يومَ ازدهر المجتمع الأمومي في الهند

في الهند، حيث سبق لي أن عشت، كانت لدى طوائف "نايار" الهندوسية بولاية كيرالا الواقعة في جنوب البلد عائلات أمومية قوية حتى زمن قريب نسبيًا. وكانت تحكمها أرستقراطية مؤثرة، حيث كان الناس يقطنون داخل مجمعات سكنية في شكل عوائل كبيرة موسعة.وقد كتب المؤرخ "مانو بيلاي" ما يلي: "كانت نساء نايار تتمتع دائمًا بالأمان في المنزل الذي وُلدن فيه طوال حياتهن ولم يكنّ يعتمدن على أزواجهن. وكنّ فعليًا على قدم المساواة مع الرجال من حيث الحقوق الجنسية".

النظام الأبوي ليس قـدرًا محـتومًا

قد تكون المجتمعات التي يهيمن عليها الذكور هي القاعدة السائدة حاليًا؛ لكن البيولوجيا لا تفرض ذلك، فضلا عن أن التاريخ يُظهر وجود بدائل أخرى.

قلم: أنجيلا سايني

1 ابريل 2023 - تابع لعدد أبريل 2023

سَأل الفيلسوف "كوامي أنتوني أبياه" ذات مرة عن السبب الذي يجعل بعض الناس يشعرون بالحاجة إلى الإيمان بوجود ماضٍ أكثر مساواة لتَصَوّر مستقبل أكثر مساواة.

ينظر كثيرون مِنّا إلى الهيمنة الشديدة التي يفرضها القمع القائم على النوع الاجتماعي على مجتمعاتنا ويتساءلون عمّا إذا كان في زمن ماض رجالٌ لا يتمتعون بهذه السطوة الكبيرة، وكان للأنوثة والذكورة مدلول مخالف لمدلولهما الحالي. فعندما نبحث عن نساء قويات في التاريخ القديم ونسعى إلى إيجاد سوابق للمساواة في الماضي البعيد، فلعلّنا بذلك لا نُسدي صنيعًا لأنفسنا، بل إن ذلك يدفعنا إلى التخلي عن حنيننا إلى بديل في عالم نخشى ألّا نجده فيه على الإطلاق. إن النظام الأبوي -منح كل السلطة للأب- قد يبدو أحيانًا وكأنه مؤامرة واسعة النطاق تمتد إلى زمن سحيق. فقد أصبح للعبارة نفسها مفهوم أحادي ومتناغم على نحو مدمر، إذ تشمل جميع الطرق التي يتم من خلالها التعسف على النساء والفتيات في بعض مناطق العالم ومعاملتهن معاملة غير منصفة، بدءًا من العنف العائلي والاغتصاب، إلى فجوة الأجور بين الجنسين وازدواجية المعايير الأخلاقية. ويبدو أن الحجم الهائل لهذا المفهوم يجعلنا نشعر بفقدان السيطرة عليه. ولكن ما مدى قِدَمه وما مدى كونيته؟ لقد انبهر المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار والمؤمنون بالمساواة بين الجنسين بهذا السؤال؛ وبصفتي صحافية متخصصة في مجال العلوم، فقد شغل تفكيري منذ أعوام. ففي عام 1973، نشر عالم الاجتماع "ستيفن غولدبيرغ" كتاب "حتمية النظام الأبوي"، يقول فيه إن الاختلافات البيولوجية الأساسية بين الرجال والنساء متجذرة جدا وتمنح الغلبة دائمًا للنظام الأبوي الذي يجد لنفسه موطئ قدم في كل مجتمع بشري. فبصرف النظر عن الطريقة التي تُقطع بها الكعكة، فإن الرجال -الذين ينظر إليهم الكاتب بطبيعة الحال بوصفهم أكثر قوة وشراسة- سيحصلون في نهاية المطاف على القطعة الأكبر. لكن المشكلة في ذلك تَكمن في أن هيمنة الذكور ليست مسألة كونية. فالعالم يضم كثيرًا من المجتمعات الأمومية.. المنظمة من خلال الأمهات لا الآباء إذ ينتقل الاسم والممتلكات من الأم إلى الابنة.

وفي بعض المناطق، يسود الاعتقاد أن التقاليد الأمومية تعود إلى آلاف السنين. وابتدع العلماء الغربيون، على مرّ عقود، نظريات لتفسير سبب وجود هذه المجتمعات. فبعضهم يَدّعي أن سلالة الأم لا تسود إلّا في مجتمعات الصيد والتقاط الثمار أو في أوساط المزارعين البسطاء، لا في المجتمعات الكبيرة. ويقول آخرون إن سلالة الأم تسود على نحو أفضل عندما يكون الرجال في كثير من الأحيان بعيدين عن الديار لخوض الحروب، تاركين للنساء زمام المسؤولية في المنزل. ويرى آخرون أن سلالة الأم ينتهي أمرها حالما يبدأ الناس في تربية الماشية لأن الرجال يرغبون في السيطرة على هذه الموارد؛ إذ يقرنون النظام الأبوي بالممتلكات والأرض. لكن المجتمعات الأمومية تصنف دائمًا على أنها حالات شاذة "تخضع لضغوط خاصة، فتجعلها هشة ونادرة الحدوث، وربما يُحكم عليها بالانقراض"، على حد قول "ليندا ستون"، عالمة الأنثروبولوجيا لدى "جامعة ولاية واشنطن". ففي الأوساط الأكاديمية، تُعرف هذه المشكلة باسم اللغز الأمومي. أما النسب الأبوي، فلا يحتاج إلى تفسير، بل هو كما هو. في عام 2019، حاول باحثون في "جامعة فاندربيلت" حل هذا اللغز من خلال تحليل المجتمعات الأمومية لمعرفة ما إذا كانت تجمعها أمور مشتركة. فعلى الصعيد العالمي، كان من المعروف أن 590 مجتمعًا هي مجتمعات أبوية تقليدية، و362 كانت ثنائية، أي أنها كانت تعترف بالنسب من خلال كلا الوالدين، فيما صُنّف 160 مجتمعًا ضمن المجتمعات الأمومية. وتقول عالمة الأحياء "نيكول كرينزا"، التي عملت في هذا البحث، إن الفريق اختبر نظريات شائعة بشأن النسب الأمومي كتلك المذكورة أعلاه؛ ولكن لم ينطبق أي منها على أي حالة.

وتقول كرينزا إن أحد العوامل الذي يبدو أنه أثر في ابتعاد المجتمع عن النسب الأمومي هو "عندما يكون لدى السكان ممتلكات، لا تشمل الأرض بل الثروة المنقولة والقابلة للانتقال؛ فإذا ورث أبناؤك ما تمتلك، فمن المحتمل أن يكونوا في حال أفضل". لكن حتى هذا الأمر لم يكن حقيقة ثابتة. فقد كان كل مجتمع معقدًا للغاية فلا يمكن اختزاله إلى عوامل بسيطة، سواء أكانت بيولوجية أم بيئية أم أي شيء آخر. وتضيف قائلة: "كلما نظر المرء نظرة فاحصة، تراءى له مزيدٌ من التعقيد".

ويُصر علماء الأنثروبولوجيا على انعدام أي أنظمة أمومية تقودها النساء، إنْ كنا نعني بالنظام الأمومي النقيض المباشر للنظام الأبوي. فقد عرّف المُنَظّر السياسي الإنجليزي، السير "روبرت فيلمر"، النظام الأبوي في مؤلفه الذي نُشر عام 1680 "النظام البطريركي"، [أي النظام المحكوم بالرجل]، على أنه الحكم الطبيعي للأب على عائلته والملك على دولته. لكن ما نراه عادة في المجتمعات الأمومية هو تشارك النساء والرجال السلطة. وحتى إذا كان الإخوة أو الأعمام أو الأخوال يتمتعون بسلطة كبيرة، فغالبًا ما تكون تلك السلطة متوقفة على الظروف، أو سلطة متفرقة أكثر من كونها سلطة مطلقة. وما يميز المجتمعات الأمومية، كما كتبت ستون، هو "الاختلاف الكبير" في "السلطة والقوة والتأثير في أوساط الذكور والإناث على حد سواء"، بل كان ثمة كثيرٌ من الاختلاف في الماضي. ففي عصر ما قبل التاريخ، كانت الأعراف الاجتماعية تتغير باستمرار، إذ تشير كرينزا إلى أنّ ما يمكن أنْ يبدو من منظور معيَّن على أنه عدم استقرار يتبدد من تلقاء نفسه -التحول من الأمومية إلى الأبوية، على سبيل المثال- قد يكون من منظور آخر انتقالا من حالة مستقرة نسبيًا إلى حالة أخرى.

اقرأ التفاصيل الكاملة في النسخة الورقية من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية"
أو عبر النسخة الرقمية من خلال الرابط التالي: https://linktr.ee/natgeomagarab

 

استكشاف

لعب الكبار.. ضــرورة

لعب الكبار.. ضــرورة

يميل الكبار إلى تجاهل اللعب بوصفه أمرًا سخيفًا أو طفوليًا، لكن المرح قد يكون أمرًا أساسيًا لبقاء نوعنا البشري.

مقابلة مع عالِم ونجم لموسيقى الروك

استكشاف فكرة نيرة

مقابلة مع عالِم ونجم لموسيقى الروك

يمزج "بريان ماي" -أحد مؤسِّسي فرقة "كوين" ومستشار وكالة "ناسا"- بين الفيزياء الفلكية وموسيقى الروك لخلق تناغم كوني.

جاذبية العزلة والمنعزلين

استكشاف فكرة نيرة

جاذبية العزلة والمنعزلين

يعيش سكان جزيرة سينتينل الشمالية على الصيد وجمع الثمار.. وصد الغرباء. ورغم ذلك، فإن العالم يرفض أن يتركهم وشأنهم.