نتأهَّبُ لدخول سن الرشد في ظل جائحة "كوفيد-19"، والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، والتغير المناخي. ولا نشعر حقًّا بأننا مثل "جيل Z" أو جيل الألفية؛ ويحلو لبعضهم أن يطلق علينا لقب "الجيل المعطوب". لكننا نقول: لا تستهينوا بقدرتنا على قهر الشدائد.
من كــان يــدري أن أوامر المكوث في المنازل يمكن أن تؤدي إلى كثير من الاضطراب؟ ذلك ما شعر به كثيرون من جيلنا في ربيع عام 2020؛ نحن الذين كنا قد بدأنا بالكاد في أخذ لمحة عن الاستقلالية وسن الرشد، قبل أن تشتد علينا قبضة الجائحة. ربما نحتاج -نحن الذين تتراوح أعمارهم حاليًا ما بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين- إلى تسميةٍ جديدة، بدلًا من أن نبقى مجرد جيل يقع في منزلة بين منزلتين: إذ نشعر بأننا أصغر بكثير من أن نُحسَب على "جيل الألفية"، وأكبر من أن نُحسَب على "الجيل Z". ولست مقتنعًا بأيٍّ من هذه التسميات التي تُنسب إلينا: جيل قوس قزح، وجيل الألفية، والجيل المعطوب. والحال أن الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها هي أننا عند نقطة تحول حرجة من حياتنا الشخصية في وقت يبدو فيه العالم كأنه ينهار من نواح كثيرة.
ومع انتشار عمليات الإغلاق في وقت سابق من هذا العام، لم يظل أيٌّ منّا حيث كان، بل طفقنا نتسابق بحثًا عن مكان أكثر أمانًا. أعرف أين لجأ كثيرٌ من الأصدقاء لأنني أمضيت جل وقتي خلال الحجر الصحي في كتابة الرسائل -الرسائل الكلاسيكية الطويلة المكتوبة بخط اليد- مع ما يقتضيه ذلك من جمع للعناوين البريدية. فقد دَوَّنتُ أسماءَ الأصدقاء الذين غادروا الجامعات عند إفراغها. وعرفت أيَّهم غادر أول شقة امتلكها ليعود إلى غرفة النوم التي أمضى بها طفولته؛ وأيَّهم أمضى فترة الإغلاق في الجبــال أو بمحــاذاة الشـاطئ؛ وأيَّهم لم يسعفه وضعــه الاجتمــاعي والاقتصــادي بأي خيار سوى البقاء في المدن التي تضررت من الوباء ضررًا شديدًا. وعرفت أيَّ هؤلاء الأصدقاء كان صاحب وظيفة آمنة؛ وأيَّهم كان له أشقاء في حاجة إلى العناية؛ وأيَّهم أصبح يكابد بين ليلة وضحاها ألم البُعد عن أصدقائه الأخلاء. لكنَّ ما لم تُدركه سوى قلة قليلة في البداية هو المدة التي سيظل عليها هذا الحال، والحد الذي سنبلغه في التعايش معه.
كان أصدقائي بالمراسلة على علم بمكاني أيضًا. فقد كانوا يعلمون أنه عندما أدرك والدي -الطبيب المتخصص في الأمراض المعدية لدى "مستشفى إلمهورست" في نيويورك- هولَ ما هو آت، ارتأينا أنه سيكون من الأسلم لعائلتنا لو ابتعد بعضنا عن بعض فترة من الوقت؛ وأنني كنت قد غادرت نيويورك رفقة إخوتي الذين هم في سن جامعية، وأمي، وجدتي المريضة، ولجأنا إلى كارولينا الشمالية؛ وأن إحساسًا طاغيًا بالذنب تَمَلَّك جوارحنا لعدم وجودنا إلى جانب والدي، الذي افتقدناه كثيرًا.
ففي الرسائل التي تبادلتها مع أصدقائي، تقاسمنا الأفكار والأحاسيس التي لم نعبر عنها في الرسائل النصية القصيرة ولا في مكالمات "زوم" الجماعية (التي ما زلنا نستخدمها بطبيعة الحال). وبدا أن أمرًا ما يتعلق بكتابة الرسائل هو ما يستثير العواطف والإحساس بالضعف، بطريقة لم يَخبرها كثيرٌ منّا من قبل. وعلى نحو مفاجئ، ظهر سيل جارف من الأحاسيس. كانت نبرة رسائلنا تتأرجح تبعًا لظروف كل واحد منا، ما بين القلق والتأمل، الخوف والهدوء، الإحباط والاهتياج. فكان الأصدقاء يكتبون عن أعظم مصادر فخرهم، كتخرّج شقيق على نحو مبكر في كلية الطب للانضمام إلى الخطوط الأمامية التي تتصدى للوباء، وعن أفراح غير متوقعة كإعادة اكتشاف الشغف بالكتب الذي كان قد فُقد في خضم الجداول الزمنية والشاشات.
في ظهيرة أحد الأيام، تفقدت صندوق البريد فخبَرت تجربة تلقي الأخبار السيئة عبر البريد لأول مرة في حياتي؛ وهي تجربة مفجعة. فقد كتبت لي إحدى صديقاتي ما يلي: "يرقد جدّاي (لأمي) في المستشفى بسبب "كوفيد19-"، للأسف". (وبعد أسابيع قليلة توفي جدّاها، ولم تفصل بين وفاة كلٍّ منهما سوى بضع ساعات). وعندما اكتسحت موجة الوباء الولايات المتحدة، بات واضحًا أن التيار السُّفلي لهذا اليمّ كان يجرف من هم في سننا إلى غياباته. والحال أن كثيرين منهم ما انفكوا يكافحون بثبات في حياتهم. فقد هدّتهم الديون بسبب دفع رسوم دراسية بقيمة 20 ألف دولار أو 40 ألف دولار أو 60 ألف دولار في كل عام؛ وعجزوا عن مسايرة أسعار الإيجار الباهظة في المدن الأميركية الكبرى؛ واستبدت بنفوسهم مشاعر الحنق بفعل سنوات من مناهضتهم العنصرية الممنهجة، والعنف المسلح، والتغير المناخي، ليُبتلوا في نهاية المطاف بسياسيين فاسدين وهدّامين لا يرغبون في المبادرة إلى العمل. فلقد خسف الوباء بالأرض تحت أقدامنا جميعًا.
فنحن، في المحصلة، جيل نشأ على رعب ما بعد أحداث 11 سبتمبر وتدريبات الاختفاء عند إطلاق النار في مدارسنا الابتدائية. وإذا كان مستقبل العالم قد بدا لنا قاتمًا من قبل، فما عساه يحمل الآن؟ إذ تسود حالات جديدة من عدم اليقين بشأن ما يجب أن يكون عليه سلوكنا اليومي: العيش بمفردنا.. العودة إلى المدرسة.. الذهاب إلى لقاءات غرامية.. معانقة أجدادنا. ويبدو أن ذلك محورُ كل ما نتحدث عنه هذه الأيام.. هدير الأمواج الذي يصم الآذان، ويسيطر على كل الأحاديث.
يحلو لبعض الناس أن يطلق علينا لقب الجيل المعطوب -وقد يبدو الأمر كذلك أحيانًا- لكني أعتقد أن هذا أمر مغرق في السلبية. نعم، لقد تعرضنا للضربات والصدمات، لكننا بالتأكيد لن ننهزم بسهولة. تقول "إيل أوبريان" التي تخرجت مؤخرًا في "جامعة كولجيت": "لم نكن نعتقد أن الحياة ستبدو بهذا الحال". استعانت أوبريان بوسائل التواصل الاجتماعي لاستطلاع آراء الناس (كثير منهم في عمرنا) حول أحاسيسهم وتجاربهم خلال تفشي الوباء. ونشرت أوبريان طوال أشهر، بدءًا من أبريل الماضي، أسئلة الاستطلاع على حسابها في "إنستغرام" وضمَّنت النتائج في مدونة إلكترونية حيث كتبت قائلة إن مئات الأشخاص شاركوا في استطلاعاتها، وقد أدهشتها أوجه التشابه: "نحـن مزيـج مـركب مـن الخـوف والأمـل. فكثيرون منا يضحكون في الأيام نفسها التي نبكي فيها". وإليكم التوصيف الذي ذكرته لي أوبريان بشأن المحصلة النهائية لجيلنا: "لقد عبثت بنا أياد قذرة. لكننا نعبر عن رأينا جهارًا". ولكل هذه الاعتبارات، أعتقد أن أوبريان تمثل ما نشعر به. لقد بدأ التحرك، ولم يعد من المقبول -على الأقل في محيطي- التزام الصمت. ومن المفارقة أن أشهر التباعد الاجتماعي ساعـدت في إطلاق هــذا المستـوى الرائع من المشاركـة في المجـتمع، وخــاصة بين أوساط الشباب.
فقد كان من الأسباب التي دفعت حشودًا كبيرة ومتنوعة من الشباب إلى الانضمام للاحتجاجـات عـلى مقـتل "جورج فلويد"، ما كشفـه الوبـاء بشأن التفاوتات الممنهجة في الولايات المتحدة. إذ عاينَّا أصدقاء وزملاء في الدراسة من السـود أصـيب أفـراد عائلاتهم بفيروس "كورونا" بنسب غير متكافئة مع البِيض. وعاينا طلابًا من الجيل الأول ومنخفضي الدخل يكافحون بشدة من أجل الانتقال إلى التعلم الافتراضي. وعاينا طلابًا حديثي التخرج من غير البِيض يفتقرون إلى الموارد والعلاقات للنجاح في سوق عمل منفرة بشكل كبير. فكيف لا نسعى إلى التغيير؟
أظن أن البشرية ستتعرض لمحاسبة عاجلة أيضًا بشأن عواقب الإساءة إلى كوكبنا. فلطالما أزعجت حالة الطوارئ المناخية العالمية جيلنا على غرار ما يقوم به الفيروس حاليًا. وربما يناسبنا لقب "جيل التغير المناخي"؛ إذ إن هذه المشكلةَ أكبرُ تهديد لوجودنا جميعًا. وعلى سبيل المقارنة، فشلت الأجيال السابقة في اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن ذوبان الأنهار الجليدية، وتلوث الهواء، وتدمير الغابات المطرية، وارتفاع منسوب البحار؛ ربما لأنها لن تكون هي المضطرة للعيش في هذا العالم من بعد. لقد كان التأثير المدمر الناجم عن هذا الوباء غير مفهوم في السابق. لكن من المحتمل أن يتضاءل وقعه بالمقارنة مع الكوارث البيئية المقبلة.
وكانت وطأة كل هذه الأمور واضحة في إحدى الرسائل التي وصلتني في يونيو الماضي من أحد زملائي في الكلية. إذ كتب لي "تشارلي كوبرن": "أنا حزين. وتنتابني أحاسيس متضاربة. فأنا محبط ومنزعج للغاية من نفسي ومن تواطؤي/ تقاعسي عن التحرك". وبعد أن أمضى شهورًا وهو يقبع في صمت رهيب، كان شيء ما يغلي بداخله. فكتب: "لقد أغضبتني طريقة تصدي الحكومة الفدرالية للوباء. وأشعر بأنني مدعو إلى المبادرة بالعمل ربما أكثر من أي وقت مضى من حياتي".
أما عن خطاباتي إلى أصدقائي في وقت مبكر من الحجر الصحي، فقد كتبت عن حوت صغير جرفته الأمواج باتجاه ساحل كارولينا الشمالية غير بعيد عن المكان حيث كنا نقيم. كان نفوقه على الأرجح بسبب خطأ بشري: ضربة قارب أو شباك صيد. ولأن الفيروس أبقى جل السياح بعيدًا عن الشاطئ، فقد تُركت الجثة مدفونة هناك، لتتدخل الطبيعة فتستكمل ما يلزم.
وخلال جولاتي المعتادة على الشاطئ، لاحظت التغييرات التي طرأت على العمود الفقري للحوت، وهو الجزء الوحيد البارز من الرمال. فقد كان طوال أسبوع واحد مغطى بالذباب الأسود الطنان. وبعد بضعة أيام، نبشته ذئاب القيوط، حسب ما دلت عليه آثار حديثة. وبعد عاصفة هوجاء أشعرتني كأنها نهاية العالم بحكم ما رافقها من اهتزاز المنزل وهبوب الرياح وتهاطل مياه الأمطار التي غمرت الأعشاب الساحلية، وجدت أن الأمواج العاتية كشفت عن فقرة واضحة كأنها تدعوني لأخذها.* وطوال أسابيع الإغلاق، كنت أفرك هذا العظم وأصقله. وأحتفظ به ليذكرني بالوباء وبما أحدثه من اقتلاع للجذور، وبالعدد الكبير من الموتى الذين رحلوا وحيدين عن عالمنا على حين غفلة، وبالعالم الطبيعي ومكاننا فيه.
وللذين هم منا في مستهل سنوات رشدهم، فإن البداية المتعثرة التي سببها الوباء تعني أن تأثير ما سيتخذونه من خيارات سيكون أكبر. فنحن بحاجة إلى ما يُذكّرنا حتى لا ننسى ما أحسسنا به: لقد عانى بعض الناس أكثر بكثير من آخرين، لكننا انخرطنا جميعًا في حالة اتسمت بالمساءلة وإعادة التقييم ومحاكمة الذات. ولا غرابة في أن نشعر أحيانًا كما لو أننا "جيل معطوب"، لكنني أفضل الاعتقاد أننا في طور التشكل لنكون "جيلا متجددًا". فلن نستسلم من دون قتال. وما سيحدد هويتنا أكثر بكثير من كفاحنا في هذه اللحظة هو ما سنفعله عندما نخرج من المحنة.
تحياتي،
جوردان
بدأت مياه بحر آرال بالجفاف قبل 60 سنة مخلفةً وراءها صحراء مُجدِبة. ما الدروس المستفادة من هذه الكارثة البيئية، وكيف نتجنب وقوعها في أجزاء أخرى من العالم؟
في مرتفعات البيرو المكتنَفة بالغيوم، تبقى أطلال "تشوكيكيراو" -صعبة الوصول- بمنأى عن حشود الزوار المتدفقين إلى "ماتشو بيتشو". لكن ذلك قد يتغير قريبًا.