إن كنت تظن أن ذوقك الرفيع هو مهارة أو قدرةٌ من القدرات التي اكتسبتها وتمتلك ناصيتها.. فعليك مراجعة أفكارك. ذلك أن الأمر برمّته إنما هو نتاج لمورّثاتك أو جراثيمك أو بيئة عيشك.
ما من شيء أدل على شخصية المرء أكثر من ذوقه. فسواء أتعلق الأمر بطعامنا، أم شرابنا، أم غرامنا، أم توجهاتنا السياسية؛ فإن أذواقنا تحدد معالم هويتنا. لذا، كنت أرى أن من المنطقي أن أذواقنا تلك تُمليها ذواتنا بطريقة عقلانية نمتلك بزمامها وفق قرارات نتخذها بمشيئتنا.
لكنّ تلك الفكرة ما لبثت أن تزعزعت حين أصبحت على اطلاع بأمر "المقوَّسة الغوندية" (Toxoplasma gondii). إذ لاحظتُ خلال أبحاثي لدى كلية الطب في "جامعة إنديانا" بالولايات المتحدة، أن بمقدور هذا الكائن الطفيلي وحيد الخلية أن يُغير سلوك مضيِّفيه؛ مثل الجرذان التي يُكسبها شجاعة في مواجهة القطط، والبشر الذين أظهرت بعض الدراسات أن بمقدور الكائن الطفيلي إحداث تغييرات في شخصياتهم، كزيادة التوتر والقلق.
دفعتني الدراسات عن ذلك الكائن الطفيلي إلى التساؤل هل ثمة أمورٌ تجري في غفلة منا تصيغ ذواتنا، فتحدد لنا ما نحب وما نميل إليه وما نكره ونجتنب.
عندها رحتُ أتَبَحَّر في هذا الفرع من العلوم، فوقعتُ على حقيقة مدهشة صادمة؛ مفادها أن ثمة قوى بيولوجية خفية تحكُمُ أفعالنا وتصرفاتنا.. ما يعني أنه لا سلطان لنا -إلا قليلا- على أذواقنا الشخصية. فأنماط سلوكنا واختياراتنا تتأثر أيّما تأثر بتركيبتنا الوراثية، وبعوامل كامنة في بيئتنا تؤثر في مورثاتنا، وكذا بمورثات أخرى تقتحم نُظُم أبداننا بفعل عدد لا حصر له من الجراثيم التي تستوطن في دواخلنا.
أعرف أن أفكاري تلك تبدو ترّهات ليس إلا. فلقد تعلمنا أن بوسعنا أن نكون ما نريد وأن نفعل ما نريد. ومن البديهي أن نشعر أننا -نحن أنفسنا- من ننتقي ما نأكل، وأننا من نُهدي فؤادنا لمن نحب، وأننا من نختار المرشح الانتخابي الذي نحبذ؛ لذا يبدو من الحماقة أن نقتنع بكلام يقول بأننا لسنا سوى كائنات "روبوتية" مسلوبة الإرادة وواقعة تحت تأثير قوى لا نراها.
كنتُ أنا أيضا لأسَلِّمَ بحماقة تلك الفكرة قبل أعوام؛ لكنني وبعدما تعمّقتُ في تقصي الأسباب التي تدفعني إلى كره كثير من الخضراوات التي يستلذها جل الناس، شعرت أن المشكلة ربما تكون كامنة بداخلي أنا. فعلى سبيل المثال، أجدني أغبط بشدة أولئك الذين يستمتعون بأكل البروكولي، الذي يقشعر بدني منه ما إن يقدمه لي شخص ما. فما سبب كرهي هذا النوع من الخضراوات؟
لم أختر بمحض إرادتي كره البروكولي. هنالك شرعتُ في البحث عن تفسير لهذا النفور. ومن حسن حظي أن العلم قد اقتحم هذا المجال.
فقد لاحظ باحثون أن زهاء 25 بالمئة من البشر قد يكرهون البروكولي للسبب نفسه؛ وقد أُطلق على هذه الفئة من البشر -وأنا أحدهم- "المتذوقون الخارقون". إذ نمتلك -نحن أعضاء هذه الفئة- تنويعات في المورثات التي تُنشئُ مستقبلات البراعم الذوقية؛ ومنها المورثة (TAS2R38) المتخصصة في التعرف إلى مواد كيميائية مرة المذاق مثل "ثيوريا"، الموجودة بنسبة كبيرة
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز