"ها قد اقتربنا"..
هذا ما اعتاد والدي قوله لنا ما إن يَلمح "برج راشد" في الأفق كنقطة بعيدة. كانت إشارته تلك تتكرر في كل زياراتنا لإمارة دبي؛ لتعلن انطلاق "مسابقة عائلية" من نوع خاص. هنالك نبدأ في تحريك رؤوسنا الصغيرة يمنة باتجاه يده التي يشير بها إلى تلك النقطة البعيدة، قابضا بيُسراه مِقود سيارته الـ "نيسان" زرقاء اللون (طراز داتسون 1982).
فلقد كنا -أنا وإخوتي- ندخل منافسة: مَن سيلحظ البرج أولًا؟ كان الأمر في غاية الإمتاع فيُنسينا عناءَ الطريق ومَلَلها الذي كان يُضنينا طوال رحلة الـ 140 كيلومترًا أو نحو ذلك، قادمين من إمارة أبوظبي. لم يكن يُرى خلال الرحلة أي شيء يثير إعجاب أطفال صغار.. فقط صحراء ذات رمال ذهبية تنشر بريقها على جانبي طريق إسفلتية بالكاد تكفي مركبتين، وبضع أشجار صحراوية تتناثر هنا وهناك. استفقت من ذكرايَ تلك على وقع عبارة: "ذاك هو برج راشد" التي قالتها امرأة إماراتية -بدت في الثلاثينات من العمر- لطفلها وهي تشير بيدها صوبَ "مركز دبي التجاري العالمي". كنت حينهَا أقف لدى الجهة الجنوبية من "برواز دبي" (Dubai Frame) الذي ينتصب شامخًا في قلب "حديقة زعبيل" وسط المدينة. ابتسمت في وجه المرأة وعُدت بنظري إلى البرج القابع وسط "غابة" غنّاء من مبانٍ أراها قمة في الفخامة وغاية في الإثارة، وأنا أحاول من جديد استذكار ذلك الزمن العائد إلى ما يقرب من أربعة عقود.
في كل مرة أزور مدينة دبي، أحاول جاهدة إلقاء نظرة إلى هذا المبنى الذي يكاد ينصهر وسط كل ناطحات السحاب الفارهة التي تحيطه من كل نحو وصوب على مشارف "شارع الشيخ زايد". فههنا أسعى جاهدة إلى استعادة مَشاهد من شريط ذكريات طفولتي. كنت حينها على أعتاب العاشرة من عمري. ولمّا كنت أكبر إخوتي، فقد منحني ذلك امتياز الجلوس مباشرة لدى نافذة السيارة، حيث يَشرئب عنقي الصغير وأنا أتطلع ببصري إلى عنان السماء لعلّه يدرك أبعاد هذا المبنى الضخم الشاهق.. بمعايير ذلك الزمان. وها أنا اليوم أيضا أحاول استيعاب هذه المدينة عبر النظر في امتدادها من شرفات "برواز دبي" الواسعة؛ هذا المعلم الذي يُعدّ أحدث التحف المعمارية في المدينة، بعد افتتاحه في شهر يناير من عام 2018. عادةً ما أجدُنِي أَعقد مقارنات بين البرواز وبرج راشد الذي تم إنجازه عام 1979 ليكون المبنى الأعلى على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط، إلى أن بزغ نجم "برج العرب" عام 1999. منذ أن بدأت أعي هذه النهضة العمرانية العظيمة وأنا أعدّ برج راشد المنارةَ التي ألوذ بها لالتقاط أنفاسي، وكأنّي بحّار فقد بوصلته في خضم هذا الموج العمراني العارم. إنه النقطة التي بدأ منها الحلم كله، والمرجع الأساس الذي يؤرخ لنهضة عمرانية هي الأكثر إثارة للإعجاب والدهشة في العصر الحديث. والآن ما من نافذة أبهى وأوسع وأشمل من "برواز دبي" المهيب، يمكن أن تتيح لأهل دبي وزوارها استكشاف ملامح تلك النهضة وملاحمها.
البهية المبهرة
في الثاني من شهر ديسمبر من هذا العام تحتفل إمارة دبي -كباقي
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز