حدثٌ اجتماعي واقتصادي عُماني يفوح عراقةً وأصالة، ويُبشّر في كل عام بحلول موسم ثمرة الصيف الشهيرة بأرجاء الخليج العربي.
على أنغام الأهازيج والأغاني المحلية، تنهمك نسوة في العمل بأيديهن الماهرة وهن يغنين في انسجام وتناغم تامَّين وكأنهن في حفل أوركسترا. لكن الحدث أسعد من ذلك.
فبهجة هؤلاء النسوة، وقد تَحَلّق حولهن الأطفال وبعض الرجال، تُبشر بموسم عامر تجود فيه النخلة بخيراتها الوفيرة مع حلول فصل الصيف القائظ بمنطقة الخليج العربي.
صحيحٌ أن هذه الأجواء الحارة قد لا تُناسب بعض البشر أو الوحيش، إلا أنها عامل رئيس في نضج النخيل وغيره من الأشجار المحلية بالمنطقة (مثل اللوز "الاستوائي"، ويُسمى في الإمارات وعُمان بِـ "البيذام"، والتوت البري "الفرصاد"، والصبار الحلو "الصبّير"). وقد دأب السكان ههنا على تنظيم أحداث احتفالية ومواسم خاصة يكرمون من خلالها شجرتهم المباركة في مواقيت معلومة من السنة. إذ تحتل النخلة منزلة أثيرة في نفوس أهل الخليج؛ فلا يكاد يخلو منها بيت، ولا تكتمل زينة الشوارع والأحياء السكنية إلا بوجودها البهي، ولا يغفل عنها مهندسو الحواضر في مخططاتهم العمرانية. ويستظل الناس بسعفها وينعمون بخيراتها من الرُّطَب ويصنعون من بقاياها أدوات تُستعمل في المزارع والبيوت. وخلال شهر فبراير ومارس تحديدًا، تزداد العناية بالنخيل أكثر فأكثر من قِبَل أصحاب المزارع؛ إذ يُلقّحون هذه الأشجار -حسب نوعها وطبيعة المنطقة المزروعة فيها- عبر نقل حبوب اللقاح من النخلة الذكر إلى الأنثى بهدف تخصيبها وضمان تكوّن الثمار في أشهر الصيف؛ وهو حدث زراعي يُطلق عليه اسم "تلقيح النخيل" (ويُعرف محليا بِـ "تنبيت النخيل"). ولا يجب إغفال هذه المرحلة ونسيانها بل ينبغي لمالك النخيل أن يختار ملقحات ذات نوعية جيدة تتسم بنضجها الكامل وتماسكها الصلب. وكل ذلك في سبيل أن تنتج نخلته تمورًا طيبة حلوة المذاق. فالتمر المُنتج سيكون مكرمة للضيف وهدية للصديق، وكذا سلعة للبيع وكسب مردود مالي.
في مطلع فصل الصيف، تُوقَد المراجل الضخمة ويُشمر المزارعون عن سواعدهم ويعتلون قمم تلك النخيل الباسقة بواسطة الحبال العتيدة -المصنوعة في الأساس من ليفها- لأجل أن يقطفوا "البِسر" (مفرده بسرة)، وهو البلح شبه الناضج ذو اللون الأصفر الفاقع. يقول "إبراهيم الجروان"، رئيس "جمعية الإمارات للفلك": "في منتصف شهر يونيو تبدأ درجات الحرارة في الارتفاع، وهي بشارة خير لأهل المزارع والنخيل خاصة؛ إذ تعني هذه الظروف الحارة أن ثمار مزارعهم قد بدأت تؤتي أُكلها ببلوغها مرحلة الينعان إلى حدًّ ما". لذا فمنذ منتصف هذا الشهر وحتى يوليو، تكون الأجواء مثالية لإعلان بدء موسم "التبسيل" في عُمان، الذي يعود تاريخه لآلاف السنين في المجتمع الريفي؛ حيث تُجمع ثمار النخيل الصفراء حصرًا، مثل "المدلوكي" و"بونارنجة" و"المبسلي"؛ وهذا الأخير اتُّخذ شعارًا رسميًا لولاية "بدية" العمانية.
فمن قلب مزارع بدية، الواقعة في المنطقة الشرقية من البلد، تتعالى أصوات أهالي المجتمع الريفي، وتُغنى أجمل الأهازيج الشعبية وأعذبها؛ ومن ذلك مثلًا: "مبسلي غشون.. رداد ذهون.. لأن أكلته هياك ولأن بعته أغناك"، و"يا المبسلي صغير، ثامر بعثجيني من العام متغير". وعلى صدى هذه الأغاني تُشحذ همم المزارعين ويقوى بأسهم في سبيل نجاح موسم التبسيل الذي تربى عليه كبار القوم منذ نعومة أظفارهم. فقد كانوا ينضمون منذ الصباح الباكر إلى عائلاتهم الزراعية في قطع "عذوق" (أو عراجين) النخيل، ويرافقونهم في كل خطوة، بدءًا من إنزال البسر وفرزه إلى طبخه وتجفيفه؛ حتى أصبح هذا الموسم عُمانيًا بامتياز لا تحيد عنه الأجيال المتعاقبة. ويعلق "محمد بن بدر الحجري"، أحد المزارعين الذين يولون التبسيل أهميته، قائلًا إن هذا الأخير، "عدا عن كونه حرفة ذات أثر اقتصادي تدر على المزارع العُماني الدخل المالي؛ فهو جزء أصيل من هويتنا الزراعية، وقد أصبح اليوم ضمن عاداتنا المتوارثة التي تعزز التعاضد فيما بيننا. ونعلم صغارنا تقدير مصدر رزقنا الوفير هذا.. حتى يحافظوا على إرثنا الاجتماعي العريق".
تحتضن الأراضي الزراعية في عُمان أزيد من 9.1 مليون نخلة (100 ألف نخلة في الأماكن العامة، 8.2 مليون في الممتلكات الزراعية، 800 ألف في البيوت) تُنتج سنويًا ما قَدره 374 ألف طن من التمر، يستهلك منها الفرد الواحد في عُمان زُهاء 60 كيلوجرامًا في العام. علاوةً على ذلك، تغطي أشجار النخيل نسبة 78 بالمئة من المساحة المزروعة بأشجار الفاكهة في هذا البلد. ولدى قطاع التمور أهمية اقتصادية بالغة، إذ يسهم في زيادة الدخل الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة لدى أفراد المجتمع الريفي.
وسط غابات النخيل الشامخة، يتسلق الرجال تلك الأعمدة البنية المتأرجحة، والتي تتوج قممها العذوق الصفراء، لأجل قَطف (أو جَداد) بسر المبسلي؛ فيما تتخذ النسوة لهن مكانًا خاصًا في ناحية بالمزرعة، حيث يُشكلن أشبه ما يكون بحلقة دائرية كبيرة، في انتظار وصول قطوف البسر. ونظرًا لما تكتسيه عملية فرز البسر من أهمية، فإنها توكل إلى النساء في الغالب، وذلك بفضل أياديهن الرفيعة التي "تحنّ" على البسر أثناء انتقائه وتصنيفه واختيار السليم منه واستبعاد كل ما هو مصاب بآفات زراعية مثل حشرة "الدوباس". ولاحقًا، تُنقل الكميات المستبعَدة إلى حظائر الماشية لتكون علفًا لها. بعدها يُطبخ البسر في مراجل ضخمة -تُسمى محليًا بِـ "التركبة"- ممتلئة بالماء. ويُطلق على البسر المطبوخ اسم "الفاغور"، ثم يُترك ليجف أيامًا معدودات في مواجهة مباشرة مع أشعة الشمس الحارقة. وينتهي به المطاف في أكياس مخصصة للبيع في السوق المحلي أو للتصدير.. أو للتخزين في البيوت للاستهلاك طوال السنة.بعد هذه المراحل الطويلة، يُطلق على المُنتج اسم "البسال". يُعد التبسيل من التقاليد المتوارثة بمنطقة الخليج العربي، إلا أنه انحصر في بعض المناطق واندثر في أخرى. ففي الإمارات، اشتهرت منطقة "الذيد" بالشارقة، و"النخيل" في رأس الخيمة بإنتاجها البسال. فيما تُشكل مدينة الأحساء في السعودية، رمزًا زراعيًا آخر لهذا الموسم، حيث يسمى "سلوق".
منذ عام 2014، بدأ "سالم الحجري"، مصور هذا التحقيق، رحلته الطويلة في التوثيق لموسم التبسيل، عندما قرر شراء أول كاميرا احترافية. فالحجري سليل عائلة تمتلك مزرعة في بدية، ما تزال تُسخر جهودها في رعاية أشجار النخيل وتحرص على تعزيز قدراتها في كل صيف، لأجل أن تبقى وفية وحاضرة في هذا الموسم الزراعي. إذ يقول الحجري: "وُلدت بين هذه الحقول الشاسعة من النخيل، واشتغلت يداي في قطف ثماره. فمنذ الطفولة وإلى يومنا هذا ما زلت أحرص على حضور التبسيل ومشاركة عائلتي في كل مراحله". إلا أن لدى الحجري بعدًا آخر يريد أن ينقله عبر عدسته في هذا العمل؛ إذ يزخر أرشيفه بمئات اللقطات التي توثق لهذه الحرفة العريقة. يعلق على الأمر قائلًا: "أهدف إلى إبراز قيمة التبسيل، وكيف يجب علينا أن نرتبط به حتى لا يندثر مثل بعض المهن والحرف التقليدية الأخرى. فالرسالة الفوتوغرافية لأعمالي المصورة هي لفت الأنظار إلى المعنيين بهذا الموسم وأهمية الاستثمار فيه". يُصدَّر جُل إنتاج هذا الحدث الموسمي إلى دول الخليج العربي، ويذهب نصيب منه إلى الهند حيث يُستخدَم في صناعة العديد من الحلويات التي تحوي التمر ومشتقاته، مثل البسكويت.
أعود بكم إلى دولة الإمارات.. ففي كل مرة أزور فيها جدتي، أجدها تتفقد أشجارها، من النخيل إلى المانجو والليمون الأخضر المعروف باسم "اللومي" والقليل من الرمان فضلًا عن حزم البطيخ الممدودة على الأرض في الفناء الخلفي لبيتها. وقد دأبت جدتي منذ سنوات على قطف بسر نخلاتها المفضلة، من نوع النغال والبرحي. وكثيرًا ما كنت أُشاهدها وهي تنتقي ما يناسبها من حبّات البسر. فما تزال هذه المرأة السبعينية تتمتع بنشاط المزارع الذي لا يكترث لتغيرات الحياة، بل تحرص على أن تكون حاضرة في التبسيل وتطبخ بسرها بنفسها على فرن الغاز الحديث. وبالطبع لا أُفوّت فرصة سؤالها عن حرفة التبسيل وما تكتنزه ذاكرتها من معارف وأسرار لا يدركها سوى المزارع؛ فلقد نشأتَ وترعرعت وسط أشجار النخيل العامرة وظلت وفية لها، ترعاها حقّ رعايتها.. كما هو حال كل مزارع يُدرك قيمة هذه الأشجار المباركة.
يستحضر الصحافي "بول سالوبيك"، الذي يواصل سرد القصص عن مسيرته عبر العالم، الرحلة المروعة التي خاضها "الجيش الأحمر" الصيني قبل 90 عامًا؛ كما يلاقي القوى التي تعيد تشكيل الصين الحالية.
تُعرَف بنفورها من الماء، على أنها ظلت فردًا من طواقم السفن منذ بزوغ تاريخ الإبحار.
تعيد أشهر كاتدرائية في فرنسا فتحَ أبوابها بعد خمسة أعوام على اندلاع حريق فيها كاد أن يدمرها بالكامل. وإليكم أطوار إنجاز عملية الترميم المذهلة.. والطريقة التي تم بها إحياء الشعور بالقداسة من جديد.