لو جال المرء بنظره في مكتب "أنتوني جيمس"، لَمَا صعُب عليه تخمين عمله؛ فالجدران مغطاة برسوم البعوض، والرفوف مصطفة بكتب عن هذه الكائنات. عُلقت بالقرب من مكتبه لافتةٌ رُسمت عليها تشكيلات من بعوضة محددة تُعرف باسم "الزاعجة المصرية" (Aedes Aegypti) في كل مراحل تطورها، من البويضة إلى الحشرة الكاملة، مرورا بمرحلة الخادرة. وقد كُبِّرت الصور إلى درجة أنها لتكاد تُرعب حتى المُعجبين بأفلام المخلوقات الضخمة المرعبة كتلك التي نراها في "جوراسيك بارك". أما لوحة ترقيم سيارة صاحبنا هذا فتحمل كلمة واحدة، هي (AEDES).
يقول جيمس -عالم وراثة جزيئية لدى "جامعة كاليفورنيا" في مدينة إرفاين-: "لقد ظللت شغوفاً بحب البعوض إلى حد الهوس منذ ثلاثين سنة". ثمة نحو 3500 نوع من البعوض، لكن جيمس يركز اهتمامه على بضعٍ منها فحسب، تُصنَّف ضمن أخطر المخلوقات على سطح الأرض؛ ومنها بعوضة "الأنوفيلة الغامبية"(Anopheles gambiae) الناقلة لطفيلي الملاريا الذي يقتل مئات آلاف الأشخاص كل عام. لكن جيمس ركز معظم مشواره المهني على "الزاعجة المصرية".يعتقد المؤرخون أن هذه البعوضة وصلت إلى الأميركيتين على متن السفن التي كانت تقل العبيد من إفريقيا في القرن السابع عشر، حاملة معها الحمى الصفراء التي تقتل ملايين البشر. واليوم تنقل هذه البعوضة أيضا حمّى الضنك التي تصيب نحو 400 مليون شخص كل عام، كما تنقل مسببات أمراض فيروسية خطيرة من قبيل "حمى الشيكونغونيا" و"حمى غرب النيل" و"فيروس زيكا". في عام 2015، ظهر فيروس زيكا في البرازيل، ثم ما لبثت رقعة انتشاره أن اتسعت، ويبدو أنه تسبب بالعديد من الاضطرابات العصبية، منها عيب خلقي نادر يسمى "الصَّعَل" (Microcephaly)، إذ يولد الأطفال برؤوس أصغر من المعتاد وأدمغة غير مكتملة النمو. ويهدف جيمس من عمله المَخْبري -وكذلك من مساره العلمي الحافل- إيجاد وسيلة لتعديل مورثات تلك الأنواع الخطيرة من البعوض بطريقة تضع حداً نهائياً لنقلها تلك الأمراض. ولقد ظل البحث في هذا الدرب إلى حدود الآونة الأخيرة طويلا وموحشا ويطغى عليه التنظير؛ لكن سرعان ما بدأت النظرية تتحول إلى حقيقة بفضل المزاوجة بين تقنية ثورية جديدة تسمى "CRISPR-Cas 9" (يُشار إليها اختصاراً فيما بعد بـ"كريسبر") وبين نظام طبيعي يعرف باسم "التحفيز الوراثي" (Gene Drive).
تضع تقنية "كريسبر" بين أيدي البشر ضربا جديدا من القوة والتمكين العلمي. إذ صار بإمكان العلماء، لأول مرة، تغيير الحمض النووي (DNA) وحذفه وإعادة ترتيبه على وجه السرعة والدقة لأي كائن حي تقريبا.. بما في ذلك البشر. لقد غيرت هذه التقنية وجه علم الأحياء خلال السنوات الثلاث الأخيرة. إذ اشتغل الباحثون في المختبرات حول العالم على نماذج حيوانية باستعمال تقنية "كريسبر" لتصحيح عيوب وراثية هامة، بما فيها الطفرات المسؤولة عن الحثل العضلي والتليف الكيسي وأحد أنواع التهاب الكبد الفيروسي. وفي الآونة الأخيرة استعملت العديد من الفرق تقنية "كريسبر" في محاولة لاجتثات فيروس نقص المناعة المكتس
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز