نهر الغانج ممر مائي مقدس بالهند؛ ولكنه كذلك مصدر رئيس للنفايات المُصنعة التي تلوث المحيط.
في العقد الماضي أدرك العالم التراكم المتزايد لنفايات البلاستيك في محيطاتنا، فبدأت جهود عديدة ومبتكرة تُبذَل لحل هذه الأزمة المتصاعدة، لكنها تظل غير كافية. في أفق عام 2040، يُرتقَب تضاعف كمية البلاستيك المتدفقة سنويا إلى البحر بنحو ثلاث مرات، لتبلغ 29 مليون طن في السنة. معنى ذلك أنه بحلول الوقت الذي يُتمّ فيه طفلٌ وُلد هذا العام دراستَه بالثانوية العامة، سيكون ثمة 50 كيلوجرامًا من النفايات البلاستيكية في كل متر من السواحل حول العالم.
في هذا الشأن، يَبعث العلماءُ رسالة مفادها أن الأوان لم يفت بعد لإصلاح الوضع. ولم يَعد اتخاذ خطوات صغيرة يُجدي نفعًا.
وما فتئت معظم الأبحاث بشأن النفايات البلاستيكية تركز على البلاستيك الموجود في المحيطات بالفعل ومدى ضرره المحتمل؛ فهو يشكل تهديدًا قاتلا لسلسلة من مكونات الحياة البرية، من العوالق إلى الحيتان، مرورًا بالأسماك والسلاحف. ولا يُعرف كثيرٌ عن كيفية وصول النفايات إلى المحيط، لكن المؤكد أن الأنهار -لا سيما في آسيا- شرايين رئيسة تنقل ذلك التلوث.
في عام 2019، مَوَّلت "الجمعية الجغرافية الوطنية" الأميركية بعثةً علمية إلى أحد تلك الأنهار: الغانج، الذي يتدفق عبر شمال الهند وبنغلادش، من خلال أحد أكبر الأحواض النهرية وأكثرها كثافة سكانية في العالم. إذ سافر فريق من 40 فردًا، بين عالمٍ ومهندس وعامل دعم، من الهند وبنغلادش والولايات المتحدة والمملكة المتحدة على طول النهر مرتين، قبل وبعد هطول الأمطار الموسمية التي تُضخّمه على نحو كبير. أخذ أعضاء الفريق عيّنات من النهر والأرض والجو حواليه، وسألوا أزيد من 1400 ساكن، سعيًا نحو معرفة أنواع البلاستيك التي تتدفق في نهر الغانج -ومنه إلى المحيط- ومكان ذلك وسببه. تقول "جينا جامبيك"، أستاذة الهندسة البيئية في "جامعة جورجيا" الأميركية، التي كانت أحد قادة البعثة: "لا يمكن حل المشكلة إذا لم نعرف ماهيتها". وقد أدى بحثها الرائد في عام 2015، ومن نتائجه حقيقة أن ما متوسطه 8 ملايين طن من البلاستيك تصب في المحيطات كل عام، إلى لفت انتباه العالم وأسهم في تحويل مسألة البلاستيك البحري إلى مصدر قلق بيئي رئيس. وترى جامبيك، شأنها كشأن جل الخبراء، أن الحل لا يَكمن في تنظيف المحيطات بقدر ما يكمن في خفض نسبة البلاستيك واحتواء النفايات البلاستيكية على اليابسة، حيث منشأ جلّها.
في ظهيرة معتدلة الطقس من أيام نوفمبر، التقيت جامبيك في مدينة باتنا الهندية العريقة الممتدة على طول الضفة الجنوبية لنهر الغانج، على بعد نحو 800 كيلومتر من مصب النهر في "خليج البنغال". في حي تجاري مزدحم، سارت جامبيك بخطى متثاقلة بمحاذاة صف من المتاجر والمقاهي، وعيناها على الأرض. راحت تَعدُّ القمامة قطعة قطعة، وتسجل كلًّا منها في تطبيق على الهاتف يُوَثق لمواقعها. كان ثمة كثير من القطع اللازم تسجيلها: ذلك أن باتنا -المدينة سريعة النمو والتي يفوق عدد سكانها مليوني نسمة- لم تستفد من خدمة جمع القمامة من البيوت إلا في عام 2018، ولطالما كان طرح القمامة في الشوارع مشكلةً قائمة. أثناء البعثة العلمية، التي استغرقت 98 يوما، أجرت جامبيك وفريقها 146 مقطعًا بيئيًا لتلك القمامة، كل منها بحجم يقارب حجم حي سكني بمدينة، في 18 مدينة وقرية على طول النهر. سجلوا 89691 قطعة قمامة، كما صنفوا المنتجات التي تباع في المتاجر المجاورة.. فمن أجل ابتكار حلول لمشكلة النفايات، تقول جامبيك، لا بد للمرء من معرفة ما "يتسرب من النظام" وما لا يتسرب. إذ تساءَلَتْ: "هل نريد حَظْر ما يُلقى على الأرض؟ هل نريد فرض ضريبة؟ أم نريد شيئا آخر؟ أو: هل يعطي الحَظر أكله إذا حظرنا الأكياس البلاستيكية، مثلا؟".
كانت أغلفة الطعام وأعقاب السجائر وأكياس التبغ على رأس قائمة العناصر البلاستيكية التي وثّقت جامبيك لوجودها في شوارع الهند؛ وهي عبوات فردية تُباع بالمليارات في إفريقيا وآسيا لتقديم عدد كبير من المنتجات. حمل نحو 40 بالمئة من هذه العناصر المُلقاة أسماءَ علامات تجارية دولية، منها ما هو لشركات توجد مقراتها الرئيسة بالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة. وكان لفت انتباه تلك الشركات أحدَ أهداف جامبيك من إجراء هذا البحث. إذ قالت لي: "نريد أولئك الأشخاص الذين يبعدون عنّا 8000 كيلومتر أن يجلسوا إلى الطاولة وينفتحوا على التغيير". فالنفايات البلاستيكية -شأنها كشأن التغير المناخي- هي أثر جانبي لعاداتنا الهيدروكربونية (ذلك أن جُلّ المواد البلاستيكية مشتق من النفط والغاز)، وتداعياتها محلية وعالمية.. تمامًا كما هي حلول مشكلتها. على الأقل بعض القمامة التي رأيت جامبيك توثق لها في مدينة باتنا شقّ طريقه في نهاية المطاف إلى جدول تصريف مفتوح؛ ومن هناك أَفرغَه أنبوبٌ كبير في النهر مباشرة، وضَعَه في مسار نحو خليج البنغال.
إن نهر الغانج من أكبر الأنهار في العالم، يقدسه مليار هندوسي بوصفه يُجسّد "الأم غانجا"، التي يعدّونها إلهةً حية ذات قدرة على تطهير الروح. تنبع مياهه من "نهر غانجوتري الجليدي" في أعالي جبال الهيمالايا الغربية، على بعد كيلومترات فقط من التبت، ثم تتدفق عبر أخاديد جبلية شديدة الانحدار نحو سهل الهند الشمالي الخصب. هناك يُعرِّج النهر شرقًا عبر شبه القارة الهندية إلى بنغلادش، ويتسع بفضل 10 روافد كبيرة؛ وحالما يندمج مع "براهمابوترا"، يصب في خليج البنغال. إنه ثالث أكبر منفذ للمياه العذبة إلى المحيط في العالم، بعد نهرَي الأمازون والكونغو. وهو يدعم أكثر من رُبع سكان الهند، البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، وكل سكان نيبال، وجزءًا من سكان بنغلادش. هذا النهر مقدس إلى درجة أن مياهه، غانجا جال، ظلت تُنقَل إلى الديار البعيدة في أباريق من قِبَل الجيوش الغازية والسياح. واعتقد تجار القرن السابع عشر أنها تظل "أَعْذب" من أي مياه أخرى خلال الرحلات البحرية الطويلة. كان "السير إدموند هيلاري"، أول من تسلق قمة "إيفرست"، من المعجبين به. ويمكن للمرء اليوم أن يشتريه في قنينات زرقاء في متاجر "والمارت" الأميركية.
وللأسف، ظل الغانج أيضا منذ زمن طويل أحد أكثر أنهار العالم تلوثًا بسبب مخلَّفات سائلة سامة من مئات المصانع يعود تاريخ بعضها إلى الحقبة الاستعمارية البريطانية. وتضيف المصانعُ الزرنيخَ والكروم والزئبق ومعادن أخرى إلى مئات ملايين اللترات من مياه الصرف الصحي الخام التي ما زالت تتدفق يوميا في الغانج. وليست النفايات البلاستيكية سوى أحدث أنواع التلوث. وعلى كل ذلك التلوث، ووجود بكتيريا بُرازية قاتلة أحيانا، يسود الإيمان بالنقاء الأسطوري الدائم لنهر الغانج؛ ما يُعرقل الجهود المبذولة لتنظيف النهر. قضى "سوديبتا سين"، الذي نشأ في مدينة كولكاتا ويُدَرس تاريخ جنوب شرق آسيا في "جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، 14 عامًا في تأليف كتابه "Ganges: The Many Pasts of an Indian River" (الغانج: التاريخ المتعدد لنهر هندي). وقد أدرك أن مفارقة النهر الحديث -بوصفه مقدسًا للغاية ومهمَلًا للغاية في الآن ذاته- مُحبطَة لكل من يكتب عنها. يقول سين: "إن النهر حقًّا نهران. فثمة اعتقاد سائد مفاده أنه قادر على تطهير نفسه ولديه خصائص سحرية. وإذا كان النهر قادرا على تطهير نفسه، فلِمَ نحمل هَمَّه؟ ولقد رأيت ذلك. وسمعت كثيرًا من الناس يقولون إن النهر لا يمكنه أن يتلوث، ويمكنه الاستمرار إلى أبد الآبدين". يعزز نهر الغانج حبكة تلك الحكاية خلال موسم الصيف الماطر، حين يُقال إنه "في حالة انتفاخ". في باتنا، حيث يلتقي النهر كثيرًا من الروافد الكبرى فيتسع على نحو كبير، تُحوِّلُه الأمطارُ الموسمية إلى سيل عارم يغمر بانتظام ولاية "بيهار" التي يغلب عليها الطابع الريفي، وعاصمتها باتنا.
في صبيحة مبكرة من أحد الأيام، عبَرْتُ من باتنا إلى الجانب الشمالي من الغانج، رفقة أفراد من بعثة ناشيونال جيوغرافيك، وقُدنا السيارة إلى قرية صغيرة تَحُفها أشجار الموز ويُعمّرها المزارعون والصيادون الذين يكسبون قوت يومهم من صيد أسماك الشبوط. وُضعت أكوام من شباك الصيد المهترئة المصنوعة من النايلون الأزرق بالقرب من تجمع منازل من الطوب وأكواخ مسقوفة بالقش. ومعلومٌ أن شباك الصيد المهمَلة مَصدرٌ كبير للتلوث بالبلاستيك في الغانج، ومصدر يهدد دلافين النهر والسلاحف والقضاعات (ثعالب الماء). كان هناك حاجز ترابي كبير بين النهر والمنازل، لكنه لم يكن كافيا لحمايتها خلال موسم الأمطار الأخير. لم يعد بعض السكان المحليين إلا حديثًا بعد إجلائهم أثناء الفيضان. تناثرت أكياس الرقائق والقمامة هنا وهناك. ولم يَبْد أي صندوق قمامة. كان الصياد الذي أتيت لرؤيته نائمًا، فتسلقتُ الجدار الترابي الذي ما زال مغطى بأكياس الرمل، وجلستُ على الدرج المؤدي إلى النهر أشاهد الناس وهم يقومون بأعمالهم المنزلية الصباحية. جثمت خمس نسوة على الدرج السفلي وطفقن يغسلن الملابس في الماء العكر. جاء عدة رجال للاستحمام. أفرغ كل منهم شامبو من كيس بلاستيكي قبل التخلص منه في النهر. ولما انتهوا، قدموا الماء إلى غانجا في أيد مقعَّرة مرفوعة إلى السماء.
تشير الأبحاث إلى أن الدوبامين هو السبب الحقيقي الذي يجعلنا نفضل مواجهة تحديات كبيرة كسباقات الماراثون أو حل المشاكل الصعبة في بيئة العمل.
مصب نهر الأمازون ليس مجرد نهاية لأقوى أنهار العالم وأكثرها عنفوانًا، بل هو أيضًا بداية لعالم مدهش يصنعه الماء.
سواء أَرأينا الدلافين الوردية أشباحًا تُغيّر أشكالها أم لعنةً تؤْذي الصيادين، تبقى هذه الكائنات مهيمنة على مشهد الأمازون ومصباته. ولكن مع تغير المشهد البيئي للمنطقة، بات مستقبل أكبر دلافين المياه...