تفيد الإحصاءات أن 130 مليون امرأة عشن خارج بلدانهن الأصلية في عام 2019. وفي ذلك العام وحده، أجبَرَ المرض والكوارث الطبيعية والعنف والفقر عشرات الملايين منهن على النزوح في ربوع الوطن أو خارجه.
تهاجر ملايين النساء عبر العالم كل عام بحثًا عن حياة جديدة، يحدوهن في ذلك الخوف أو الأمل أو.. اليأس.
لم ترغب "رحمة حسن محمود" قَط في مغادرة الديار في أرض الصومال لولا أن دورة جفاف متلاحقة أحالت الأنهار إلى غبار وأتت على الكلأ الذي تقتات عليه ماشيتها. وفي فيتنام، اضطر الفقر "نغوك توين" للزواج المرتَّب سلفًا في سنغافورة من أجل كسب لقمة العيش وإعالة أفراد عائلتها في الوطن. تشكل النساء نحو نصف المهاجرين دوليًا وداخل حدود بلدانهم. يسعى بعضهن وراء الحلم بمستقبل أفضل، أما من يواجهن المجاعة أو تحيق بهن المخاطر في بلدانهن فتصير الهجرة مغامرة من أجل البقاء على قيد الحياة. في هذا التحقيق، يستكشف مصورو (The Everyday Projects) -وهي شبكة دولية مهمتها دحض الصور النمطية من خلال تقديم وجهات نظر متنوعة- دورَ المِحَن والإكراهات والعنف والفقر والتغير المناخي وقوى أخرى في تقويض حياة النساء، فتدفعهن دفعًا إلى خوض رحلات تغير حياتهن. وقد أفادت "منظمة الهجرة الدولية" أن 272 مليون شخص -130 مليونا منهم نساء- كانوا يعيشون عام 2019 في أرض غير أرض مولدهم. يعيش أزيد من 60 بالمئة من هؤلاء المهاجرين في آسيا وأوروبا. ومع ذلك، فإن معظم الهجرة الدولية له طابع إقليمي؛ وتزداد وتيرته بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء.
وفي العقود الأخيرة، ما فتئت النساء يهاجرن إلى بلدان غنية ليصبحن أنفسهن مُعيلات وليس فقط للانضمام إلى أفراد عوائلهن. ويَشغلن وظائف في مجال رعاية الأطفال والمسنين والأعمال المنزلية، فضلا عن الصناعة والزراعة؛ وهو تَحول يوصف بكونه "تأنيثًا للهجرة". والراجح أن المهاجرات اللائي يعشن في الخارج يكن ذوات مؤهلات زائدة عن متطلبات تلك الوظائف، ويكسبن أقل من الرجال، ويرسلن إلى عوائلهن في الوطن نصيبًا كبيرًا ممّا يكسبن. وبخصوص النساء الهاربات من العنف والفقر، فالطرق السرية التي يسلكنها تزيد عرضتهن لتجارة الجنس، والاعتداء والاغتصاب. أما النساء اللواتي يقصدن بلدانًا ذات قوانين هشة، أو المهاجرات اللائي لا وثائق ثبوتية لهن، فقد يكون تأمين الحقوق الأساسية بالنسبة إليهن ضربًا من المستحيل. ولقد ارتفع عدد المهاجرين القسريين بسبب اللجوء أو طلب اللجوء، بنسبة 8 بالمئة سنويا بين عامي 2010 و2017، مقارنة بمعدل الهجرة الدولية الذي يقل عن 2 بالمئة. وشكلت النساء نحو نصف الذين اضطروا للهجرة عام 2019، وعددهم 33.8 مليون. وفي عام 2019، اضطر 33.4 مليون شخص -أزيد من نصفهم نساء- للتنقل داخل بلدانهم، وكانت الكوارث الطبيعية سببًا في 75 بالمئة من الحالات. ويُقَدِّر "البنك الدولي" أن جائحة "كوفيد19-" أدت في عام 2020 إلى انخفاض غير مسبوق بنسبة 20 بالمئة من التحويلات المالية العالمية إلى بلدان الأصل. ويؤجج الخوف والغضب والفقر مشاعرَ الاستياء وكراهية الأجانب؛ وغالبًا ما يُعد المهاجرون أكباش فداء ويوصفون بأنهم ناقلو أمراض أو تُلقى عليهم لائمة شرور المجتمع التي تفاقمت مع تفشي الوباء. على امتداد الصفحات التالية، نروي حكايات أربع مهاجرات لإلقاء الضوء على جوانب من تجربة الانتقال: قرار الرحيل، وما تخلل الرحلة من أمل وما حفَّها من مخاطر؛ والوصول في ظروف غير مألوفة؛ والتأقلم مع حياة جديدة؛ وإدراك أن الهجرة قد تكون طريقا نحو الحرية مهما بلغت متطلباتها أو صعوبة الانسلاخ من جِلد الوطن.
الصومال
الرحيل..أو الموت
فقدت كل شيء تقريبًا لمّا أتى الجفاف على ماشيتها. وتُمضي وقتها الآن في مخيم نازحين.
كانت الأغنام أول ما امتدت إليه يد الموت، إذ ازدادت نحافة وفتورا بسبب قلة الكلأ، وتلاشى ثغاؤها. تقول "رحمة حسن محمود": "كانت الماشية تَنفق حوالينا كشيء مسموم". كانت رحمة وعائلتها رعاةً في قرية "هايا" في وسط "أرض الصومــال" (وهي دولـة معلَنة من طرف واحد وغير معترَف بها داخل الصومال) يُربّون 300 من الماعز والغنم و 20 من الإبل. في غضون أربعة أسابيع من الجفاف في عام 2016، نفقت كل حيواناتهم. دأب الرعاة الصوماليون أشباه الرحل على حساب السنين بهطول الأمطار بانتظام، ولاحظوا خلال الأعوام العشرين الماضية أن الأمطار جاءت متقطعة ولم تعد تساير إيقاعات الحياة الأخرى مثل أوقات ولادة ماشيتهم. تقول "سارة خان"، رئيسة المكتب الفرعي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة: "إذا كان ثمة من لا يزال يشك في التغيرات المناخية، فما عليه سوى القدوم إلى هنا".
تقول رحمة إنها تبلغ من العمر نحو 36 عامًا. وُلدت في العام الذي أطلقت عليه جماعتها اسم "بيو بادان"، أي "الماء الوفير". شهدت في حياتها موجات جفاف حادة تضرب نحو مرتين كل عقد، لكن جفاف عامي 2016 و 2017 دمر نحو 70 بالمئة من الاقتصاد الرعوي في أرض الصومال، وهو القطاع الأولي. وبسبب شح المطر، اختفت أنهار وبحيرات كانت مصدر عيش أجيال من الرعاة. وفي عام 2016، جفت الآبار في هايا للمرة الثانية خلال خمسة أعوام. استأجر سكان القرية شاحنات لجلب المياه من مدينة أخرى، لكن في الغالب "شعرنا بالعطش"، على حد تعبير رحمة. لم يكن أهل القرية يغسلون ثيابهم. وعلى خلاف العام الذي وُلدت فيه رحمة، لم يطلق السكان أي اسم على العام الأجدب، آملين أن يصير ذلك الزمن نسيًا منسيا. تقول رحمة: "كانت الحياة التي عشنا من قبل كالحياة في قلعة. كنا نبيع الماعز ونحصل على اللحم والزبدة. لم نكن بحاجة إلى مساعدة من أحد. بل كنا نساعد الآخرين لأننا كنا نمتلك ما يزيد على حاجتنا".
لا يقيس الرعاة الصوماليون الثروة بما يمكنهم شراؤه، بل بحجم قطعانهم. ومن ثم كان فقدان قطعان الماشية بمنزلة احتراق منزل المرء وسرقة سيارته وإفراغ حسابه المصرفي في اليوم نفسه. كانت الأجواء في هايا مليئة برائحة موت منبعثة من آلاف الجثث المتعفنة، لكن عائلة رحمة صمدت طيلة ثلاثة أشهر إذ تفاقم جفاف عام 2016. كانت العوائل ذوات الإبل الناجية تتقاسم الألبان مع من نفقت قطعانهم. ومع تضاؤل كميات الطعام، احتفظ البالغون بالحصص الأكبر للصغار. تقول رحمة إن الإسهال تفشى وخشي الناس على حياتهم. ومع نفوق كل ماشية أهل القرية، جمعوا أموالهم واستأجروا شاحنة لتقلهم نحو مخيم نازحين داخليين على مقربة من بوركو في وسط أرض الصومال. ويُقَدِّر "البنك الدولي" أن 143 ميلون شخص في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا وأميركا اللاتينية سيضطرون للنزوح داخل بلدانهم في أفق عام 2050 بسبب الظروف المناخية. واليوم تقطعت السبل برحمة ونحو 600 ألف آخرين في مخيمات في أرض الصومال، حيث يعتمدون على المساعدات الإنسانية لتأمين المأكل والمشرب. لم تفقد رحمة الأمل. سَمَّت ابنتها الصغرى التي ولدت في المخيم، "بارواقو"، وهي كلمة تحمل في طياتها معاني الرخاء والوفرة والسعادة التي تصاحب صحة القطعان وغزارة الأمطار وخضرة الأرض. فقدت رحمة كل شيء تقريبا، لكن اسم ابنتها تعبير عن الامتنان لبقاء عائلتها على قيد الحياة؛ وذلك في تقديرها الثروة الحقيقية.
فيتـنـام | سنغافورة
العَقد
عزمًا على ضمان أمن مالي، غامرت بمغادرة موطنها بإحدى قرى فيتنام لعقد زواج مرتَّب برجل من دولة أغنى.
فـي يوم زفافها، كانت "نغوك توين" محاطة بغرباء. جلست على مقعد خشبي في حديقة سنغافورة النباتية، مرتدية فستانا أحمر مع حواف سوداء واعتمرت رباط رأس من زهور الأقحوان المزينة بالخرز. قابلت العريس قبل شهرين، ولم تتعرف إلى عائلته إلا بعد وصولها منذ 16 يوما. ترجم وسيط زواجٍ الحفلَ إلى الفيتنامية، وختم العروسان فعالية عَقد قرانهما بقبلة جافة على الشفتين. بعد التوقيع على كثير من الوثائق، صار زواج توين رسميًا. تقول: "إنها بداية جيدة. أريد العمل في القريب العاجل". هاجرت توين من أجل الزواج؛ وهي واحدة من عشرات آلاف الفيتناميين الذين دأبوا على ذلك خلال العقد الماضي، جلهم من النساء. غالبا ما يبدأ الأمر مع وسطاء زواج يخبرون النساء في القـرى والبلـدات بشـأن رجال زائرين من كوريا الجنوبية والصين وتايوان وسنغافـورة. هكـذا التقـت تويـن (34 عاما) "تـوني كونغ" (45 عاما). ظهـرت صورتـه على جـدار وسيط زواج على "فيسبوك" مع عنوان في مدينة "هوشي منه" وموعد مقابلته الزوجات المحتملات واستجوابهن. الشروط واضحة: تأتي النساء مستعدات للتفاوض بشأن رواتب لهن ولعوائلهن، ويعلن الرجال أجورهم. تريد النساء لقاء جمالهن وشبابهن ومؤانستهن، استقرارًا ماليًا.. وفي حالة توين، فرصة العمل وإرسال المال إلى عائلتها. فالتحويلات المالية أمر بالغ الأهمية بالمناطق الريفية الفقيرة في فيتنام.
يقول "مارك لين"، وسيط ومالك لوكالة زواج سنغافورية، إن "الأمر لا يتعلق بالحب". لمّا سُئل لين هل زبائنه من الرجال وسيمون، غيَّر تعابير وجهه قبل أن يرد بدبلوماسية: "هذا أمر نسبي". يُدرك لين أن تجارته قائمة على التفاوت الاقتصادي. ففي سنغافورة، يبلغ معدل الدخل السنوي 92 ألف دولار، مقارنة بـ 7750 دولارا في فيتنام. ومهما كانت الأسباب التي تَحُول دون عثور زبائنه على زوجات من بنات بلدهم، فإنهم على الأقل يمتلكون مالا أوفر من الرجال في فيتنام. طلبت توين إلى توني راتبًا شهريا قدره 370 دولارا، ففاوضها على 220 دولارا، وهو المبلغ الذي قد يدرّه عليها العمل في كشك طعام في بلدها. لا يكفي المبلغ لإعالة عائلتها، لكنها تأمل الموافقة على تصريح عملها لتجد وظيفة في صالون زينة أظافر وتتمكن من تحويل المال إلى والديها وابنها البالغ من العمر خمسة أعوام. لكي تبقى الزوجة المهاجرة في سنغافورة وتعمل فيها، يجب عليها بادئ الأمر طلب الحصول على تصريح زيارة طويل الأمد، يُجدده الزوجُ كل عام أو عامين. فإن لم يفعل، قد تفقد المرأة وثائقها وربما أي أطفال ولدوا من الزواج. دأبت المحاكم على منح حق الحضانة للوالد السنغافوري؛ إذ يستفيد الأطفال من كونهم مواطني هذا البلد. أما الأمهات اللائي يعتمدن على الأزواج للبقاء في سنغافورة، فقد يتعرضن لسوء المعاملة والإهمال والخيانة، وفقًا لإفادات تقارير إخبارية ومنظمات تقدم خدمات الدعم.
تقول توين، التي تكلم زوجها بلغة صينية رديئة، إنها لا تَعلم ما حاجته بها، ولكنها تطهو له وتؤنسه. لا تَعلم إنْ كانت ستحصل على تصريح الزيارة طويل الأمد، ولا متى قد يكون ذلك. يعتمد الأمر على الأجرة الشهرية للزوج، وتوني عاطل عن العمل. لا تعلم توين إن كان ابنها سيلحق بها في سنغافورة أو إن كانت ستقدر على دعمه. لكن في يوم زفافها، كانت توين مستعدة لأداء دور العروس حديثة العهد بالزواج. تقول: "أنا سعيدة للغاية". ثم سألَت المترجم مرة أخرى متى سيُسمح لها بالعمل.
ميانمار | أستراليا
العثور على السلام
بعد الفرار من الاضطهاد الديني وتجشم رحلة مضنية، عثرت رفقة عائلتها على الحرية والدعم في وطن جديد.
فـي البدء لم تَعلم "ساجدة باهادورميا" (26 عاما) إن كان الرجال الذين يرتدون الزي العسكري سيؤذونها. كان ذلك عام 2013، وقد أمضت 14 يوما -من 23 أبريل إلى 6 مايو- في قارب مع زوجها "نعيم الله" وأربعة أطفال، يمخرون عباب بحر تيمور من مدينة ساحلية في إندونيسيا إلى مدينة داروين في أقصى شمال أستراليا. كان القارب البالغ طوله 45 مترًا مكتظا بأزيد من 100 مهاجر؛ من "الروهينغا" أمثالهم الفارين من الاضطهاد في ميانمار، فضلا عن عشرات من البنغاليين وصوماليَيْن اثنين. كلما ارتطمت ببدن المركب موجةٌ، كانت ساجدة تحبس أنفاسها وتضم بإحكام إلى خصرها ابنها ذا العام الواحد، فيما أسماك القرش تحوم في المياه المظلمة. سألتها ابنتها "أسماء"، البالغة من العمر آنذاك 10 أعوام: "هل سنموت جميعا؟". تقول ساجدة: "لقد رسخ ذلك في ذهني. فكرت: إذا أنجاني الله، فلن أعرض أبنائي للخطر مرة أخرى".
لمّا أدركتهم البحرية الأسترالية، خافت ساجدة أن ينهال البحارة عليها بالضرب أو يهينونها أو يعتدون عليها بطريقة عناصر جيش ميانمار في الوطن. لكنهم كانوا لطفاء، على حد تعبيرها. لقد احترموا العادات الإسلامية، وأجرت النساء فحوصات طبية للاجئين الذين نُقلوا إلى مركز احتجاز في داروين. لطالما اضطهدت حكومة ميانمار الروهينغا، الأقلية المسلمة في البلد. مع اندلاع شرارة العنف عام 2012، اضطرت ساجدة وعائلتها للمغادرة، وبحلول نهاية عام 2017، فر زهاء مليون من الروهينغا إلى بنغلادش المجاورة وأماكن أخرى. تذكر أسماء -البالغة من العمر الآن 16 عاما- الأوقات التي كان فيها العسكر يقتحمون البيوت، وقالت: "لا يمكن للمرء الوثوق بالليل". لقد اغتصبوا النساء وسحلوا الرجال في الشوارع، وكانوا يعتقلونهم أو يستعملونهم في الأشغال الشاقة. وحظرت حكومة ميانمار كلمة "روهينغا".
خلال الأشهر الثلاثة التي قضوا في مركز الاحتجاز، شعرت أسماء وساجدة بالإهانة لأن السلطات كانت تخاطبهم بالأرقام وفقًا للقارب الذي وصلوا على متنه: ROM006 و ROM007. ومع ذلك، سرعان ما بدؤوا ولوج حياتهم الجديدة. عندما شرعت أسماء في ارتياد المدرسة العامة، لم تكن تتحدث الإنجليزية، لكنها كانت تبتسم وتضحك مع زملائها الأستراليين وهم يتناولون النقانق. تقول أسماء عن هذه الأكلة: "لقد أصبحت مهووسة بها في داروين". مع مرور الوقت، أعيد توطين ساجدة -البالغة من العمر الآن 32 عاما- وعائلتها في سيدني بموجب برنامج أسترالي دفع تكاليف رحلاتهم الجوية ودعم نفقات معيشتهم خلال الأشهر الأولى. كانوا، بوصفهم لاجئين، مخولين للحصول على المساعدة الحكومية. اكتشفت ساجدة صلصة "الكاتشاب" وأغرمت بالشواء الأسترالي. تطوعت في مطبخ مجتمعي، وحصلت على وظيفة بدوام جزئي في مدرسة أطفالها، وتعلمت قيادة السيارة. انتقلت العائلة إلى بيت جديد في لاكيمبا، إحدى ضواحي سيدني حيث تستعمل لغة الروهينغا في الشارع. رأت الفرحة في عيون أطفالها حين فتحوا باب منزلهم الأول.
تقول أسماء: "لقد ظهرت كلمة 'حرية' من حيث لا نحتسب. قُدِّر لي أن أكون هنا. إن دواخلي تفيض بهذا الشعور بالانتماء". في ميانمار، قد يُقتل من يجاهر بالحديث. أما في أستراليا، فقد سمعَت ساجدة الناس يعبّرون عن أفكارهم، وحذت حذوهم. وقفت خارج المسجد في لاكيمبا وهي ترى المسلمين يخرجون إلى الشارع بعد أداء الصلاة، وقالت مستغربةً من المشهد: "لم أر هذا قَط من قبل".
باكستان
خيارات جديدة
هربنَ من العنف في مدينتهن، واخترن متابعة الدراسة؛ فعثرن على ثقافة أكثر انفتاحًا تلهم الإبداع والاكتشاف.
مـدينة كويتا الباكستانية محاطة بالجبال الشاهقة المكسوة بالثلوج. لكن "فرحين" (22 عامًا) لم تغامر قط بالذهاب إلى تلك الجبال. كانت تتفادى أسواق المدينة، ونسجت صداقات محدودة، وابتعدت عن الأولاد. تحب الرقص، لكنها لا تفعل ذلك إلا أمام المرآة في البيت. تُنعت النساء في ثقافتها بالخزي -أو أسوأ- إن رقصن. تقول: "لست محافظة. بل خائفة". تحمل فرحين الاسم الشخصي فقط، وتنتمي إلى "الهزارا"، إحدى الأقليات العرقية في أفغانستان، تتبع المذهب الشيعي، وتعرضت منذ أزيد من قرن للاضطهاد والتمييز والتقتيل على أيدي المجموعات العرقية المنافسة و"طالبان" ومتطرفين دينيين آخرين. دفعت موجات الحروب والفقر في أفغانستان كثيرًا من أهالي الهزارا إلى مغادرة البلد. في ستينيات القرن الماضي، عبر أجداد فرحين إلى باكستان، واستقروا في كويتا، التي تحتضن اليوم نحو نصف مليون من الهزارا. يعيش جلهم في أحد ثغرين محاطين بالأسوار ونقاط تفتيش الشرطة فضلا عن سيادة دائمة للخوف من العنف. منذ عام 2003، تعرض المئات، وربما الآلاف من الهزارا في كويتا للقتل في تفجيرات وهجمات مستهدفة. قد تكون ثقافة الهزارا أبوية على نحو عنيف. تقول فرحين: "إنهم يتحدثون عن جرائم الشرف بكل برود"، في إشارة إلى ما يُقْدِم عليه الرجال من قتل النساء إن ظنوا أنهن لطخن سمعة العائلة. "يرعبني ذلك".
وتُردف فرحين قائلةً: "حين تذهبين إلى كويتا، يبدأ عقلك في الانغلاق.. عقلك وقلبك على حد سواء". وربما أضافت أن المرء حين يبتعد عن كويتا يتفتح عقله وقلبه. قد يقرر الهزارا الغاضبون من قيود الحياة في كويتا أن تأمين مستقبل أفضل يستوجب الهجرة إلى دول من قبيل أستراليا وتركيا. يشكل التعليم في نظر كثير من شباب الهزارا في كويتا السبيل نحو تجديد الثقة والحرية. في تفسير الهزارا للقيم الإسلامية، يُعد التعليم غايةً اجتماعية وفرضا دينيا؛ وهو مسعى للنساء والرجال على حد سواء.. وكذلك فعلت فرحين. إذ غاردت كويتا في عام 2017، لدراسة الأدب لدى "الجامعة الوطنية للغات الحديثة" في إسلام أباد، عاصمة باكستان. تقول إن مخاوفها تلاشت هناك، على بعد 600 كيلومتر عن مدينتها. بدأت تستقل الحافلة لحضور المحاضرات وترتاد الأماكن العامة الصاخبة. صارت أكثر انفتاحا. لَمّا سمعت أول مرة عن موسيقى "البوب" الكورية، لم تعرها أدنى اهتمام. تقول: "كان الأولاد يشبهون الفتيات، ويضعون مساحيق التجميل". لكن الأغاني الجذابة استرعت انتباهها، فبدأت تهتم بالكلمات؛ وسرعان ما وقعت في حبها. وتقول إنها تشعر بالذنب لأنها كانت متحيزة في حكمها السابق. "لقد ساعدتني موسيقى البوب الكورية كثيرا في تقبل الأفكار الجديدة".
انتاب فرحين الفضول إزاء الثقافة الكورية. درست اللغة الكورية ومارست الرقص على إيقاع تلك الموسيقى. كانت المجموعات تغني عن الصحة العقلية، وصعوبات المراهقة؛ مما ساعدها على الخروج من سنوات من القلق والاكتئاب. وتعدّ فرحين وصولَها إلى إسلام أباد مجرد خطوة أولى نحو اكتشاف عالم أرحب خارج حدود كويتا. بعد التخرج، تود زيارة كندا، وربما دراسة الرقص في الولايات المتحدة، أو القيام بجولة في أفغانستان، موطن أجدادها الهزارا. وقد تفكر في العيش في كوريا الجنوبية. فوق هذا وذاك، فإن فرحين على طريق التحرر من ماضيها وثقل تاريخ ثقافتها المتسمة بالاضطهاد. تقول إن المكان الذي تفضل الذهاب إليه يحسن أن يكون "مكانا لا يعرفني فيه أحد".
مصب نهر الأمازون ليس مجرد نهاية لأقوى أنهار العالم وأكثرها عنفوانًا، بل هو أيضًا بداية لعالم مدهش يصنعه الماء.
سواء أَرأينا الدلافين الوردية أشباحًا تُغيّر أشكالها أم لعنةً تؤْذي الصيادين، تبقى هذه الكائنات مهيمنة على مشهد الأمازون ومصباته. ولكن مع تغير المشهد البيئي للمنطقة، بات مستقبل أكبر دلافين المياه...
يراقب عالِمان ضغوط الفيضانات في غابات الأمازون المنخفضة.. ويسابقان الزمن لحمايتها ضد الظروف البيئية الشديدة التي ما فتئت تتزايد على مر السنوات.