تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

الفحم وعواقبه حاضران في كل ركن من أولان باتار: رجل يكنس أرض مصنع لمعالجة الفحم، حيث يحوَّل الفحمُ الخام إلى قطع صغيرة تُستخدَم في المواقد المنزلية.

تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

يعجّ حي "داري إخ" في مدينة "أولان باتار" بمهاجرين من القرى، وهم رعاة رحَّل يأتون إلى العاصمة طلبًا للتعليم والوظائف. يعيشون في بيوت بسيطة أو خيام دائرية تسمى "اليورت"، بكهرباء غير كافية أو معدومة، ويتدفّؤون طيلة فصل الشتاء القاسي بحرق الفحم. وقد أظهرت دراسةٌ أن كفاءة عمل الرئة لدى أطفال العاصمة تقل بأربعين بالمئة عن نظيرتها لدى أطفال القرى؛ ما يمثل ناقوس خطر بشأن مشكلات صحية طويلة الأمد.

تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

ترشّ آلةٌ الماءَ لمنع الغبار من التطاير لدى موقع بناء في دلهي. يمكن أن يحتوي هذا الغبار على مواد كيميائية مؤذية، وهو مصدر رئيس لتلوّث هواء المدينة. كما تسهم في تسميم الهواء، النيرانُ الناتجة عن إحراق القمامة والطبخ، ومولّدات الكهرباء التي تعمل بالديزل، ومحطّات إنتاج الطاقة بالفحم. الصورة: Saumya Khandelwal

تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

كان مشهد الباعة وهم يجرفون الفحم الخام شائعًا على طول شوارع أولان باتار؛ إذ لم يكن مستغربًا حينها أن تحرق عائلةٌ واحدة فيها ثلاثة أطنان منه كل شتاء. أما اليوم فقد حظرت الحكومة حرق الفحم الخام وشجعت على استخدام قويلبات (قِطَع) الفحم؛ ومع ذلك، ما زال تلوّث الهواء في المدينة شديدًا إلى درجة خطرة.

تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

الفحم وعواقبه حاضران في كل ركن من أولان باتار: تمثّل محطّات إنتاج الكهرباء بالفحم، مثل هذه المحطة، مصدرًا آخر للتلوّث؛ ما يشكل خطرًا على الصحة والمناخ معًا.

تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

يُخيمُ ضبابٌ مغبرّ على أجواء العمل في مشروع بناء سدّ بمدينة فريد آباد القريبة من دلهي بالهند. ويضم هذا البلد تسعًا من المدن العشر الأكثر تلوثًا في العالم. ويُقدّر عدد الذين توفّوا مبكرًا بسبب التلوّث في الهند عام 2019 بِـ 1.7 مليون شخص. الصورة: Saumya Khandelwal

تلــوث الهــواء..  القـاتل الخفــي

الفحم وعواقبه حاضران في كل ركن من أولان باتار: ناشطةٌ مناهِضة للتلوّث تقف في ميدان "سوهباتار" على مقربة من مبنى البرلمان. ولم تبذل الحكومة المنغولية سوى جهود قليلة لتطوير طاقة نظيفة محدودَة.

تلــوث الهــواء.. القـاتل الخفــي

يتسبب التلوّث في سبعة ملايين وفاة مبكرة كل عام ويمكن أن يكون مؤذيًا حتى عند مستوياته المتدنّية. لكنه مشكلة يمكننا حلّها.

قلم: بيث غاردينر

عدسة: ماثيو بالي

1 ابريل 2021 - تابع لعدد أبريل 2021

عنـدمــا أخــذت جائحــة "كوفيد19-" تعيــث دمــارًا في الأرض، اشتبهت "فرنسيسكا دومينيتشي" في أن تلوّث الهواء كان يزيد أعداد الموتى. وكان ذلك هو الاستنتاج المنطقي من كل شيء علِمه العلماء عن الهواء الملوّث وكل ما كانوا يتعلّمونه عن "كورونا". فالناس الذين يعيشون في أماكن ملوّثة هم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة، ومرضى كهؤلاء هم الأكثر عرضة للإصابة بمرض "كوفيد19-". علاوةً على ذلك، فإن بمقدور تلوّث الهواء أن يُضعف نظام المناعة ويُلهب المجاري التنفسية، جاعلًا الجسم أقل قدرة على صدّ فيروس يهاجم الجهاز التنفسي. وكان كثيرٌ من الخبراء قد رأى الرابط بين الاثنين، ولكن دومينيتشي، أستاذة مادة الإحصائيات البيولوجية في "كلية تي. أيتش. تشان للصحة العامة" لدى "جامعة هارفارد"، كانت أَفضل تجهيزًا لاختبار ذلك. فقد أمضت وزملاؤها سنين طويلة في إنشاء قاعدة بيانات ممتازة تُقارن بين معلومات عن صحة عشرات الملايين من الأميركيين، وموجز يومي عن نوعية الهواء الذي يتنفّسه هؤلاء منذ عام 2000. وقد شرحَت لي دومينيتشي تلك العملية في صيف عام 2020 خلال اتصال بتقنية الفيديو من منزلها في مدينة كامبردج بولاية ماساتشوسيتس؛ وكان أنيسُها في الجائحة -جروٌ أسود من سلالة "لابرادور"- يتلوّى في حضنها. وفي لندن، حيث جلستُ في مكتبي بالمنزل، كانت الاستراحة القصيرة من حركة السير التي وفّرها الإغلاق التام الأول قد انتهت، فعادت سُحب دخان الديزل لتلوّث الهواء.
هنالك أخبرتني دومينيتشي أنها تشتري، في كل عام، معلومات دقيقة عن كلٍّ من المُسِنّين الأميركيين المسجَّلين في برنامج الرعاية الصحية، "ميدكير"، والبالغة أعدادهم نحو 60 مليونًا (لكن لا يُفصَح عن هويّاتهم). وتشمل المعلوماتُ: العمر والجنس والعِرق والرمز البريدي، فضلًا عن تواريخ الوفيات وحالات الإسعاف ورموزها التشخيصية. وتمثل تلك المعلومات نصفَ قاعدة البيانات؛ أما النصف الآخر فهو إنجاز بحدّ ذاته. فبقيادة دومينيتشي و"جول شوْورتس"، عالِم الأوبئة لدى "جامعة هارفارد"، قام عشرات العلماء بتقسيم الولايات المتحدة إلى شبكة مربّعاتٍ، طولُ ضلع كلٍّ منها كيلومترًا واحدًا. ثم درّبوا برنامج تعلّم آلي على حساب المستويات اليومية للملوّثات، على مرّ 17 عامًا، في كل مربّع؛ حتى وإن لم يكن في المربّع جهاز لمراقبة التلوّث.

وبوجود هاتين المجموعتين النفيستين من البيانات، استطاعت دومينيتشي وزملاؤها، أول مرة، دراسة تأثيرات تلوّث الهواء في كل ركن من الولايات المتحدة. وأفضى بهم ذلك إلى بعض الاستنتاجات المقلقة. ففي دراسة صدرت عام 2017، وجدوا أنه حتى في الأماكن التي طابق الهواءُ فيها المستويات المحدَّدة وطنيًا، اقترنَ التلوّثُ بمعدل وفيات أعلى؛ ما يفيد أن "المستوى المحدَّد ليس مأمونًا"، وفق تفسير دومينيتشي. بعد عامين، أفاد الفريقُ ذاته أن حالات نقل الناس إلى المستشفيات نتيجة مجموعة كبيرة من الأمراض (من بينها حالات كالفشل الكلوي وتعفن الدم، لم يحظَ اقترانها بالتلوّث بقدر كاف من الدراسة) كانت تزداد كلما زادت نسبة التلوّث. وأُضيفت تلك النتائج إلى كمية ضخمة من الأدلة التي تُظهر مخاطر جُسَيمات (PM2.5)، وهي جسيمات معلّقة في الهواء أصغر من 2.5 ميكرومتر، أي أن قُطرَها يَصغر قُطر شعرة بشرية بنحو 30 مرة. ويمكن لبعض تلك الجسيمات -الناجمة عن السخام مثلا- العبورَ إلى مجرى الدم. وقد وجدها العلماء في القلب والدماغ والمشيمة؛ بل وجدوا في هذه الأعضاء حتى جُسيمات أرفع منها.
وعندما عصفت الجائحة بالبشرية، قررت دومينيتشي وفريقها سريعًا قراءةَ تلك البيانات الخاصة بنوعية الهواء على مستوى الولايات المتحدة، في ضوء سجلّ وفيات مرض "كوفيد19-" الذي أنجزته "جامعة جونز هوبكنز" لكل محافظة من محافظات البلد. وكما كان متوقعًا، كانت معدلات الوفيات بالفيروس أعلى في الأماكن التي حوَت كميات (PM2.5) أكبر.. وهي الأماكن التي كانت أجسام الناس فيها أكثر استعدادًا لأن تتأثر بفيروس "كورونا" بعد تعرّضهم فيها للهواء الفاسد عقودًا طويلة. وعلى مستـوى العالـم، أفـاد الفريـق في ديسمبر 2020، أن التـلوّث بالجسيمات الهوائية سبّب 15 بالمئة من وفيات "كوفيد19-". أما في دول شرق آسيا شديدة التلوّث، فبلغت النسبة 27 بالمئة. وقد صدمَت تلك النتائجُ كثيرًا مِمَّن هُم خارجَ الوسط العلمي؛ وذاع صيتُها في وسائل الإعلام. قالت دومينيتشي: "لم يكن الأمر مفاجئًا لي على الإطلاق؛ بل كان منطقيًا تمامًا". كيف لا، وقد كانت تَعلم ما لا يَعلمه كثيرٌ من العامّة، ألا وهو أن الهواء الملوّث يقتل من الأشخاص أعدادًا أكبر بكثير -وبثبات أكبر بكثير- مما يفعله "كورونا".
وتُفيد "منظمة الصحة العالمية" أن تلوّث الهواء يتسبب في نحو سبعة ملايين وفاة مبكرة على مستوى العالم في كل عام؛ أي أكثر من ضِعفَي ما يسببه استهلاك الكحول، وأكثر من خمسة أضعاف ما تسببه حوادث السير. (بل إن بعض البحوث يُفيد أن عدد ضحايا التلوّث يفوق تقديرات هذه المنظمة). ومعظم تلك الوفيات ناتج عن تلوّث الهواء الخارجي؛ فيما يُنسب الباقي أساسًا إلى الدخان الصادر عن مواقد الطهي الداخلية. وصحيح أن أغلب الوفيات يحدث في الدول النامية -ونصف ذلك في الصين والهند وحدهما- لكن تلوّث الهواء يظل قاتلًا لا يُستهان به في الدول المتقدمة أيضًا. ويُقدّر "البنك الدولي" التكلفةَ الاقتصادية لذلك على مستوى العالم بأكثر من خمسة تريليونات دولار سنويًا. وفي الولايات المتحدة، بعد مرور 50 عامًا على اعتماد الكونغرس "قانونَ الهواء النظيف"، ما زال أكثر من 45 بالمئة من الأميركيين يتنفّسون هواءً غير صحّي، وفقًا لِـ"جمعية الرئة الأميركية". كما أن هذا الهواء ما زال يتسبب بأكثر من 60 ألف وفاة مبكرة سنويًا؛ من دون حساب الآلاف المؤلَّفة الذين قضوا لأنه جعلهم أكثر عرضة لتداعيات "كوفيد19-". فالتلوّث قاتلٌ خفي؛ على أنه لا يُدرَج في شهادات الوفاة بوصفه مُسبِّبًا. ولعلنا اليومَ نستعين بتداخله مع التهديدات المرعبة الجديدة (فيروس "كورونا" الهائج والحرائق المدمّرة) لإدراك الأضرار التي ظل يُحْدثها منذ زمن؛ على حد قول دومينيتشي. ولكن في ديسمبر 2020، إذْ قررت "وكالة حماية البيئة" الأميركية عدم تشديد المعايير الوطنية لنوعية الهواء فيما يخص جسيمات (PM2.5) فحافظت عليها عند مستوياتها الحالية، فإنها بذلك تجاهلت بحثَ دومينيتشي بل حتى بحثَ علمائِها الخاصين. إذ كانوا قد استنتجوا حسابيًا أن تخفيض المستوى السنوي بمقدار 25 بالمئة سينقذ حياة 12 ألف شخص في العام.

معدلات الوفيات بالفيروس تكون أعلى في الأماكن التي فيها أكبر تلوّث بالجسيمات المنتشرة في الهواء.

وكانت الخلاصة القاسية بشأن الهواء الملوَّث (والتي مفادها أنه كلما ازداد، قصُرت أعمار من يتنفّسونه) قد أُثبتت بصورة حاسمة عام 1993، مـن خـلال مشـروعٍ رائد عُرف باسم دراسة "المدن الستّ". إذ أظهرت تلك الدراسة أن الناس الذين عاشوا في المدن الأكثر تلوّثًا بين المدن الأميركية الصغيرة الستّ التي درسها باحثوا "جامعة هارفارد" كانوا أكثر عرضة للوفاة بنسبة 26 بالمئة من الذين عاشوا في أنظف تلك المدن. وكان التلوّث يقتطع زُهاء عامين اثنين من أمَد حياة هؤلاء. يقول "دوغلاس دوكري"، المؤلف الرئيس للدراسة: "كانت النتائج مفاجِئة جدا جدا. وفي الواقع، وجدنا التأثير كبيرًا إلى درجة لم نصدّقها". على أن مجموعة بيانات طويلة الأمد أخرى من "الجمعية الأميركية للسرطان" ما لبثت أن أكّدت النتائج. ومُذّاك، أظهر مزيد من البحوث حقيقتين أساسيتين أخريين عن تلوّث الهواء، هما: أنه مؤذٍ جدًّا حتى في أدنى مستوياته، على خلاف ما كان يُعتقد سابقًا؛ وأنَّ أذاه يتخذ أشكالًا أكثر بكثير. وقد صُدم "دين شراوفناغل"، وهو أستاذ في طب الرئتين لدى "جامعة إلينوي" بمدينة شيكاغو، بمدى تنوّع أذى الهواء الملوّث عندما ترأّس في عام 2018 لجنةً علمية قامت بمراجعة واختصار بحوث تم إنجازها على مرّ عقود من الزمن. 
وأفادت لجنتُه أن الهواء الملوَّث يؤثر في جميع أنظمة الجسم الأساسية تقريبًا. فقد يتسبّب في نحو 20 بالمئة من وفيات السكتات الدماغية وداء الشريان التاجي، مثيرًا النوبات القلبية واضطرابات نبض القلب، وقصور القلب وارتفاع ضغط الدم. ويقترن بسرطانات الرئة والمثانة والقولون والكلى والمعدة، إضافةً إلى سرطان الدم عند صغار السن. ويضرّ تلوّث الهواء بالنمو الإدراكي لدى الطفل ويزيد من خطر إصابة المُسنّين بالخرف أو وفاتهم بمرض باركنسون. وثمة دلائل قوية على علاقته بداء السكّري، والبدانة، وهشاشة العظام، وانخفاض معــدل الخصوبة، والإجهاض التلقائي، واضطرابات المزاج، وانقطاع النفس النومي.. والقائمة تطول. قال شراوفناغل: "كان اتساع نطاق الأذى، أكثر ما أثار دهشتنا". ولكنْ، للقصة وجه آخر يبعث على التفاؤل: فالهواء الأنظف مَجْلَبةٌ لصحة أفضل. ومنذ إصدار "قانون الهواء النظيف" عام 1970، كان انخفاض التلوّث بنسبة 77 بالمئة قد أطال في أعمار ملايين الأميركيين. ووفق تقديرٍ لوكالة حماية البيئة الأميركية، فقد منعت تعديلاتُ عام 1990 على القانون حدوثَ 230 ألف وفاة في عام 2020 وحده.
أما في مناطق أخرى من العالم، فإن الهواء أسوأ بكثير. وقد زرنا، أنا والمصوّر "ماثيو بالي"، مدينة أولان باتار المنغولية، إحدى أكثر العواصم تلوّثًا في العالم، وبخاصة في الشتاء القارس القاسي، عندما يصبح الفحم وسيلة للنجاة. فالفحم فيها يُحرَق بالأطنان لدى محطات إنتاج الكهرباء، وبالأكياس في خيام "اليورت" المنغولية التقليدية التي يسكنها مهاجرو الريف الفقراء. يقول "غانجارغال ديمبيريل"، وهو طبيبٌ يَعود المرضى في أحد تلك الأحياء: "لم أعد أذكر صوت الرئة السليمة.. فجميعهم مصابٌ بالتهاب القصبات أو يعاني مشكلة صحية أخرى، وبخاصة في الشتاء". بل حتى الأوروبيون المتقدمون على الصعيد البيئي يعيشون بمستوًى من التلوّث أسوأ بكثير مما يكابده الأميركيون. ففي منطقتَي شرق أوروبا ووسطها، ما زال دخان الفحم المدمّر للصحة والمناخ معًا يتدفق من مداخن المنازل ومحطات إنتاج الكهرباء. وفي لندن، حيث عشت 20 عامًا، كان دخان الفحم فيما مضى يغطي المدينة بلحاف قاتل من الضباب الكثيف، ولكن من رحمة اللّه أن تلك الأيام قد ولّت. ومع ذلك، أصبحت بريطانيا وجاراتها في القارة الأوروبية تعاني تأثيرات وقودٍ سامّ آخر: الديزل. لطالما كان الديزل -وهو أقذَر من البنزين- مرغوبًا في أوروبا لأن المَركبات تقطع به مسافات أطول قليلًا مما تقطعه بالبنزين. فالدخان يغشى الطرق السريعة في كل من باريس وبرشلونة وروما وفرانكفورت، كما هو الحال في لندن؛ فيجعل هواءها كثيفًا إلى درجة أنه يكسو أسنان المرء بطبقة من الحُبيبات الخشنة. وأشعرُ بالفرق كلما عدت إلى نيويورك واستنشقت هواءً أنظف من هواء لندن. وعندما أفكّر ببريطانيا، ينتابني القلق مما قد يفعله ذلك الدخان بابنتي المراهقة، التي ما زالت رئتاها تنموان، وهما عرضة للتأثّر. لكن أصل مشكلة الهواء في أوروبا ليس محصورًا في استعمال وقود بعينه، بل كذلك في الإخفاقات السياسية والتنظيمية التي تسمح لمصنّعي السيارات بالإفلات من مسؤولية بيع سياراتٍ تجاوزت انبعاثاتها الغازية الحدودَ القانونية. ففي عام 2015، اكتشف الناس أن شركة "فولكس فاغن" كانت قد برمجت 11 مليون سيارة تعمل بالديزل بما يدعى "أدوات إحباط"، وهي برمجيات فعّلت أجهزة مراقبة التلوّث خلال الاختبارات لكنها عطّلتها بقية الوقت. وقد أجبرت السلطاتُ الأميركية الشركةَ على إنفاق مليارات من الدولارات لتعويض الزبائن وإصلاح السيارات أو إعادة شرائها منهم. لكن أوروبا سمحت لواحد وخمسين مليون سيارة وشاحنة مغلقة (من شركات متعددة لتصنيع المركبات) بالبقاء على الطرق، مطلقةً انبعاثات لثاني أوكسيد النيتروجين أكبر من الحد المسموح به بثلاثة أضعاف أو أكثر، وفقًا لجماعة الضغط التي تحمل اسم "الاتحاد الأوروبي للنقل والبيئة". وقد توصّلت إحدى الدراسات إلى أن هذا التلوّث الزائد يتسبب بنحو 7000 وفاة مبكرة سنويًا.
وبدلًا من أن تجبر أوروبا المصنّعين على جعل سياراتهم تخضع للمعايير البيئية، فإنها في الغالب تلقي بعبء معالجة المشكلة على كاهل المدن. على امتداد القارة، تحظر السلطات المحلية أقذر السيارات أو تُغرّم أصحابها. وهي خطوة واحدة نحو تحقيق هواء أنظف. وهناك مؤشرات على أن إجراءات كهذه تدفع السائقين بعيدًا عن الديزل؛ لكن هذه الجهود المتفرّقة لا تقارب في فعاليتها الفعاليةَ التي يمكن أن يكون عليها إجراءٌ تتخذه جهات رسمية عليا.

على مستوى العالم، أسهم التلوّث بالجسيمات المنتشرة في الهواء بما نسبته 15 بالمئة من وفيات "كوفيد-19".

ليس الديزل والفحم وحدهما ما يسبب تلوث الهواء في أوروبا أو أي مكان آخر. فدخان الخشب الذي ينبعث من المصطليات والمواقد، وهو دخان كثيف محمّل بجسيمات (PM2.5)، مشكلةٌ متنامية. وقد أتاح الإغلاق التام في عام 2020 فرصةً غير متوقعة لرؤية ما يحدث عندما يتوقف بعض مصادر التلوّث مؤقتًا. فبينما كان الفيروس يدمر شمال إيطاليا في الربيع، وجد عالِما الاقتصاد، "فالينتينا بوسيتي" و"ماسيمو تافوني"، وهما زوجان يعملان لدى "المعهد الأوروبي للعلوم الاقتصادية والبيئة" (وهو مشروع مشترك لمنظمة "موارد للمستقبل" الأميركية و"المركز الأوروبي المتوسطي للتغيّر المناخي") في مدينة ميلانو، نفسيهما عالقين في المنزل مع أبنائهم الثلاثة. قالت لي بوسيتي مازحةً وهي تشكو معاناتها وزوجها مع الإغلاق التام: "بدلًا من أن يقتل أحدنا الآخر ونقتل الأولاد، وجدنا في لحظةٍ ما بيانات جديدة بين أيدينا؛ فقررنا النظر فيها".
فمع أن المواصلات والصناعة أُوقفتا -مع استثناءات قليلة- فقد وجد الزوجان أن نوعية الهواء لم تتحسّن بالقدر الذي توقّعه السكان المحليّون. قالت بوسيتي: "كانت الصحف تتحدث عن سماء صافية وتقول إن كل شيء على ما يرام؛ لكن الحال لم يكن كذلك تمامًا". فأجهزة مراقبة التلوّث البعيدة عن الطرق والمصانع سجّلت انخفاضًا في جسيمات (PM2.5) لم يتجاوز 16 بالمئة، وانخفاضًا في ثاني أوكسيد النيتروجين لم يتجاوز 33 بالمئة. وقد تَبيّن أن قطاعًا اقتصاديًا كبيرًا كان لا يزال يلوّث الجو إذ بقي الناس حبيسي منازلهم؛ ألا وهو الزراعة. فالزراعة الصناعية الحديثة ملوِّثٌ رئيسٌ للبيئة. وصنّفَت إحدى الدراسات الزراعةَ على أنها أكبر مَصدرٍ أوحد لجسيمات (PM2.5) في أوروبا وشرق الولايات المتحدة وروسيا وشرق آسيا. إذ تطلق كمياتٌ هائلة من السماد العضوي (الزبل) -إضافة إلى الأسمدة الكيميائية- غازَ النشادر الذي يتفاعل مع ملوّثات أخرى في الهواء لإنشاء تلك الجسيمات الدقيقة. ولطالما فهم العلماء ذلك، لكن بوسيتي تأمل أن يساعد العرض الجلي في عالم الواقع على نشوء إرادة سياسية لاتخاذ إجراء مناسب.

 

وحيـش يأبى الثبات

وحيـش يأبى الثبات

ترقُّبُ اكتشافات الديناصورات يعني أن وجهة النظر بشأنها لا تفتأ تتغير.

مــاذا لــو اختفــت الشمس.. الآن

استكشاف

مــاذا لــو اختفــت الشمس.. الآن

وُهِبنا في هذه الحياة، نحن البشر وسائر المخلوقات الأخرى، أشياء مجانية كثيرة؛ لعل من أبرزها ضوء الشمس. ولكن هل تساءل أحدٌ منّا يومًا عمّا سيحدث لو أن الشمس اختفت من حياتنا؟

لحظات مذهلة

لحظات مذهلة

يحكي مصورو ناشيونال جيوغرافيك، من خلال سلسلة وثائقية جديدة تستكشف عملهم، القصصَ التي كانت وراء صورهم الأكثر شهرة.