جميعنا نتحدر من أسلاف مهاجرين. فنوعنا البشري، "هومو سابينس" (الإنسان العاقل)، لم يتطور في مدينة لاهور حيث أكتب هذه الكلمات، كما أننا لم نتطور في أبوظبي أو الرياض أو القاهرة أو بغداد أو الرباط.. حيث تقرؤون هذه الكلمات.
حتى وإن كنت تعيش اليوم في "وادي الصدع العظيم" بإفريقيا -القارة الأم لنا جميعًا- وتحديدًا في الموقع حيث اكتُشف أقدم رفات بشري حتى الآن، فإن أسلافك أيضًا تنقّلوا. إذ غادروا المكان، وتغيّروا، واختلطوا، قبل أن يعودوا إلى المكان الذي تعيش أنت فيه الآن؛ مثلما غادرتُ أنا لاهور وعشت على مرّ عقود في أميركا الشمالية وأوروبا، ثم رجعتُ لأعيش في البيت حيث عاش أجدادي ووالدَي من قبلُ.. المنزل نفسه حيث أمضيتُ جل طفولتي. قد أبدو أنّي ابن الدار الأصلي، والحال أنّي تغيرت كليًا إذ خضعت لإعادة تشكيل بسبب ترحالي.
لا أحد منا يُعدّ ساكنًا أصليًا للمكان الذي يدعوه وطنًا.. ولا أحد منّا يمتلك هذه اللحظة من الزمن. فنحن لا ننتمي بالأصل إلى هذه اللحظة، التي صارت من الماضي بالفعل عندما شرعتُ في كتابة هذه الجملة؛ ولا إلى اللحظة -التي مرت أيضًا- حينَ بدأتَ أنتَ فيها بقراءة الجملة؛ ولا حتى إلى هذه اللحظة بالذات -الآن- التي ندخلها أنا وأنت أول مرة، لكنها تنصرف من بين أيدينا، بل إنها قد انصرفت بالفعل إلى غير رجعة.. فصارت مجرد ذكرى.
أن تكون إنسانًا فذلك يعني أنك رحّالة عبر الزمن، حيث الثواني كالجُزر التي نصل إليها.. نصل منبوذين، ومنها يجرفنا المد فيقذف بنا من هذه اللحظة إلى التي تليها.. من جزيرة إلى أخرى جديدة.. جزيرة لم نشهدها من قبل، كما هو الحال دومًا. على مرّ حياة المرء، تتراكم هذه الهجرات عبر الثواني، وتتحول إلى ساعات ثم شهور فعقود. هنالك نُدرك أننا غَدَونا لاجئين من طفولتنا ومن المدارس حيث درسنا ومن الأصدقاء وألعاب الطفولة والوالدَين اللذين وهبا لنا الحياة جميعًا؛ لنستعيض عنهم ببنايات جديدة ومكالمات هاتفية وألبومات صور وتذكارات. نخطو خطواتنا الأولى في الشارع متطلعينَ بأنظارنا إلى الكبار بقاماتهم الطويلة؛ ثم نخطو مرة أخرى بعد حين لنجتذب نظرات أشخاص آخرين بشبابنا؛ وبعد فترة بأطفالنا أو بأطفال أصدقائنا؛ ثم نخطو تارة أخرى -خطوات بالكاد يراها أحد، وبلا جاذبية أو اهتمام إلا قليلا- وقد انحنت قاماتنا بفعل الدهر.
إننا جميعًا نختبر شعور هذه الدراما المستمرة للأسى الجديد المتجدد الذي يُخلفه ما فقدناه وما تركناه وراء ظهورنا. إنه أسى عالمي مؤثر وكبير إلى درجة أننا نسعى إلى إنكاره، ونادرًا ما نعترف به حتى لأنفسنا، فما بالك للآخرين. فالمجتمع يشجعنا على التركيز فقط على الجديد، وعلى ما نكتسب؛ بدلًا من التركيز على الفقدان، الذي هو الرباط الآخر الذي يوحد نوعنا.
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز