إنه فيروس "كورونا المستجد" أو "سارس-كوف- 2" أو "كوفيد-19"؛ تعددت الأسماء والجائحة واحدة.. جائحة خيمت بظلالها الكئيبة على عام 2020، فتلاعبت بدفاعاتنا وسيطرت على حياتنا. في هذا العدد، تستطلع مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية" تداعيات هذا الوباء على العلوم وال
خلال هذا العام -"هذا العام المدمر"- أقام رجل في إقليم "جاوة الوسطى" الإندونيـسي حـاجـزًا مـن أعمدة الخيزران، واستخـدم طــلاء لكتابــة كلـمة "مغلق" على قطعـة من الفينيـل، فسـدَّ مدخـل أحـد الطرق المفضية إلى قريته. وبدأ متعهد دفن بلجيكي يضع على جسمه بذلة واقية ضد المواد الخطرة ليباشر عمله. واشتكت طفلة في ديترويت من الصداع؛ وبعد شهر، كان والداها يبكونها وراء قناعين واقيين خلال مراسم جنازة لم يُسمح إلا لـ 12 شخصًا بحضورها.
إليكم ما دفعنا هذا العام إلى الإقرار به: ثمة ظاهرة واحدة تربط بين هؤلاء الناس، وهذه الأماكن، وهذا الأسى، وهذا الخوف. فمعظمنا ليس من علماء الأوبئة ولا من المعمّرين الذين نجوا من الإنفلونزا الإسبانية. وكان معظمنا يرى -قبل عام -2020 أن كلمة "جائحة" ضربٌ من التاريخ الغابر، أو خيال من وحي الواقع المرير، أو أنها تنتمي لتلك الكتب التحذيرية التي يؤلفها صحافيو الشأن العلمي، مثل هينيغ. لكن الجهد المبذول لفهم فيروس "كورونا" بوصفه الحدث العالمي الأبرز حاليًا، بات مُرهِقًا للغاية. فمحاولة الاكتفاء بتتبع طريق العلم وحده يمكن أن تستنفد طاقة حتى أكثر المراقبين تمرسًا، كما توضح هينيغ ذلك في أحد تحقيقاتها لهذا العدد الخاص عن جائحة "كورونا": "كان من المثير للقلق حتى لدى مهووسة بالعلم مثلي، معاينة [العلماء] وهم يتناقشون ويختلفون ويغيرون آراءهم ويعاودون تقييمهم للأمور. ولطالما رجوتُ بدلًا من ذلك أن يهبّ أحد أبطال البحث العلمي لإنقاذنا فيخلصنا من الفيروس".
إن عَدَّ المقالات والصور التي جُمعت بين دفتي هذا العدد سِجلًّا شاملا للوباء، لا يعدو أن يكون ضربًا من الغرور والتمني. فالسِّجِل هو تجميع لتفاصيل حدثٍ ماض لنعود إليه في وقت لاحق. فمتى نصل إلى هذا الوقت اللاحق؟ أكيد أننا سنتجاوز هذه المرحلة لأنه ينبغي لنا ذلك؛ لكن كيف؟ وإلى أين؟ وما التغييرات التي أحدثها فينا هذا العام المدمر؟ تلكم بعض الأسئلة التي يسعى الكتاب والمصورون إلى استكشافها في هذا العدد.
إن ما يستوقف هينيغ، في خضم تفكيرها المشوَّش بشأن تصور البحث العلمي عن مستقبل يرسم فيروسُ "كورونا" معالمَه، هو السرعة الفائقة التي تجري بها أعمال البحث وما يرافق كثير منها من انفتاح غير مسبوق على جمهور يتوق بدوره إلى ظهور أحد أبطال المختبر. تكتب هينيغ: "ربما سيَتبيَّن أن نظرتنا الأولية أمرٌ جيد. وربما ستكون رؤية العلماء وهم يحاولون بناء طائرة في الجو، كما وصف بعض المراقبين الأبحاثَ الجارية بشأن كورونا، أمرًا مفيدًا لنا -على غرابته- لاستيعاب المنهج العلمي".
ربما. فنحن بوصفنا كائنات بشرية، نوع يتسم بنفاد صبره وانغماسه في عمله مع قدرته على بلوغ مستويات البطولة الباهرة أو الغباء المطبق. فما احتمالات نجاحنا في بلوغ حل مستدام من خلال هذه الكارثة؟ تتأرجح احتمالات ذلك، على ما يبدو، من شهر إلى آخر، بل ومن يوم إلى آخر. بينما كنا نحاول إجادة مفردات الحجر الصحي وتقنية غسل اليدين مدة 20 ثانية، استمرت درجة حرارة الكوكب في الارتفاع. وساد التفاؤل بشأن الآثار الجانبية الإيجابية للوباء، بالتأكيد، وكان بعضه مستحَقًّا: إذ عادت الدلافين إلى قنوات البندقية؛ عفوًا، ذاك أمر غير صحيح على الرغم من أننا كنا نرجو بصدق لو كان ذلك صحيحًا. وتمكن أهل البنجاب من رؤية جبال الهيمالايا أول مرة منذ عقود، لأن الركود الاقتصادي خفض مستوى التلوث بكثير؛ أجل، كان هذا صحيحًا كالتقارير الواردة عن الهواء النظيف في بانكوك وساو باولو. ورَدَت عبارة "وقف الحركة" -التي لا تخلو من غرابة شعرية- ضمن تصريحات الرئيس الكيني "أوهورو كينياتا"، عندما أمر بأول إغلاق لبلده بسبب الوباء. وبدا لبعض الوقت كما لو أن العالم بأسره أضحى متوقفًا ساكنًا في عام 2020، منطقة تلو منطقة. شوارع فارغة. شركات مغلقة. فرقة موسيقية رباعية من برشلونة تؤدي معزوفة "بوتشيني" في دار أوبرا مليئة بنباتات داخل أصص.
لكن حتى من كانوا قادرين على عزل أنفسهم داخل منازلهم، أدركوا أنه كان من الخطأ الاعتقاد بأن الحركة قد توقفت. فقد كانت سيارات الإسعاف تجول الشوارع، وغرف الطوارئ ووحدات العناية المركزة لا تكف عن نشاطها المحموم. ولا يزال قطاع كبير من العمال والفقراء يواجه يوميًا احتمال الإصابة بعدوى الفيروس لانعدام أي خيار آخر لديهم. وكما كتب "روبرت كونزيغ" في مقالته عن تداعيات الوباء على البيئة، فإن تلوث الهواء آخذ في العودة الى سابق عنفوانه؛ كما احترقت التندرا السيبيرية خلال هذا العام. ويتساءل كونزيغ: "هل ستغير تجربة الجائحة بطريقة دائمة كيفية تعاملنا مع هذا الكوكب، حيث يكدّ ما يقرب من ثمانية مليارات شخص لكسب لقمة العيش؟ وكيف سيبدو وجه العالم لو خضعت اقتصاداته لقيود من وضع الطبيعة؟".
لقد جعل هذا العام المدمر بعضنا أكثر إنكارًا لدروس العلم، لاسيما في الولايات المتحدة التي سُجلت بحلول منتصف أبريل الماضي أعلى حصيلة لوفيات "كوفيد19-" في العالم، وسجلت بحلول نهاية أغسطس نحو 180 ألف حالة وفاة، أي أكثر بما يقرب من 50 بالمئة من الدولة التالية الأقرب إليها، وهي البرازيل. وصنع هذا العام أيضًا محاربين من نوع جديد، كما يذكر الكاتب "فيليب موريس" وآخرون في هذا العدد؛ وهم أناس على استعداد لوضع الأقنعة الواقية اللعينة والقيام بما في وسعهم لقيادة من حولهم ومواساتهم ورعايتهم. كيف كان سيبدو الأمر لو.. هكذا تبدأ مختلف الأسئلة التخمينية التي لا حصر لها؛ على حين يتولى عام 2020 الإجابة عنها:
.. لو استعضنا عن التصفيق للعمال الذين صاروا يوصفون بأنهم "عناصر أساسية"، بمنحهم أجورًا أعلى وسبل حماية أفضل ومزايا صحية مضمونة.. لو أجبرنا أنفسنا على استقراء أرقام العدوى لا بغرض مواصلة إعادة تقييم ما قد يلحق بنا من مخاطر، ولكن لإدراك المعاناة التي يجلبها الوباء على نحو غير متكافئ لعوائل من السود واللاتينيين والأميركيين الأصليين.. لو تفحصنا وجوه من فقدوا أعزاءهم بسبب "كوفيد19-" في الوقت الذي تكون فيه إشاحة النظر عنهم مجلبة لراحة أكبر. أما عن تلك الطفلة في ديترويت، فقد كان اسمها "سكايلر هربرت". وتعمل والدتها ضابطة شرطة ووالدها رجل إطفاء. وكانت تبلغ من العمر خمسة أعوام.
بدأت مياه بحر آرال بالجفاف قبل 60 سنة مخلفةً وراءها صحراء مُجدِبة. ما الدروس المستفادة من هذه الكارثة البيئية، وكيف نتجنب وقوعها في أجزاء أخرى من العالم؟
في مرتفعات البيرو المكتنَفة بالغيوم، تبقى أطلال "تشوكيكيراو" -صعبة الوصول- بمنأى عن حشود الزوار المتدفقين إلى "ماتشو بيتشو". لكن ذلك قد يتغير قريبًا.