5 مارس 2018
بي بي سي عربي
في منتصف يناير من هذا العام، وخلال الصيف الأسترالي الحار توجه "تشارلي هافينيرز" -العالم المتخصص في أسماك القرش- إلى جزر "نيبتون" الواقعة بالقرب خليج "سبنسر" في جنوب أستراليا. تقع هذه المنطقة على بعد نحو 250 كيلومتراً جنوب غربي "أديليد"، وتمثل إحدى أكثر المناطق كثافة من حيث تجمع القرش الأبيض الكبير في أستراليا، كما تعد بؤرة لسياحة الغطس داخل أقفاص حامية قرب أسماك القرش، والتي تدر على أستراليا نحو ثمانية ملايين دولار أسترالي. وعلى مدار ثمانية عشر يوماً قام هافينيرز -الذي يرأس مجموعة دراسة البيئة الجنوبية للقروش بجامعة "فليندرز" في أديليد- باختبار مجموعة من الأجهزة المتوافرة في الأسواق لإبعاد القرش ليرى مدى فاعليتها في طرد تلك الأسماك، التي تعد المفترس الأخطر في المحيطات.
واستغرق فريقه أياماً في البحار قضاها في رصد سلوك أسماك القرش من على متن سفينة، بالاستعانة بكاميرات تحت الماء. وعلى مدار 300 محاولة درس الفريق اقتراب القرش من فرائس محتملة نحو 1,500 مرة. ولا تخفى أهمية نشاط هؤلاء العلماء في اختبار مدى فاعلية أجهزة طرد القرش؛ إذ أن هجمات تلك الأسماك آخذة في الازدياد في أستراليا، فيما تزداد مبيعات الأجهزة عن أي وقت مضى والتي لم يجر اختبار سوى أنماط قليلة للغاية منها، من قبل جهات مستقلة للتحقق من مصداقية ما تورده الشركات عن مدى فاعلية منتجاتها. ويعقب "كارل ماير" -الخبير في بيئة القروش بالمعهد الأميركي لدراسة الأحياء المائية بهاواي- بالقول إن "أجهزة طرد القروش تتصدر وسائل الوقاية من هجمات تلك الأسماك، غير أن فاعلية بعض أشهر تلك الأجهزة محل شك، إذ لم تخضع أغلبها لاختبارات علمية دقيقة من قبل جهات مستقلة". ويقول هافينيرز إن تلك الأجهزة قد تكون مفيدة فعلاً، طالما أدرك المشتري حدود فاعليتها إزاء الهجمات المحتملة. ويضيف محذرا من أن بعض تلك الأجهزة قد "تعطي إحساساً زائفاً بالأمان، بما يحدو بالأشخاص تعريض أنفسهم لمواقف أكثر خطورة".
ورغم أن أعداد الوفيات الناجمة عن هجمات القرش في أستراليا لم تتغير كثيرا عبر السنين، إذ تبلغ نحو حالة وفاة واحدة كل سنة، إلا أن تعرض الأشخاص لإصابات سنوية جراء تلك الهجمات تضاعف بمقارنة الفترة ما بين عامي 2000 و 2015، بالفترة ما بين عامي 1990 و 2000. وتعالت الأصوات مطالبة السلطات بفعل المزيد إزاء تلك الهجمات التي تركزت في مناطق معينة، فقد دفعت وفاة 15 شخصا منذ عام 2000 في مياه ولاية غرب أستراليا بحكومة الولاية العام الماضي إلى منح إعفاء ضريبي بقيمة 200 دولار أسترالي، لشراء أحد الأجهزة الكهربائية لطرد أسماك القرش بقيمة 750 دولارا أستراليا، من طراز (شارك شيلد فريدم-7)، وهو الإجراء الذي أثار جدلاً في أوساط المجتمع الأسترالي.
ولكن يظل السؤال حول مدى فاعلية تلك الأجهزة مطروحاً..
ويرد هافينيرز بالموافقة على قرار حكومة ولاية غرب أستراليا باختيار أحد الأجهزة القليلة التي خضعت لتجارب علمية مستقلة لضمان فاعليتها، إذ شارك حسبما أوردت دورية "PLoS ONE" عام 2016، ضمن فريق شمل علماء من جامعة غرب أستراليا، مباشرا اختبار الجهاز في مياه جنوب أفريقيا. فقد قام العلماء بتثبيت الأقطاب الكهربائية للجهاز على طعم في مياه تعج بأسماك القرش الأبيض، مثبتين بالتجربة نجاح الجهاز من طراز "فريدم-7" في إبعاد تلك الأسماك في 90 بالمئة من الحالات، وإن اقتصر مدى فاعليته على متر واحد منها. ويعتمد جهاز "شارك شيلد" على توليد مجال كهربائي بين قطبين فيما يشبه الهوائي ضمن وحدة يرتديها الغطاس حول كاحله. ويبث الجهاز شحنة كهربائية تزعج أسماك القرش بالتأثير على أعضاء حسية خاصة بمقدمة القرش يطلق عليها "أمبولات لورنزيني" وهي الأعضاء التي تمكن القرش من تتبع طرائده عبر رصد المجال الكهربائي الضعيف الذي يصاحب تلك الطرائد. ويعد هذا الجهاز المطروح في الأسواق واحداً بين أجهزة عديدة تبث مجالات كهربائية لإزعاج أسماك القرش. ورغم وجود وسائل أخرى لإبعاد تلك الأسماك، يرى "ماير" أن تلك الوسيلة هي الأنجع. ويقول ماير "إن أسماك القرش لديها مستقبلات كهربائية شديدة الحساسية، ما قد يجعلها تنفر من المجالات الكهربية التي تبثها تلك الأجهزة الصناعية التي تثير تلك المستقبلات"، ويضيف أن "وضع أقطاب ثنائية في أنحاء مختلفة من جسم الغواص، قد يغطي الجسم بمجال كهربي بصورة شبه كاملة". لكن المشكلة في أن الكثير من الأجهزة المتوافرة حاليا توفر غطاء لا يكاد يتجاوز قطره مترا واحدا، ما يترك أجزاء من الجسم دون حماية.
وشملت التجارب التي جرت مؤخرا في جزر نيبتون عدة أجهزة لم يسبق اختبارها، منها أجهزة كهربائية وأخرى مغناطيسية، ووسائل أخرى منها الاستعانة بنوع من الشمع من خلاصة منتجات طبيعية كزيت القرنفل وفلفل الكايين الحار لدهن ألواح التزلج على الماء بهدف إخفاء رائحة المتزلج. وتشبه أجهزة الطرد المغناطيسي -مثل الجهاز الذي تنتجه شركة "شارك بانز" الذي يحتوى على مغناطيس قوي يُرتدى حول المعصم- أجهزة "شارك شيلد"، من حيث اعتماد كليهما على توفير مجال كهربائي أو مغناطيسي حول الغواص، من شأنه إثارة منطقة "أمبولات لورنزيني" لدى القرش، وبالتالي إبعاده عن الغواص. ورغم سلامة الفكرة نظريا، إلا أن المجال المغناطيسي في الواقع يضعف بشدة حتى على بعد سنتيمترات قليلة من جهاز البث. ويقول ماير محذرا "حتى إذا تجنب القرش افتراس معصمك، فإن بقية جسدك تظل بالتأكيد دون حماية". وتعمد أجهزة أخرى على إصدار أصوات تشبه أصوات الحيتان القاتلة التي تتغذى على القرش، أو ارتداء بدلات غطس والتزلج على ألواح مموهة بأشكال تحاكي فرائس مثل ثعابين البحر، مما يبتعد عنها القرش لسميتها أو لأسباب أخرى.
غير أن بعض الباحثين يرون أن الأجهزة التي تعتمد على إصدار الأصوات غير مؤثرة وقد يعتاد القرش عليها سريعاً. ويقول ماير "إن حاسة السمع لدى سمكة القرش تكون في أشدها بالنسبة للترددات المنخفضة، بينما تتدنى أو تنعدم تماما بالنسبة للترددات العالية من قبيل الأصوات التي تصدرها الحيتان القاتلة". أما الباحثون في ولاية "كوينزلاند" فقد وجدوا أن معدة الأسماك من نوع "القرش الببري" (النمر) كثيراً ما تحتوي على بقايا ثعابين مائية، ما يرجح إقبال تلك الأسماك على التهامها. ويضيف هافينيرز إن ألواح التزلج والمتزلجين قد تبدو لأسماك القرش الباحثة عن فرائس في الأعماق مجرد ظلال معتمة لا تميز فيها الألوان أو الأشكال. أما المواد الكيميائية المنفرة فقد خضعت لتجارب عبر السنين، ومنها منتج يسوق حاليا على صورة بخاخ يطلق عليه "أنتي شارك 100"، من إنتاج شركة "شارك تيك"، التي تقول إنه "مستخلص من بقايا أسماك القرش المتحللة". ويقول هافينيرز إن ثمة أدلة على ابتعاد أسماك القرش عن منطقة تحوي مواداً كيميائية ناتجة عن نفوق أقرانها، ورغم "أن السبب وراء نفور القرش من الرائحة غير معروف تحديدا، إلا أن الابتعاد عن منطقة نفق فيها كائن حي مثيل يبدو منطقيا من الناحية التطورية، إذ ينذر بوجود خطر ما على بقية النوع". ومع ذلك فالمواد الكيميائية المسببة لإثارة أسماك القرش، أو المنفرة للقروش سرعان ما تتلاشى في المياه وتفقد فاعليتها. وتقول "بليك تشابمان"، الباحثة المتخصصة في دراسة أسماك القرش بجامعة كوينزلاند ومؤلفة كتاب "هجمات القرش: الأسطورة والوهم ورعب البشر"، إنه لكي تكون تلك الوسيلة فعالة بأي درجة فإنه يلزم "رؤية القرش قادما ومن ثم رش البخاخ في الماء، في حين أن الكثير من أسماك القرش تفضل الهجوم خلسة، ومن ثم فلا تتوقع أن يسعفك الوقت باستخدام أداة تعتمد على رؤية القرش أولا ومن ثم إطلاق مادة لا يحبذها القرش فيعود أدراجه!". ولا تعتقد تشابمان كثيرا في فاعلية أي من الأجهزة المتاحة على اختلافها، إذ تقول: "ما كنت لأثق ثقة عمياء في أي من تلك الأجهزة، فالأمر يتوقف في نهاية المطاف على القرش نفسه، فإذا صادفت قرشاً من النوع الأبيض الكبير أو القرش الثور، أو القرش الببري بطول ثلاثة إلى خمسة أمتار يتضور جوعا، فما من شيء اكتشفناه أوسنكتشفه، سيثني هذا القرش عن هدفه!" وتتساءل هل يتحول قرش ضخم بعيداً عن فريسته، بوصوله على بعد متر واحد منها إذا جاءها منقضا؟
ويقر هافينيرز بأن وسائل الطرد لن تثني في الأرجح قرشا مصمما عن الافتراس، ولكنه يشير إلى أن التجارب التي جرت في جنوب أفريقيا أظهرت تحلي القرش بمرونة بالغة، بحيث كثيرا ما تعدل عن هجومها في آخر لحظة. ويضيف هافينيرز أن نجاح تلك الوسائل مرهون بالمكان وبالنشاط الذي يزاوله الفرد، فالوسيلة التي قد تنجح في إبعاد القرش الأبيض الكبير عن المتزلجين في شواطئ "كيب تاون" ربما تكون غير فعالة بالمرة بالنسبة لغطاس بمرفأ في "سيدني" يصادفه قرش من نوع القرش الثور. ويوافق ماير بالقول: "يبقى تطوير الأجهزة التي تعتمد على التيار الكهربائي الخيار الأفضل في درء مخاطر القرش، وإن كان هذا لا يعني ضمانا بالسلامة بنسبة 100 بالمئة".
وتقول تشابمان إن تقنيات التيار الكهربائي قد تتطور في المستقبل لتصبح أكثر فاعلية في إثناء القرش عن مهاجمة ضحاياه بغرض الاستكشاف، لكنها ترى أن التوعية تظل السبيل الأفضل، "ففهم تلك الكائنات بشكل أفضل ومعرفة بيئتها من شأنه تقليل الحوادث بشكل أفضل من أي تكنولوجيا. ببساطة عليك التنبه أكثر إلى الأماكن التي تختارها للسباحة". فالأبحاث باتت تكشف المزيد عن أنماط حركة أسماك القرش، ما قد يساعد في تحديد أفضل الأوقات خلال اليوم أو العام لمزاولة البشر لأنشطتهم بعيدا عنها.
ورغم زيادة الحوادث المتعلقة بأسماك القرش في ولاية غرب أستراليا خلال الأعوام الأخيرة، فإن بعض التقديرات تشير إلى أن احتمال التعرض لهجوم القرش قبالة سواحل "بيرث" لا يتجاوز الواحد في الثلاثين مليونا، بمعنى آخر إن احتمال تعرضك لصاعقة البرق أكثر مئة مرة من التعرض لعضة القرش. لكن تشابمان تشير إلى "نجاح آخر" لوسائل إبعاد القرش تلك، وذلك عبر منحها الناس شعور بالراحة تجاه ممارسة النشاط الذي يحبونه، وتضيف: "ربما نجحت تلك الوسائل أو لم تنجح في إبعاد القرش فعلا، ولكن بما أن احتمال التعرض للقرش بعيد على أية حال، فإن مجرد منح شعور بالاطمئنان تجاه ممارسة الأنشطة المائية يضاف إلى رصيد تلك الأجهزة".