:عدسة براين سكيري
1 أغسطس 2017
صنعَ "زين غراي" لنفسه اسماً بتأليفه روايات أدبية عن مغامرات الغرب الأميركي، لكن شغفه الحقيقي لم يكن القتال بالبنادق ولا بطولات رعاة البقر. فلقد كان الرجل مولعاً بالصيد في مياه المحيط العميقة، وله في ذلك 14 رقماً قياسياً عالمياً في صيد أسماك المياه المالحة، ومنها أول سمكة من أسماك "الخرمان" يفوق وزنها 450 كيلوجراماً (ويتعلق الأمر تحديداً بسمكة من نوع "مارلن" اصطادها بصنارة في جزيرة تاهيتي عام 1930). لكن لا شيء من ذلك يُضاهي أسماك قرش "ماكو قصير الزعانف" (المسمَّى علمياً Isurus oxyrinchus) التي تَواجَه معها في المياه القريبة من ساحل نيوزيلندا عام 1926.
وكان أول قرش ماكو يعلق بصنارة غراي، بوزن 117 كيلوجراماً؛ وعندما سحبَه بخيط الصنارة حتى أوصله إلى جنب القارب -حسبما ذكر في كتابه (حكايات من فردوس الصيادين: نيوزيلندا)- "سرعان ما أدركت شيئا عن قرش ماكو! فلقد دخل معنا في صراع رهيب إذ كسَّر أحد خطاطيف الصيد، وبلَّلنا بالماء، ولم يُبدِ أي استعداد للتوقف عمّا يُسبّبه من متاعب". وما إن سُحِبَ القرش إلى سطح القارب، حتى تعجب غراي لِما رأت عيناه: سمكة ذات بِنية انسيابية وتركيبة عضلية قوية تنتهي برأس كالرصاصة. وقد كتب، تعليقاً على مشهدها: "لم أر قَط مثيلاً لها. فكلّ شِبرٍ من قرش ماكو ذاك كان يوحي بالقوة والسرعة".
لكن، يظل قرش ماكو ذو الـ 540 كيلوجراماً، والذي تصارعَ معه قائدُ قارب غراي، سيدَ مواصفات التفوق بلا منازع.. وإلى حد شبه أسطوري. فبعد مواجهة طويلة ظل القرش خلالها "يقفز بشكل مدهش ويناور على نحو لا يصدَّق"، تمكّن من قضم مفصل خيط الصنارة فنجح في الإفلات. وبعد حين، أَسرَّ قائد القارب لغراي بالقول: "لقد تملَّكني الرعب؛ فقد بدا القرشُ وكأنه يملأ الأفق بالكامل. لقد كانَ أشرسَ وأوحشَ من سائر الوحيش التي رأت عينايَ من قبل.. إلى درجة لا مجال فيها لتصوّر مشهده مُلقىً وهو هامد على سطح القارب!".
بعد مرور نحو قرن على تلك الأحداث، لا يزال قرش ماكو قصير الزعانف مقترناً بِميزَة القوة القاهرة في مخيّلة الصيادين، والذين يُحبّونه لشراسته بقدر ما يحبون لحمَه. ولكن، يبدو أن مئة عام من صيد هذا القرش قد فعلت فيه فعلتها؛ إذ ظل هدفاً منشوداً للصيد الترفيهي، وضحية عَرضيةً لشباك سفن الصيد التجاري. فهو ينافس في جودة لحمه سمكَ "أبو سيف" (Xiphias gladius)، كما أن زعانفه أثيرة في آسيا حيث تُستعمل في حساء الزعانف. ويُعدّ هذان السببان معاً مصدر ضغط كبير على قرش ماكو. (وفي هذا التحقيق، يُقصَد بعبارة "قرش ماكو"، قرش ماكو قصير الزعانف؛ وذلك لتمييزه عن أقرب أقاربه، وهو قرش ماكو طويل الزعانف، المسمّى علمياً "Isurus paucus"). والحال أن العلماء لا يعرفون على وجه الدقة مقدار ذلك الضغط ومدى تأثيره النهائي، إذ لا فكرة واضحة لديهم عن عدد أسماك قرش ماكو الموجودة في محيطات الأرض؛ فجُلُّ البيانات المتوفرة عن الكميات المُصطادة ومعدلات النفوق يتم استنتاجه من شركات الصيد التجاري، والتي عادة ما تُقدم أرقاماً أقل مما تصيده في الواقع. ولذلك، فإن علماء الأحياء الذين يدرسون قرش ماكو يحاولون ملء هذا الفراغ المعرفي الكبير.
في صيف عام 2015، دُعيتُ للانضمام إلى نشاط ميداني لوسم قرش ماكو ببطاقات تعقّب قبالة ساحل "ماريلاند" بالولايات المتحدة، من قِبَل علماء يسعون إلى سد بعض تلك الثغرات المعرفية. وقد كنت أعتقد أن ذلك النشاط سيجري كما يلي: نصطاد أسماك قرش ماكو كبيرة، ثم نرى مشهد مقاومتها الشرسة، كذاك الذي رآه "زين غراي"، ومن ثم أحصل على عناصر شائقة أُطعّم بها التحقيق الذي بين أيديكم. لكني بدلا من ذلك، اكتشفت من كثب أن الكاتب الأميركي "مارك توين" كان على حق بشأن ما ذكره عن حالة دُوار البحر، إذ كتب: ("في البداية، يُصاب المرء بالغثيان إلى حد يصير فيه خائفا أن يموت؛ وبعدها يصل به الغثيان الشديد إلى حالة يخاف فيها ألا يموت"). فلقد استبدَّ بي الغثيان حتى صرتُ غير مبالٍ لما يحدث من حولي؛ وحتى عندما سحب الصيادون زوجا من قرش ماكو بحجم صغير إلى سطح المركب، لم يُبدِ أيٌ منهما مقاومة تُذكر. ولذا قررت أن أخوض تجربة أخرى في مياه ساحل ولاية "رود آيلند" بالولايات المتحدة في صيف ذلك العام نفسه.. وهذه المرة لم أنسَ الدواء المضاد لدُوار البحر. وهنالك رأيت ما كنت أصبو إلى رؤيته حقا.