ما إن تقترب من حي الدباغة الواقع بجوار "جامع القرويين"، في مدينة فاس المغربية، حتى تتصاعد رائحة جلود الحيوانات المسلوخة النفَّاذة لتمتزج مع عبق التاريخ الذي يطبع قلب المدينة العتيقة. هنا، بمحاذاة الأحياء الضيقة التي يحُفها شريان المياه الرفيع لـ"وادي بوخرارب"، ينكب مئات من "المعلمين" المهرة شأنهم شأن أجدادهم منذ 13 قرناً، على دبغ جلود الأبقار والأغنام والماعز والإبل وسط ظروف شديدة الصعوبة.
قبل قرنين من الزمن، كانت تتوزع في أركان فـــاس 19 دار دباغـة، لكـن عـددها استمـر في الانكماش ليصل اليوم إلى ثلاثٍ، تتربع على رأسها "دار الدباغ شوارة" الأقدم والأشهر. تقع هذه المَعلمة التاريخية في "حي لبليدة" وهي تتصل عبر حواري ضيقة بالدارين المتبقيتين في المدينة؛ "دار الدباغ سيدي موسى" و"دار الدباغ الطالعة الكبيرة" التي تمتد وراءها "سوق اللباطين".
قبل وصول الجلود الخام إلى دار الدباغ تمر عبر "فندق اللباطين" حيث تحتدُّ نقاشات التجار أثناء مفاوضات البيع والشراء. بعد ذلك تُنقل البضاعة المُشتراة لتُنقع فترة طويلة في الماء والجير حتى يسهُل إزالة الصوف منها، والذي يُباع بدوره في "سوق الذهبان" المجاورة.
يوضح عيسى إبراهيم -مصور هذه اليوميات- بأن هذه المدابغ لا تناسب أصحاب الرئات الضعيفة بسبب صعوبة استنشاق المرء لروائح محاليل أحواض الدباغة ذات الحموضة المرتفعة، وهو أمر اعتاده عمّال وأصحاب المدابغ، إلّا أنّ جمال المنطقة وعراقة تصميمها التقليدي وألوان الحياة الضاجّة في القصريات (الحفر التي يُنقع فيها الجلد)، يُغري السائح لخوض هذه المغامرة الفريدة.
يُعرف الدباغون بقوتهم البدنية، وكذلك بقوة حناجرهم. وهم اعتادوا الغناء وترديد الأهازيج ترويحاً عن النفس وتخفيفاً لعناء العمل، لا بل تفنَّنوا في لون طربي غنائي تقليدي خاص يسمى "المَلحون". وقد لاحظ إبراهيم أنه على رغم قلة ذات يد الدباغين إلا أنهم يكدُّون بكل جهد وحب في مهنتهم التي لا قِبل إلا للقليل من الناس بها. وحين سأل أحدهم عن السر وراء ذلك، ابتسم الرجل وقال: "نحن نحوِّل الجلود من شيء ميت إلى أحذية وحقائب وسترات، فتصبح شيئاً مبهجاً يضج حياةً".
دور الدباغة الفاسية عُرفت قديما بـ"دار الذهب" نظير ما كانت تدره من أرباح وفيرة، لكنها اليوم لا تجلب سوى دريهمات قليلة لأصحابها الذين يقفون حراساً على تاريخ يرفضون دفنه تحت تراب الزمن.
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز