء آخر أمامه. ومن ثم خرج إلى ضوء الشمس.
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز