:عدسة ويليام دانييلز
1 نوفمبر 2017
"اذهبي لتري تلك الطفلة، ثم جالسيها. قد تجدين معها شقيقيها أيضاً: أخوها وأختها اللذان تغيرت حياتهما كذلك إلى الأبد". كانت تلك كلمات "سمير ساها"، قبل أن يواصل حديثه إليَّ قائلا: "لهذا السبب يكتسي اللقاح أهمية كبيرة. فنحن نريد تقليص هذا العدد [من الضحايا] إلى الحد الأدنى، إن لم يكن ذلك إلى مستوى الصفر، حتى لا يلقى أطفال آخرون مصير تلك الطفلة".
كانت خيوط الفجر تنسدل على مدينة "دكا"، عاصمة بنغلادش، وكان ساها يجلس في المقعد الخلفي لسيارته وهو مستغرق في التفكير. شقّ السائق -الذي كان يرتدي بذلة رسمية- طريقه وسط زحام شديد تتخلله أصوات متنافرة تصدر عن الحافلات الصغيرة والدراجات النارية وعربات "ريكشو" والشاحنات والحافلات البالية التي ضاقت بركابها المتكدّسين لدى الأبواب المفتوحة حتى كادت تلفظهم. أفاق ساها من شروده ليقول: "استطعنا إنقاذ حياة الطفلة، لكننا لم نستطع.."؛ لم يكمل ساها جملته، لكنه أردف قائلا: "سترين الأمور رأي العين وستفهمين كل شيء".
ساها عالِم أحياء دقيقة، اشتهر على المستوى الدولي بأبحاثه عــلى إحــدى أنــواع البكتيــريا التي تُســمى "المكـورة الرئـوية" (Pneumococcus). وقد أسس هذا العالم مختبراً حُشر في إحدى زوايا "دكا شيشو"، أكبر مستشفى للأطفال في بنغلادش. في نهاية ردهة المستشفى، تؤثث صفوف من الأسرّة فضاءَ أجنحة المرضى المفتوحة. وخلال الأوقات المخصصة للزيارات العائلية، ترى أسرّة تحمل أطفالاً مرضى والعديد من الأقارب المهتمين بحالتهم. أما داخل المختبر، فينكبّ الباحثون كل يوم على دراستهم الدقيقة لخلايا المكورات الرئوية، إذ يتصيّدونها في قوارير الدم المسحوب والسوائل الجسدية الأخرى، فيضعونها في أطباق بترية ومن ثم يتفحّصونها من خلال المجاهر.
تنتشر بكتيريا المكورات الرئوية في كل مكان في عالمنا الحديث. فبالنظر إلى قابلية انتشارها بسهولة من خلال العطس أو الاتصال العادي (كالمصافحة)، يمكنها أن تعيش داخل الممرات الأنفية للأشخاص الذين يتمتعون بأجهزة مناعة سليمة من دون أن تتسبب بظهور أعراض مرضية. لكن عندما تضعف مناعة الجسم، يمكن للمكورات الرئوية أن تتنقل وتتكاثر فتسبب أمراضاً معدية تهدد حياة الإنسان. وأكثر من يعاني هذه البكتيريا هم الأطفال الصغار، وبخاصة أولئك الذين يعيشون في أماكن يصعب فيها الحصول على المضادات الحيوية والرعاية الطبية الجيدة. ففي الوقت الذي أصبح فيه أول لقاح أطفال فعّال مضاد لمرض المكورات الرئوية متاحاً في الولايات المتحدة وكندا عند بداية القرن الحادي والعشرين، كان هذا المرض يفتك في كل عام بأكثر من 800 ألف طفل في جميع أنحاء العالم؛ أي أن أكثر من ثلاثة أرباع مليون رضيع وطفل دون سن الخامسة كانوا يموتون.. لا بسبب بعض الأوبئة التي حظيت باهتمام إعلامي مثل إيبولا أو زيكا، ولكن بسبب كائن شائع مألوف يتكاثر ويتحول إلى التهاب رئوي (إصابة الرئتين) أو إلى التهاب للسحايا (إصابة بطانة المخ) أو إلى عدوى فتاكة في مجرى الدم. وكانت الغالبية العظمى من هذه الوفيات تحدث في بلدان فقيرة مثل بنغلادش.
وفي عام 2015، وصل لقاح المُكورات الرِّئويّة المقترن -كما يُطلق على هذه التركيبة المخصصة للأطفال- إلى أهالي بنغلادش؛ ومنذ ذلك الحين يتابع فريق ساها للأبحاث باهتمام شديد مسار التقدم الذي يحرزه. فإذا أثبتت هذه اللقاحات فعاليتها في جميع أنحاء العالم على النحو الذي يرجوه خبراء اللقاحات، فإنها تَعِد بتقليص معدل الوفيات بقدر كبير (أي أن الآلاف من الأطفال الصغار سيظلون على قيد الحياة بدلا من أن يلقوا حتفهم قبل بلوغهم سن الدراسة) وبتقليص عدد الأمراض غير الفتاكة، وخفض نسبة الأعراض المرضية من قبيل تسارع التنفس بسبب الالتهاب الرئوي، والحمى، وانسحاب الصدر إلى الداخل، والسعـال الشـديـد مـع حشـرجـة في الصـدر، وازرقـاق الشفتيـن.