زوجان أميركيان جريئان راودهما حلمٌ جامح: شراء مليون هكتار من الأراضي في تشيلي والأرجنتين، ثم التبرع بها للدولتين لإنشاء منتزهات جديدة.فترة يأس وإحباط. لم يستطع داغ تخطيها قَط".جلسَت "كريس ماك ديفيت تومكينز" لدى طاولة قهوة بُسطت عليها خرائط ملونة لدولتَي تشيلي والأرجنتين؛ ثم راحت تتحدث عن الجدل الذي دار في أوائل تسعينيات القرن الماضي حول منطقة تسمى "بومالين" في جنوب تشيلي. فلقد كانت بومالين هي التجربة المبكرة المؤلمة التي أظهرت لها ولزوجها الراحل -رجل الأعمال المتقاعد والمغامر- "داغ تومكينز"، مدى صعوبة استثمار دولارات أميركية ونيَّات حسنة في حماية معالم جغرافية بأميركا الجنوبية.
وراء طاولة القهوة؛ ووراء الخرائط؛ ووراء النوافذ الكبيرة لبيت الضيافة الحجري الجميل ذاك المُشيَّد مثل وكر طائر فوق تلة صغيرة.. تمتد إطلالة من المراعي المتدحرجة، والجداول المتداعية، وغابات الزان الجنوبي، والبحيرات المتلألئة باللون الأزرق في منتصف الليل: إنها مفاخر طبيعية يحويها "منتزه باتاغونيا الوطني" في تشيلي، وهو مشروع آخر من المشروعات التي رأت النور بفضل تومكينز.
يضم المنتزه أكثر من 300 ألف هكتار من الأراضي، بما في ذلك "وادي تشاكابوكو" الذي يمتد غربا من جبال الأنديز. وتبلغ المساحة الإجمالية لهذه الشبكة من المناطق البرية 4.5 مليون هكتار، بما في ذلك بومالين على بعد نحو 500 كيلومتر إلى الشمال، وستة منتزهات أخرى تم إنشاؤها أو توسيعها بفضل إصرار الزوجين تومكينز ومثابرتهما وشراكتهما مع الحكومة التشيلية التي استفادت من الأراضي التي تبرعا بها. الاتساع والتنوع كبيران ههنا، إذ تمتد هذه الشبكة على طول النصف الجنوبي لتشيلي، من غابات "فالديفيان" المطرية معتدلة الطقس في "هورنوبيرين" إلى الجزر الصخرية والأنهار الجليدية في "كاوسكار". ولكن لفهم نطاق ما فعلته كريس تومكينز وزوجها، فضلا عن العقبات التي واجهاها، من الأفضل أن نبدأ من بومالين. بسطت كريس الخرائط وبدأت تقص الحكاية على مسمعي.
في عام 1991، اشترى داغ تومكينز مزرعة مهجورة في "منطقة البحيرات" في تشيلي، وهو بلد كان يعرفه من زيارات في شبابه لمّا كان متزلجًا ومتسلقًا جوّالًا في أوائل الستينيات. في وقت لاحق من ذلك العقد، أسس هو وزوجته الأولى شركة لمُعدّات التنزه، تحت اسم "ذا نورث فيس"، قبل أن يبيعها لقاء مال ليس بكثير؛ ليؤسس شركة الملابس "إسبري" واسعة النجاح. في بداية التسعينيات، حين أصبح الرجل ثريًا، طلّق زوجته، وعبّر عن خيبة أمله في النزعة الاستهلاكية المدمرة؛ ومن ثم باع نصيبه في الشركة وترك عالم الأعمال التجارية وكرّس حياته للرياضات القوية التي جلبته أول مرة إلى أميركا الجنوبية: تسلق الجبال، والتزلج، والتجديف بالكاياك؛ ثم الحفاظ على الطبيعة.
وتحولت خطته لاستعادة الغطاء النباتي الأصلي لمزرعته، إلى فكرة أكبر. إذ أنشأ -ووهبَ- مؤسسة خاصة، أسماها "صندوق صون الأراضي"، ومن خلالها اشترى وجمّع صقعين كبيرين يتشكلان في أغلبهما من البراري، وهما "بومالين الشمالية" و"بومالين الجنوبية". وبينهما، اشترى أرضا أخرى، تسمى "هيناي"، كانت مملوكة من لدن "الجامعة البابوية الكاثوليكية" في مدينة فالبارايسو، والتي كانت على استعداد للبيع. لكن المصالح السياسية القوية، بقيادة رئيس تشيلي آنذاك، "إدواردو فري رويز تاغلي"، حالت دون إتمام عملية البيع. هنالك تحديدًا ظهرت كريس ماك ديفيت في المشهد، بعد تقاعدها بمدة وجيزة من منصب الرئيس التنفيذي لشركة ملابس أخرى تسمى "باتاغونيا"، حاملةً معها ثروتها وقناعاتها الخاصة، والتي تماشت على نحو جيد مع قناعات داغ تومكينز. وهكذا تزوجا في عام 1994.
كريس تومكينز امرأة صغيرة القد مفعمة النشاط حادة الذكاء. تتذكر تلك الأحداث من دون تأثّر عاطفي. هيناي، أجل، كانت تلك هي القطعة التي كانت ستُوحّد بومالين؛ هكذا قالت لي كريس. تبلغ مساحتها نحو 340 كيلومترًا مربعا، وهي ليست كبيرة مقارنةً ببومالين الشمالية أو الجنوبية، ولكنها تُشكل حزامًا لِبَرِّ تشيلي الرئيس في أحد أضيق نقاطه، من "خليج أنكود" إلى قمم الأنديز. أثارت جهودهما لشراء هيناي الشك والمقاومة والضغينة. إذ اشتكى بعض الناس من كونهما يسطوان على الأراضي الزراعية ذات الإنتاجية، بشرائها وحمايتها؛ فيقضون على الوظائف ويشكلون "نظاما إقطاعيا" في تشيلي.
استمرت ردود الفعل تلك طوال التسعينيات وحتى السنوات الأولى من هذا القرن؛ إذ وسّع الزوجان نطاق شرائهما الأراضي وحمايتهما ليشمل أجزاء أخرى من تشيلي (ومنها وادي تشاكابوكو، حيث جلست مع كريس أول مرة). كانوا يتساءلون: من هذان الدخيلان الانتهازيان (أو "الغرينغو" بلغة أميركا اللاتينية)؟ وما خططهما الشائنة؟ هل يعتزمان إنشاء مكب للنفايات النووية، أو توفير قواعد عسكرية للأرجنتين، أو سرقة مياه تشيلي؟ أم أنهما يريدان تحويل أجزاء كبيرة من تشيلي إلى مسارب خاصة بهما؟
في الواقع كان هدفهما في بومالين هو شراء الأرض وإنشاء منتزه ومنحه هبةً للبلد. لكن تشيلي لم يكن لها تقليد راسخ في مجال الأعمال الخيرية، ما عدا الكنيسة ومشروعات التعليم. وقد بدا ذلك الكرم غير المفهوم من زوجين أميركيين، أمرًا سلطويا وأبويا في أفضل الأحوال، وشريرا في أسوأ الأحوال. كانت هيناي حساسة على نحو خاص لأنها، على الرغم من صغرها، تمتد من الحدود إلى الحدود. لهذا كان النقاد يدفعون بأنه إذا امتلك الدخلاء الأثرياء هذه المنطقة، فسيتم شطر البلد إلى شطرين. وتعليقًا على ذلك، تقول كريس: "لقد عشنا أربعة أعوام أو خمسة من الاحتقار. واعتقد الناس أننا نمثل طائفة دينية".
طوال 21 عامًا من الزواج، مع ممتلكاتهما من الأراضي والمشروعات العديدة النائية في تشيلي والأرجنتين، واهتمامهما المستمر بالمناظر الطبيعية، أمضى الزوجان تومكينز وقتا طويلا على متن طائرات صغيرة وخاصة. إذ قضى داغ 15000 ساعة في القيادة، فيما كانت كريس تتولى القيادة في بعض الأحيان ولكنها لم تحصل قَط على ترخيص للهبوط أو الإقلاع. تقول: "إن أسعد لحظاتي هي حينما أطير". وتضيف قائلة إنها كانت تعتقد دائما أنهما سيموتان معًا، بسبب كل هذا الطيران على متن "سيسنا" أو "هسكي" وسط هذه الوديان والقمم في الأنديز.
لم يحدث ذلك. بل توفي داغ جرّاء انخفاض حرارة جسمه في 8 ديسمبر 2015، لدى مستشفى بالعاصمة الإقليمية "كواهيكي"، بعد أن عانى الغمر مدة طويلة في بحيرة تشيلية باردة في يوم نحس. فلقد هبت رياح قوية وارتفعت الأمواج، وتعطلت دفة زورق الكاياك حيث كان. انقلب الزورق، فعلِق الرجل من شدة التيار القوي المفاجئ برفقة شريكه في التجديف، المتسلق الشهير "ريك ريدجواي"، ولم يستطيعا الوصول إلى الشاطئ. تم إنقاذ ريدجواي بعد ساعة ونجا، أما داغ تومكينز فلم ينج.
تلقت كريس الخبر عبر الهاتف -بأسلوب غامض، مفاده حادث وربما وفاة- فقادت سيارتها ست ساعات إلى المستشفى حيث وجدت أن زوجها قد فارق الحياة. تقول: "إن رحيله المتعجل يتماشى مع ما كان عليه ذلك الزواج. وما الأسى إلا استمرار لمدى تجدر العلاقة". فقد تشاركا حياة عميقة للغاية، وكذلك كان الأسى عميقًا.
كان "بيكافلور"، لقبها الخاص بالتواصل عبر الراديو أثناء الطيران خلال سنواتهما معًا، ويعني الطائر الطنان باللغة الإسبانية. أما لقب داغ تومكينز فكان، "أغيلا"، بمعنى العُقاب. في ما بينهما، وبشكل أكثر ألفة وحميمية، كانا يغيّران هذين اللقبين إلى "لولو" (داغ)، و"بيردي" (كريس). ولكن إذا جاز لنا تشبيهها بطائر، فإنه لن يكون سوى طائر كاسر، وليس طائرا طنانا. فعلى مدى الأعوام القليلة الماضية، سعت كريس بمفردها وبحماس أكبر لمواصلة العمل الذي بدآه معًا.
تقول عن سعيها ذاك "إنه ما منعني من الموت واللحاق بداغ". وتعني أنها لا تحب الاستسلام، بالانتحار مثلا؛ رغم قولها: "لم أكن أتخيل الحياة من دونه". وهكذا أعادت كريس تركيزها على هدفهما المتمثل في الاستفادة من الأراضي التي حازها تومكينز لضمها في شبكة رائعة من المنتزهات الوطنية المنتشرة عبر تشيلي والأرجنتين. استغرق الأمر ثلاثة أعوام، لكنه أُنجز بوتيرة متسارعة. في غضون أسبوعين على دفن زوجها، توصلت إلى اتفاق لحماية نظام بيئي ضخم للأراضي الرطبة يعرف باسم "إيبيرا"، في شمال الأرجنتين. وبحلول نهاية مارس من عام 2019، أبرمت كريس تعهدها مع حكومة تشيلي بدمج أكثر من 400 ألف هكتار من أراضي تومكينز مع أربعة ملايين هكتار من الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة، لإنشاء خمسة منتزهات وطنية جديدة وتوسيع ثلاثة منتزهات أخرى. وبذلك أصبح ما كان في السابق محمية بومالين الخاصة كنزًا عامًا اختير له من الأسماء: "منتزه بومالين دوغلاس تومكينز الوطني".
بعد تناولنا الغداء في بيت الضيافة، أخذتني كريس تومكينز سيرًا على الأقدام لرؤية بعض المناظر الطبيعية المحلية. خلف النُّزل الرئيس في "منتزه باتاغونيا الوطني"، يؤدي طريق خَدَمي إلى ممر للمشاة يفضي إلى قناة تصريف مياه خور. توقفنا في مقبرة صغيرة جدا وذات شكل مربع داخل سياج ذي أعمدة حجرية، تؤوي عشرة قبور مميزة بصلبان خشبية وأضرحة صغيرة، بالإضافة إلى لوح من الحجر مزروع رأسيًا، نُقش عليه:
دوغلاس رينفورد تومكينز
بيردي و لولو
1943-03 2015-12
اختار الموظفون نقش شاهد القبر من دون استشارتها، لكن تومكينز تقول إنه أعجبها. لا تبدو عاطفية وهي تتحدث سريعًا عن زوجها ونهايته، لكن ذلك لا يعني انعدام التفاعل الوجداني، فهي تقول إنها أحيانا تعود إلى هذه المقبرة فتستلقي على العشب بهدوء وتدخل في لحظات من الاستذكار والمناجاة.
يمتد ممر المشاة متعرجا عبر التلال الصخرية والمهاد العشبية المكسوة بشجيرات "نينيو" مزهرة صفراء شائكة وذات شكل جانبي مستدير يجعلها تبدو من مسافة بعيدة مثل رؤوس مرجانية. يعبر الممر خورًا مظللا بأشجار الزان، ثم يصعد نحو موقع للتخييم -بسيط ولكنه مرتَّب جيدا لأجل الزوار- ليعود مرة أخرى نحو مقر المنتزه. في لحظة ما، لمحتُ كومة صغيرة من الروث الجاف الأبيض. أجل، إنه حيوان الكوجر، تقول تومكينز وهي تلتقط كتلة من الروث وتفتتها لتُريني الفراء المضغوط. ويعد رفع أعداد الكوجر في وادي تشاكابوكو أحد أوجه إعادة الحيوانات البرية، وهو هدف رئيس لأراضي تومكينز في تشيلي والأرجنتين التي فقدت بعضَ أيقوناتهـا الحيوانيـة الأصلية. وتعني عملية إعادة الحيـوانات البريـة مزيدًا من الكوجر و"الهيـمول" (غزال الأنديز الجنوبي، وهـو نوع مـهدّد بالانقراض) و"ريا داروين" (طائر كبير يشبه النعامة ولا يطير) هنا في منتزه باتاغونيا الوطني، بالإضافة إلى عمليات استعادة الحيوانات البرية وإعادة نشرها في أماكن أخرى.
ولا تَسلم عمليات إعادة الحيوانات البرية من الجدل أيضا، خاصة عندما تنطوي على عودة الحيوانات المفترسة مثل الكوجر أو (حتى في تلك الأراضي الرطبة الأرجنتينية العظيمة، إيبيرا) اليغـور. فـلا يمكـن تحقيقـها عـلى أرض الـواقع إلا بمــزيج مـن الجـرأة والصبـر؛ وكثير مـن ذلك الصبـر تبــديـه كريـس تومكينز. وقد قال لي "غيل بتلر"، وهو أيضا منخرط في العمل الخيري لصون الطبيعة: "كان داغ يلقي بأفكار جنونية كالقنابل، ثم تأتي كريس لتدعو بكل قوة إلى تطبيقها".
وعلى الجانب الأرجنتيني، تسير مبادرات تومكينز لإعادة الحيوانات البرية بنشاط في "إستيروس ديل إيبيرا"، الواقعة في الركن الشمالي الشرقي من ذلك البلد. إنه نظام بيئي شاسع ورطب يتألف من فسيفساء مزركشة من المستنقعات، وقنوات مياه داكنة وبرك موحلة، وبحيرات، ومنصات نباتات عائمة، وروابي عالية وجافة بما يكفي لدعم بقع غابوية صغيرة، وبعض مناطق السافانا المتينة. ويعج المكان بتماسيح "الكيمان" والطيور المائية، وإن كنت محظوظا فيمكنك أن تلمح أناكوندا صفراء. تضفي أشعة الشمس بريقا خاصا على كل تلك المشاهد؛ فاسم المنطقة نفسه مشتق من كلمة إيبيرا (ybera) بلغة "غواراني"، وتعني "المياه المشرقة".
تقع إيبيرا داخل إقليم "كوريينتس"، الذي يغلب عليه الطابع الريفي، وتحدها باراغواي وأوروغواي والبرازيل، ويهيمن عليها حضور قوي لثقافة شعب "الغواراني" الأصلي ولغته، وكذا روح الاستقلال في الحدود. اشتمل تاريخ إيبيرا منذ قرن من الزمن على تربية الماشية في الهوامش، بالإضافة إلى الصيد للحصول على اللحوم والجلود. وغالبا ما كان السكان المحليون يسافرون بالقوارب أو الخيل مبتلة الأقدام، ولكن لم يكن هناك ما يكفي من يابسة لدعم عدد كبير من البشر أو الأبقار. ولذلك كان المستقبل البديل يتجه نحو زراعة الأرز على نطاق تجاري وغرس الصنوبر. ثم، في عام 1997، حدث أن زار داغ تومكينز المنطقة فأصبح مفتونا بها. وفي أحد أيام الصيف، أحضر زوجته لإلقاء نظرة. تقول كريس: "لقد خرجنا من الطائرة فقلت للتو: مهلا، دعنا نغادر هذا المكان. إنه ساخن، إنه موبوء بالبق، ومسطح مثل الفطيرة. هيا فلنصعد الطائرة". لكنه رأى شيئا لم تره -التنوع الحيوي للمكان وإمكانياته الواعدة- واشترى مزرعة في جزيرة وسط هذا المستنقع الكبير من دون حتى مناقشة الأمر معها، وهو أمر كان نادر الحدوث. أصبحت هذه المزرعة، واسمها "إستانسيا سان ألونسو"، أول موطئ قدم لتومكينز في إيبيرا، وكذا -بفضل بعدها- موقعًا منطقيا لبدء العمل الأكثر إثارة ضمن عمليات إعادة الحيوانات البرية: إعادة نشر حيوان اليغور.
على مقربة من منزل مزرعة سان ألونسو، توجد مجموعة من الحظائر المصممة جيدا: إذ تتشكل من سياجات حديدية وأعمدة فولاذية متينة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار وتتخذ شكل حرف T في الأعلى لمنع الحيوانات من التسلق، ولها أسلاك مكهربة حول المحيط الداخلي. فقد تدخل حيوانات اليغور في نوبات من الاضطراب، خاصة عندما تكون في القفص، أو تكون في غمرة نشاط بدني. وتحتوي كل حظيرة أيضا على رصيف من الشجر أو أجمات خفيضة أو بعض المكونات الطبيعية الأخرى لتوفير الغطاء. كانت ثمانية من اليغور في الحظائر عندما زرتُ المكان، منها بضعة بالغة استُعيرت من حدائق حيوان، وشبلان يبلغان من العمر عامًا واحدا وُلدا هنا وتجـري تربيتهمـا ليطلقـا في البرية لاحقا. كان الشبلان يسكنان زريبة كبيرة في الخلف، ويتمتعان بطعام وفير ولكن من دون اتصال بشري -بل إن معاينة الحراس لهما نادرة- وذلك ليخافا الناس عند إطلاقهما ولا يربطا وجودهم بالطعام، وتكون لديهما عادات جيدة أخرى للنجاح في الحياة البرية.
شاهدتُ عملية إدخال خنزير ماء حي -قارض أصلي ضخم وغزير اللحم- إلى زريبة يغور؛ لكن أنثى اليغور البالغة في الداخل إما لم تكن مهتمة أو لم تكن جائعة. لكنها سوف تجده في الوقت المناسب. ثم طفق يغور ذكر كبير، يُعرف باسم "ناهويل"، يمشي ذهابا وإيابا على طول خط السياج، وعضلاته تموج تحت فروه الناعم المنقط. هذه السنوريات شرسة وجميلة في الآن نفسه طبعًا، وسوف تقتل الماشية في أي منطقة حيث تحل الأبقار والأغنام محل فريستها الطبيعية. أصبحت جزيرة سان ألونسو الآن خالية من البقر والأغنام، ويوفر عشبُها الكلأَ للعديد من غزلان المستنقعات ولعدد وفيرٍ جدا من خنازير ماء (ويرجع سبب ذلك جزئيا إلى الغياب الطويل لمفترسيها من اليغور) يزن بعضها زهاء 70 كيلوجرامًا. وهذا هو السبب في أن سان ألونسو تشكل المنطلق الأنسب. وقد تبدأ عمليات الإطلاق الأولى قريبا. ستكون إعادة نشر اليغور في منطقة أوسع في إيبيرا أكثر تعقيدا، إذ ستتطلب قبولا اجتماعيا ووفرة في الفرائس البرية.
وتتعامل "مؤسسـة تومكيــنز لصـون الطبيعة" مع تلك الإشكالية من خلال حملة تثقيفية وفعاليات تهدف إلى استثمار التقدير الذي يحظى به حيوان اليغور بوصفه جزءا من التراث الذي يفخر به إقليم كوريينتس. في حفلة أول عيد ميلاد لشبلي اليغور، في بلدة "كونسيبسيون"، شاهدت أكثر من مئة شخص، بالغين وأطفالاً، يحتفلون في فناء وسط لوحات جدارية تحمل صور حيوانات مرسومة بألوان زاهية، فيما تُعزف موسيقى القيثارة والأكورديون، والأطفال الصغار يلفّون الأشرطة الطويلة الملونة، والكعك المصنوع على شكل مخلب يغور يوزع مجانًا، وعرض للعرائس يشد الأنظار. تناوب الأطفال على أخذ صور تذكارية أمام ملصق ضخم ليغور، وكل منهم يطلق هديرا مثل هدير هذا السنور. كُتب على الملصق عبارة: "كوريينتس روغي"، وتعني "كوريينتس تزأر".
يتضمن جهد إعادة الحيوانات البرية أيضا ببغاء "المكاو ذو اللونين الأحمر والأخضر"، وغزال "بامباس" (وهو نوع مهدد)، والبيكاري "المطوق" (حلوف بري)، والقضاعة "العملاقة"، وآكل النمل "العملاق". تُجرى بعض الأعمال التحضيرية لهذه الحيوانات في مجمع حجْر صحي يقع على طريق جانبي ضيق وله سياج مزدوج، بالقرب من بلدة كوريينتس، عاصمة الإقليم.
"غريسيلدا 'غيشي' فرنانديز"، امرأة من أهالي كوريينتس عملت طاهية ومنظِّفة قبل أن تنضم إلى مؤسسة تومكينز منذ أكثر من اثني عشر عاما؛ وهي الآن الأم الحاضنة والخبيرة لاثنين من آكل نمل يتيمين صغيرين نَشَآ هنا، ولكل منهما زريبته الخاصة. أعطت فرنانديز زجاجة رضاعة لأحدهما، ويُعرف باسم "كويسكو"، فتشبث بها بمحبة وهو يتحسس حلمة الزجاجة بخطمه الطويل فيما أخرج لسانه الشبيه بالمعكرونة الشريطية ليلعق الحليب. بعد الرضاعة، راح يستمتع برعاية فرنانديز وهي تدغدغ بطنه. لكن هذه الألفة اليسيرة لا يمكن أن تستمر. قالت المرأة: "إنها حيوانات ذات غرائز متجذرة للغاية؛ ولا يمكن اتخاذها حيوانات أليفة أنيسة". وأضافت: "بعد أن تبلغ من العمر عامًا واحدًا، تنمو لديها مخالب كبيرة وخطيرة".
غالبا ما تُيتَّم هذه الصغار عندما تُقتل أمهاتها في مشاجرات مع الصيادين وكلابهم، حيث يحدث كذلك أن يُقتل هذا الكلب أو ذاك أحيانا. فآكل نمل ضخم بالغ هو مخلوق رائع على نحو يستبعده العقل، بفرو خشن منسدل أسفل ظهره، وقائمتين بيضاوين، وشريط أسود يخترق فروه، وذيل فروي ضخم يكون له بمنزلة بطانية عندما ينام، وخطم منحني رشيق يعمل مثل مكنسة كهربائية، ولسان يعادل طول نصف جسمه.. وكذا تلك المخالب. أقامت ثمانية آكلات نمل بالغة في حظائر أكبر غير بعيد عن مكان كويسكو، وعندما أحضرت فرنانديز العشاء (وهو ملاط من طعام قطط وماء، إذ لا يستطيع مقدمو الرعاية جمع نمل كثير في يوم واحد) جاء اثنان منها على الفور ليحملاه. ما إن تُطلَق هذه الحيوانات في البرية، ستعود بالفطرة إلى نظام غذائي قوامه النمل والنمل الأبيض.
كان النضال طويلا وشاقا من أجل إعادة الحياة البرية إلى أراضي تومكينز في إيبيرا، ودمجها مع الأراضي الحكومية (الوطنية والإقليمية) في منتزه عام كبير، والدفع بعجلة التنمية الاقتصادية القائمة على السياحة في المجتمعات المحيطة بالأراضي الرطبة. أخبرتني "صوفيا هينونين"، المديرة التنفيذية الحالية لمؤسسة تومكينز لصون الطبيعة في الأرجنتين، والتي شرعت في إدارة مشروع إيبيرا في عام 2005، أن الناس كانوا في البداية يتحدثون عن داغ تومكينز بوصفه "الغرينغو الذي أراد سرقة المياه". وقد أصبح شعار معارضة مشروعه: "لوس غرينغوس بينين بور إل آغوا" (الدخلاء يسعون للسطو على المياه). فلقد وجد الأرجنتينيون صعوبة -كما كان الحال مع التشيليين، خلال فترة هيناي- في التصديق بأن اثنين من الأميركيين الأغنياء سيشتريان الأرض من أجل التخلي عنها. كان بعض المسؤولين في إقليم كوريينتس أيضا يشكّكون في فكرة المنتزه الكبير، وكذلك مالكو الأراضي المحليون الرئيسون، الذين اعتنقوا النموذج الاقتصادي الأقدم القائم على الماشية والغابات والأرز.
شكّل الدعم من مسؤولي كوريينتس أمرًا بالغ الأهمية، لأن جزءًا كبيرا من إيبيرا كان في ملكية هذا الإقليم، بصرف النظر عن ممتلكات تومكينز والأراضي التي تمتلكها الحكومة الوطنية. قالت لي هينونين: "لقد طرقنا الباب، ثم طرقنا الباب". فلم يفتحه مسؤولو كوريينتس. لكن عمداء المدن الصغيرة المحيطة بالأراضي الرطبة، وهي بوابات النظام البيئي للمنطقة، أظهروا اهتماما أكبر بإيرادات السياحة المحتملة من منتزه كبير. كما عَدّت الحكومة الوطنية في بوينس آيرس ـوخاصة وزارة السياحةـ إيبيرا وجهة جديدة واعدة. وبحلول عام 2013، أدرك سياسي واحد على الأقل في كوريينتس، وهو السناتور "سيرخيو فلينتا"، أن الإقليم كان على الجانب الخطأ من هذه المعركة؛ فشرع في الدفع باتجاه استصدار قوانين لإنشاء منتزهات، في مجلس الشيوخ الإقليمي. لكن الأمور كانت لا تزال تسير في طريق مسدود. ثم جاء حادث مفاجئ فتح ذلك الطريق المسدود: توفي داغ تومكينز.
وعلى الفور، وفي غمرة حزنها، تحركت كريس تومكينز لحلحلة الموضوع. إذ طلبت إلى هينونين الاتصال هاتفيا بفلينتا وإتمام الصفقة بشروط توفيقية: ضم 168 ألف هكتار من أراضي تومكينز إلى أراضي إقليم كوريينتس، زيادةً على الأراضي الوطنية الأرجنتينية، وجعلها كيانًا واحدا (ولكن من دون إدراج مسألة السيادة) لتشكيل منتزه كبير واحد. وفي غضون أسبوعين، كانت تومكينز وهينونين وفلينتا في مكتب "ماوريسيو ماكري"، رئيس الأرجنتين الجديد، حيث تم إبرام الصفقة. كان من الممكن أن ترتدي تومكينز لباس الأرملة الأسود في ذلك الاجتماع الرئاسي لتلعب على وتر العاطفة، لكنها ظهرت في سترة بيضاء وكانت تبتسم؛ معبّرةً بذلك عن رسالة ضمنية مفادها: كفانا من المراوغة السياسية، فالحياة قصيرة. دعونا ننجز الأمر. بعد مرور خمسة أعوام، أصبح النقاد السابقون يرون القيمة التراثية لاستعادة الحياة البرية والفوائد الاقتصادية للسياحة. قال لي فلينتا: "كان هناك أشخاص لا يحبون داغ لأنه كان أميركيا. والآن يقولون شكرا لكم".