:عدسة إنريك سالا
1 سبتمبر 2019
يقع "خليج ثيتس" عند أرخبيل "تييرا ديل فويغو" في الأرجنتين، لدى أقصى نقطة يمكن بلوغها في جنوب الأميركيتين.. وفي العالم.
.. والحال أن بشرًا قليلين بلغوا هذا المكان، الذي وصفه القبطان "جيمس كوك" في يومياته عام 1768 بأنه "ليس سوى منطقة سيئة للإبحار"، ناصحًا الذين سيزورونه من بعده بالابتعاد عن الأعشاب البحرية. لكن هذا الخليج ملاذٌ من بحار المنطقة الهائجة ورياحها العاتية. ذات يوم بارد ملبَّد بالغيوم من شهر فبراير عام 2018، أنزلنا قاربًا مطاطيا من سفينتنا -"ذا هانس إكسبلورر"- ورُحنا نناور به عبر مياه خليج "ثيتس" باتجاه الشاطئ، حريصينَ كل الحرص على تفادي مسطحات الأعشاب البحرية الكثيفة وتلال ركام الرمل التي تظهر مع كل حركة جزر.
كنت هناك أَقُود إحدى بعثات "مشروع ناشيونال جيوغرافيك للبحار البِكر"، بالتعاون مع الحكومة الأرجنتينية والحكومة الإقليمية لأرخبيل تييرا ديل فويغو و"منتدى حماية بحر باتاغونيا". كان بصحبتي "كلاوديو كامبانيا"، زميلي وصديقي القديم الذي شارك في تأسيس المنتدى عام 2004، وكرَّس حياته لدراسة الثدييات البحرية في الأرجنتين وحمايتها. كانت غايتنا جمع معلومات علمية وإنتاج فيلم وثائقي يكون الأساس والمنطلق نحو تأسيس محمية بحرية في المياه الأرجنتينية.
ويُعد إنشاء هذا النوع من المحميات -الذي هو بمنزلة منتزهات وطنية في قلب البحار- شغف حياتي الأول والأخير. فمنذ العقد الأخير، ظل فريق عملنا ضمن "مشروع ناشيونال جيوغرافيك للبحار البِكر" يعقد شراكات مع هيئات محلية لمساعدة الحكومات على حماية ما تزيد مساحته على خمسة ملايين كيلومتر مربع من المحيطات، ضد الآثار السلبية للصيد وغيره من المخاطر. وقد أخذتنا رحلاتنا الاستكشافية للغوص في شتى بحار العالم ومحيطاته، بدءًا من الجزر المرجانية في المحيط الهادي الفسيح وحتى الأرخبيلات المتجمدة في القطب الشمالي.
لكن الرحلة إلى أقصى نقطة في "تييرا ديل فويغو" اكتست أهمية خاصة لدي؛ ليس فقط بسبب ما يمكننا تحقيقه، بل إن ثمة ما يربطني إلى المكان. فههنا في عام 1973، أجرى "بّول ديتون" -صديقي ومرشدي العلمي- بحثًا رائدا. إذ أقدم ورفاقه على الغوص في مياه خليج ثيتس وجزيرة "دي لوس إستادوس" (جزيرة ستاتن) الواقعة شرقه مباشرة، متحَدِّينَ قسوة الرياح القطبية وعواصف البرَد والثلوج وهم مرتدين بذلات عتيقة الطراز لا علاقة لها بالتي نرتديها اليوم. هنالك قاسُوا وأحصوا كتل عشب البحر الهائلة والمخلوقات اللافقارية التي تعيش أسفل ظُلل تلك الغابات العشبية. لم يسبق لأحد قبلهم أن درس تلك الموائل البحرية؛ وكان من ضمن مَهمتنا إعادة إجراء تلك الدراسات المسحية التي سبقنا بول إليها. كنت شاهد عيان على التغيرات الجذرية المؤثرة التي شهدتها بقاع أخرى من محيطاتنا، نتيجة الصيد الجائر وتغير المناخ؛ وأفدحها تبيّض الشعاب المرجانية ونفوقها، وتقلص جليد بحر القطب الشمالي صيفًا. هنالك تساءلنا: ما الذي يمكن أن نعثر عليه هنا تحت المياه، بعد 45 عامًا على زيارة بول؟
ما إن خطوت أنا وكلاوديو على الشاطئ، حتى أدركت أننا في قلب ما يشبه مقبرة جماعية. فمع كل خطوة خطوناها، كانت عظام أسود البحر تتهشم تحت أقدامنا؛ وهي شواهد على نشاط الصيادين خلال النصف الأول من القرن العشرين. كان بعض الجماجم مخرَّمًا بثقوب خلَّفتها خطاطيف معدنية، وكانت هناك فكوك وأسنان تعود لذكور ضخمة من تلك الحيوانات وأخرى لصغارها.