بعد أن قطع مراسلنا أكثر من 19 ألف كيلومتر سيرًا على الأقدام في رحلته حول العالم، يصل إلى الصين ليشهد الحياة وسط المدن الكبرى قبل أن تجتاحها مصانع أجهزة الآيفون.
بعد أن كَرَّســتُ الأعوام العشرة الماضية من حياتي للمشي في مناكب الأرض، كنت أتعرض أحيانًا لأسئلة من قبيل: كيف تبدو القضايا الكبرى المعاصرة.. من مستوى شخص يمشي على قدميه؟ هل غيّر المشي زاوية نظرك إلى الأحداث الجارية؟ أو بعبارة أبسط لطالما رددها تلاميذ المدارس: هل من مفاجآت أثناء سيرك؟
يمكنني الإجابة عن بعض هذه الأسئلة بسهولة؛ فقد كنت أحس أن الإجابات أصبحت جزءًا من كياني وجسمي الذي أبلَيته في المشي بوتيرة ثابتة -كجهاز ضبط الإيقاع- على مسار امتد 25 مليون خطوة، أو أكثر من 19 ألف كيلومتر حول العالم. بالتفكر في كل ما رأيته أثناء سيري بوتيرة لم تتخط خمسة كيلومترات في الساعة، على سبيل المثال، يمكنني أن أجزم أن "الإنسان العاقل" قد غيّر ملامح كوكبنا وبيئته جذريًا إلى درجة أننا يجب أن نعاني حالة أرق جماعي، وألّا نحس بحالة من تأنيب الضمير فحسب، بل ينبغي أن نشعر جميعًا بهلع حقيقي. (على مرّ أكثر من 3500 يوم وليلة أمضيتها في رحلة مشي طويلة من إفريقيا إلى شرق آسيا، يمكنني بكل إحباط أن أحصي على أصابع يدي وقدمي فقط، عدد المرات التي تصادفت فيها مع حيوانات برية). وإن سُئلتُ عن أقسى مشاهد الظلم التي قابلتها واختبرتها من كثب في كل ثقافة بشرية مررت بها؛ فسيكون جوابي المباشر والسريع هو تلك القيود والأغلال التي يُحكِمها الرجال بقسوة وتعسف حول إمكانات النساء وقدراتهن. (تُرى من يتقاضى أجرًا أقل على الدوام؟ ومن يُحْرَم من التعليم في الغالب الأعم؟ ومن يستيقظ قبل الجميع على صباح ملؤه الكد والتعب؟ ومن آخر من يستريح؟). وفي الآن ذاته، يُلقي الكلام عن المخاوف من تغير المناخ بظلاله القاتمة على الجميع ممن مررت بهم، بدءًا من المُزارعات الكازاخيات المتقدمات في السن، وصولًا إلى أفراد المليشيات المسلحة من الأكراد.
ومع ذلك، كان هناك تطور بشري آخر غير متوقع -ربما لا يقل إثارة للحزن- تصادفتُ معه خلال مشروعي المتمثل في رحلة سردية متمهلة تُدعى "رحلة الخروج من الجنة" وتهدف إلى تتبع انتشار أسلافنا خارج إفريقيا في العصر الحجري. إنه انقراض كُلّ ما بُني بقوة سواعد البشر لا غير، بعد استمراره آلاف السنين. وأعني بذلك تلك الأصقاع المنحسرة من أرضنا المأهولة التي لم تخضع بعدُ -أو تتغير استجابة- لسطوة آلاتنا. وأنا أطلق عليها اسم "عالم صنعته سواعد البشر".
كنت أُحَيِّي صانعي السلال البسطاء، والعاملين في نقل البضائع على البغال، وجامعي الفطر البري، والنسّاجين الذين يعملون في بيوتهم، والحطابين المتخصصين في تقطيع خلايا النخل من على الأشجار القديمة المجوفة. كانت الحِرَف اليدوية تظهر في كل مكان على طول طريقي المتعرج.
ومن المفارقات أن هذه الجغرافيا البشرية القديمة غالبًا ما تكون خفية على الأعين، حتى من قُرب، إلى درجة أنني أدركتُ وجودها حقًا حينما بدأت بالتوثيق لغيابها. ولم تلح هذه المساحة المميزة في أفق وعيي إلا عندما شرعتُ في المشي بين ثنايا المجتمع الأكثر تصنيعًا على وجه الأرض، ألا وهو الصين، البلد الثامن عشر في مسار رحلتي أو ما يسمى بمصنع العالم. لم أكن زرت الصين من قبل. وكالعديد من زوار الصين، كان رأسي يعج بصور نمطية مبتذلة عن المدن الضخمة المزدحمة بالحركة، والقطارات فائقة السرعة والدقيقة في مواعيدها، ومراكز التسوق المتلألئة بالأضواء، والموانئ الآلية. إنه مجتمع لا يَكَلّ تُسيّره الآلات، ويكرس جهده وطاقته بالكامل لإشباع شهية البشر الهائلة في استهلاك الهواتف النقالة، والألعاب البلاستيكية والألواح الشمسية والملابس وغيرها من المنتجات الصناعية التي تُنتَج بكميات كبيرة. (هل تحتاج إلى جهاز حاسوب نقّال؟ إليك بالصين؛ فهي تُنتج من هذه الأجهزة ما تتجاوز قيمته 20 مليون دولار شهريًا).
وثمة طبعًا ما يبرر كثيرًا من ملامح هذه الصورة النمطية للصين بوصفها خلية نحل من المباني الإسمنتية. فقد كانت الطبيعة ومن يعيشون على مقربة منها هم الخاسرون في سنوات ازدهار الصين الصناعية. وهذا هو السبب الذي جعلني أحمل حقيبتي على كتفي مرتحلًا إلى مقاطعة يونّان بالجنوب الغربي في أكتوبر 2021 ومتجهًا نحو الشمال انطلاقًا من الحدود مع ميانمار -أو ما أُطلق عليها بورما سابقًا- في مسيرة امتدت مسافة 5950 كيلومترًا عبر أراضي "المملكة الوسطى" (أي الصين) باتجاه روسيا. وقد شعرت بدهشة كبيرة عندما وجدت نفسي أمشي وسط مناظر طبيعية بانورامية تبدو وكأنها نُسخت من مخطوطات صينية تصور الحياة في العصور الوسطى. لوحات من وديان ومنحدرات ذات منحنيات، كان المقياس الأوحد للتصورات البشرية فيها هو جسم الإنسان؛ فهنا ما يزال اقتصاد الحرفيين والخياطين وصغار الصُناع هو من يرسم وتيرة الحياة المتمهّلة.
"ستبدأ رحلتك في أفضل جزء من الصين"، هكذا قالت لي -بابتهاج- صديقتي متسلقة الجبال من مدينة تشنغدو، عندما عرفَت أن خط بداية رحلتي هو النصف الغربي الوعر من مقاطعة يونّان. وأضافت بالقول: "الأمور تصبح مُملة بعد ذلك". فلقد كانت صديقتي تتخيل قمم الجليد الوعرة في شرق الهيمالايا. غير أن هذه البرية المنعزلة لم تكن أكثر ما أدهشني في منطقة يونّان الحدودية. كان الأمر على العكس من ذلك في الغالب؛ فأكثر ما أثار دهشتي هو ذلك التناغم النادر بين البشر ومحيطهم الطبيعي، وتلك الاحتمالية المنسية لإمكانية تعايش البشر مع الطبيعة في انسجام وثيق. كانت الطرق الضيقة في يونّان أشبه بخطوط نوتة موسيقية مرسومة فوق مشهد شَكّلته سواعد البشر حتى الآن. آبار حجرية؛ بساتين تفاح؛ جبال تبدو زرقاء من بعيد. بدت كل خطوة أخطوها مألوفة على نحو عجيب.. كما لو كنت أدخل أقدم موطن وُجد للناس.
آلاف المنصات النفطية بارتفاع ناطحات السحاب تنتشر في محيطات العالم. لماذا يطالب بعض حماة البيئة بالإبقاء على المنصات النفطية المنتشرة في المحيطات حول العالم ؟
تشير الأبحاث إلى أن الدوبامين هو السبب الحقيقي الذي يجعلنا نفضل مواجهة تحديات كبيرة كسباقات الماراثون أو حل المشاكل الصعبة في بيئة العمل.
مصب نهر الأمازون ليس مجرد نهاية لأقوى أنهار العالم وأكثرها عنفوانًا، بل هو أيضًا بداية لعالم مدهش يصنعه الماء.