تتعرض مجاري المياه الباردة التي تقصدها أسماك السلمون المرقط والسلمون الشائع وأسماك أخرى للسخونة المفرطة بسبب تغير المناخ؛ ما يضر بالصيادين في موضع يقضون فيه أفضل أيامهم.
نشأ "الفرع الأوسط" لنهر "فلاتهيد" في الجزء الصخري المرتفع من غرب مونتانا، على مقربة من "التقسيم القاري الكبير" لدى أميركا الشمالية. ويمتد عشرات الكيلومترات وسط البرية الخضراء حيث يستوعب ذوبان الثلوج من "مَعبر موسكرات" و"جبل سليبري بيل"، وستة جداول مائية، ليتحول إلى أحد المجاري المائية الأثيرة في الغرب الأميركي. في صبيحة دافئة من يوم صيفي، كانت المياه تتموج حول ساقَي امرأة قصيرة القامة تضع على عينيها نظارة شمسية وتعتمر قبعة رياضية ثَبَّتت عليها ذبابات صيد صناعية. تُدعى المرأةُ "هيلاري هاتشيسن"، وهي دليلةُ صيد بالذبابة الصناعية وناشطة في مجال المناخ وخطيبة تتحدث إلى جماهير بجميع أنحاء الولايات المتحدة. كان موسم صيدها الصيفي هذا في غرب مونتانا قصيرًا -ومعنى ذلك أنه كان محمومًا مفعمًا بالاهتياج- وبحلول أواخر شهر يوليو، بدا صوتها كما لو كان يُسمع من خلال مكبرات صوت قديمة. قالت لي: "اقترب شهر 'أغسطس القَلِق' حيث ينتاب الأدِلاءَ كلهم بعض الجزع والتوتر. فنوم الليل يتحول إلى غفوة قصيرة ويصبح النهار مفعمًا بالعمل الدؤوب". ومع ذلك، فكل فرصة تسعفها في الوقوف بالقرب من الماء تجعل مزاجها رائقًا. دفعَت الطوف إلى الماء، وأمسكت المجذافين، وطفقت توجه مقدمة الطوف ليمخر طريقه وسط التيار النهري. كان اليوم مشمسًا ودافئًا وضفة النهر مفروشة بحصى ذي ألوان وردية باهتة وأخرى خضراء شاحبة كألوان واجهات الكنائس الأميركية العتيقة؛ في مشهد ظهر فيه النهر، بأحجاره والسماء التي تعلوه والأسماك التي بداخله، كأنه صندوق جواهر نفيسة. وكانت هاتشيسن -البالغة من العمر حينها 44 عامًا- قد نشأت هنا بالقرب من أنهار منطقة "فلاتهيد"؛ فهي تَعرفها حق المعرفة. وكانت في كثير من الأحيان تُبعد الطوف عن التيار، وتُسقط المرساة، وتقترح علينا دراسة الماء معًا والتفكير فيما يعطي من إشارات بشأن مكان وجود أسماك السلمون المرقط اللطيفة تحت سطح الماء للأكل. وعندئذ، تطلب إلي أن ألقي خيط الصنارة لاصطيادها. ففي يوم كهذا، كان من الصعب -في وجود المشروبات الباردة المحفوظة في المبرّد والجو الذي يبعث على الأمل، أن يصدق المرء أن في العالم أمرًا ليس على ما يرام.
لكن التغير وصل إلى "الفرع الأوسط". فالأنهار الجليدية وأكوام الثلج في "المنتزه الوطني الجليدي" القريب من المكان، والذي يغذي النهر بالمياه الباردة الصافية طوال الصيف، آخذة في الانحسار. وأضحى تدفق المياه يغير أنماطه. وصار العملاء يصطادون أسماكًا هجينة أكثر مما كانت عليه في الماضي. ولقد بات كل ذلك واضحًا في عام 2019 عندما أمضيت بعض الوقت مع هاتشيسن؛ لكن صيف عام 2021 تحول إلى أحد أقسى مواسم الصيف على أسماك المياه الباردة حتى الآن في الغرب الأميركي.
فقد كانت الولايات، من كاليفورنيا إلى مونتانا، قد شهدت تساقطات ضئيلة من الثلوج سرعان ما تلاشت بحلول فصل ربيع دافئ وجاف. وسجلت أماكن كثيرة درجات حرارة غير مسبوقة في أواخر يونيو. وقد عانى السمك من جرّاء كل ذلك. وفي ولاية أيداهو، اضطر المسؤولون، بفعل انخفاض منسوب المياه ودرجات الحرارة المرتفعة، لإغلاق "محمية سيلفر كريك"، وهي إحدى المناطق المشهورة عالميًا بصيد السلمون المرقط، وحيث كان الكاتب الأميركي "إرنست هيمنغواي" يمارس هواية الصيد.
أما في ولاية مونتانا، فقد فُرضت قيود الصيد المسائية التي تمنع الصيد من الساعة الثانية بعد الظهر حتى منتصف الليل على أفضل أنهار صيد السلمون المرقط في العالم، لتخفيف ما ينتج من ضغط على الأسماك بسبب اصطيادها وإطلاقها في أشد الساعات حرارة. وفي فلاتهيد، يتخذ أحد أخطر التهديدات التي يشكلها تغير المناخ على الأسماك طابعًا وراثيًا: إذ تتزاوج الأسماك المجلوبة من أماكن أخرى (أو الدخيلة) مع أسماك السلمون المرقط المحلية، وهي عملية تهجين ما فتئت تتحفّز بتدفقات المياه المتغيرة. وإذا تُركت هذه العملية بلا ضوابط، فمن الممكن أن تؤدي إلى القضاء على أسراب السلمون المرقط وتدمير أحد مصائد الأسماك الأميركية الأثيرة. عندما نتحدث عن أزمة المناخ، فغالبًا ما نركز على الكوارث الكبرى؛ كذوبان غرينلاند.. مثالًا لا حصرًا. ويُحجب النظر عمّا يطال حياتنا اليومية من تغيرات طفيفة؛ ومن ذلك احترار بحيرات المياه الباردة والأنهار والجداول في جميع أنحاء العالم. فمع ارتفاع درجة حرارة هذه المياه، ستواجه العديد من الأسماك مأزقًا مؤكدًا؛ ما يعني أن صيد الأسماك سيكون بدوره في مأزق حرج. والحال أن هذه التغيرات آخذة في التسارع منذ مدة. قد يبدو ذلك أمرًا تافهًا لبعضهم. لكن الصيد لم يكن قَط محض هواية لتزجية الوقت؛ بل هو بمنزلة مخيم صيفي بكل ما تحمله العبارة من دلالات. ويجد ملايين الأشخاص في الصيد وسيلة لفهم العالم الطبيعي بين راحتَيهم. وتراه عائلات عديدة فنًّا يُتناقل بين الأجيال كالإرث، وتقليدًا حكيمًا مشدود الوِثاق كشِدّة خيط الصيد المعقود على الصنارة. "الآن صرتُ أُدرك أن كثيرًا من هواة الصيد لا يَفعلون ذلك لأجل السمك فحسب"، يقول "أوتا بافيل" في مذكراته الحزينة والرائعة، بعنوان "هكذا اهتديتُ إلى معرفة السمك". تتعدد طرق صيد السمك. تصطاد هاتشيسن بالذبابة الصناعية، وهو أسلوب صيد يمكن القول إنه الأكثر تأنقًا والأكثر سخافة أيضا؛ إذ يحاول الصياد خداع الأسماك عن طريق رمي حشرة صناعية صغيرة ومُغرية في الماء -في المكان المناسب- باستخدام طرق رمي تتطلب سنوات ليُتقنها المرء وثانية واحدة ليأتي بعمل أخرق. ويجتذب هذا النوع من الصيد المهووسين، أو يُوجدهم؛ فهُو بحكم طبيعته، كما أوضح الكاتب "نورمان ماك لين"، يُذكّرنا بعيوبنا ولكنه يسمح لنا أحيانًا بالاقتراب من السمو. وعلى ضفة النهر في ذلك الصباح، قالت هاتشيسن لنا إنه لا داعي للقلق بشأن تلك الأسماك المهجنة. فقد كنا باتجاه المنبع عند "الفرع الأوسط" في مكان يُفترض ألا نرى أيًّا منها. رميت خيط الصيد في الماء. كانت السمكة الأولى التي أمسكت بها هجينة.
وكانت الثانية هجينة أيضًا.
وكذلك كانت الثالثة.
في أنحاء العالم، يصطاد عدد كبير من الناس السمك من أجل المتعة أكثر من كسب العيش.. ما لا يقل عن 200 مليون شخص في البلدان المتقدمة وحدها. ويَتَّسم الأميركيون بشغف كبير لصيد الأسماك، إذ إن شخصًا واحدًا تقريبًا من بين كل ستة أشخاص أمسك بقصبة صيد في عام 2021؛ وتوجه جلّهم إلى المياه العذبة ببحيرات البلد وأنهاره وجداوله. ويُسهم صيد الأسماك في المياه الداخلية لأغراض الترفيه في دعم اقتصادات مدن صغيرة بأكملها مثل "إنيس" بولاية مونتانا و"ماوبين" بولاية أوريغون، حيث يدرّ نحو 30 مليار دولار في الإنفاق المباشر وحده بالولايات المتحدة كل عام. وعلى الرغم من ذلك، انقرضت أسماك المياه العذبة في أنحاء العالم بوتيرة أسرع مرتين مما انقرضت بها فقريات أخرى خلال القرن العشرين. ففي أميركا الشمالية، تتهدد المخاطر ما يقرب من 40 بالمئة من أسماك المياه الداخلية، وفقًا لدراسة استقصائية أُجريت في عام 2008؛ (700 نوع، أي ما يناهز ضِعف العدد الذي كان قبل 20 عامًا). فما السبب؟ لقد سوّينا الأنهار وجعلناها تجري بشكل مستقيم مثل قنوات المياه، وقطعنا الأشجار في سفوح الجبال، وقمنا بتعبيد ضفاف الأنهار وشيّدنا عليها المنازل، ووجّهنا الطمي والتلوث إلى الجداول، وجلبنا أسماكًا من أماكن أخرى تنافس الأسماك المحلية.
والآن يأتي تغير المناخ ليوجِّه ضربة أخرى، كمن يوجه ركلة دائرية لملاكم أُشبع ضربًا. يؤثر تغير المناخ في العديد من أسماك المياه الداخلية تأثيرًا شديدًا، بطريقة مباشرة وغير مباشرة. فمع ارتفاع درجات حرارة الجو، تتزايد درجة حرارة الأنهار والجداول. وفي بعض الأحيان، تصبح المياه شديدة السخونة فلا تتحملها الأسماك، أو يجعلها الدفء عرضة للأمراض أو مسببات الأمراض. ويسجَّل في الولايات المتحدة وأماكن أخرى تراجعٌ في تساقط الثلوج الشتوية في الجبال، وهي الثلوج التي تغذي الأنهار والجداول خلال بقية العام، لتفسح المجال لتساقط الأمطار التي تنساب على الفور. وتتساقط الثلوج في وقت متأخر من فصل الشتاء وغالبًا ما تذوب في وقت مبكر من فصل الربيع؛ وفي الجزء الشمالي من جبال "روكي" -حيث تعيش هاتشيسن- حدثت ذروة ذوبان الثلوج مؤخرًا قبل أسابيع من الفترة المعتادة سابقًا. فقِلّة المياه في النهر تعني مساحة أقل لعيش الأسماك؛ وهو ما يحد من أعدادها. وتنتصب مشكلة أخرى في جميع أنحاء البلد، ولكن على نحو خاص بالشمال الشرقي والوسط الغربي، إذ إن الكثير من الأمطار باتت تتساقط حاليًا أثناء نزول الزخات القوية. فهذه الأمطار تجرف البيوض والأسماك الصغيرة. ويَشتد الضغط بصفة خاصة على ما يسمى أسماك الصيد الترفيهي التي تعتمد على المياه العذبة الباردة؛ وأشهرها أسماك الجاحظ والسلمون المرقط والسلمون والسمك الأبيض. فلو أخذنا سمك السلمون المرقط الفضي بظهره زيتوني اللون الذي تتخلله أنماط تبدو كأنها أحرف قديمة وجوانبه المكللة بنقاط، سنجد أنه كثيرًا ما يُقال عنه إنه أجمل الأسماك في الولايات المتحدة. ويلاحق الصيادون هذا النوع في أبرد وأصفى جداول المنطقة الشرقية والجزء الشمالي من الغرب الأوسط بهذا البلد حيث نطاقه الأصلي. لكن في ولاية ويسكونسن، من المتوقع أن تختفي أسماك السلمون المرقط الفضي في عام 2050 أو نحو ذلك من زُهاء 70 بالمئة من الـ 34 ألف كيلومتر من الأنهار والجداول حيث تعيش حاليًا. وفي جبال "الأبالاش" الجنوبية، سيتراجع سمك السلمون المرقط الفضي إلى مستويات أعلى من الجبال ليَلزم المياه الأبرد حتى يختفي من الجبال اختفاءً تامًّا. وبمرور الوقت، من الممكن أن تفقد ولاية فرجينيا هذا النوع الذي يُعد سَمكها الرسمي. وتُعد أسماك الجاحظ من أسماك الصيد الترفيهي الأكثر شعبية بولاية ويسكونسن؛ وفي أفق عام 2090، لن تعود قادرة على إعالة نفسها في مساحة تتراوح ما بين ثلث وثلاثة أرباع بحيرات هذه الولاية التي تؤويها حاليًا، بل إن حتى سلمون قوس قزح، وهو أحد أكثر أنواع الأسماك التي يعزَّز بها الرصيد السمكي على نطاق واسع، يمكن أن يشهد انحسارًا كبيرًا في مياهه الصالحة للاستخدام في الغرب الأوسط وفي الغرب.
ولا تزال هاتشيسن تتذكر اليوم الذي وضع فيه عم إحدى صديقاتها قصبة صيد الأسماك بالذبابة الصناعية في يدها عندما كانت فتاة، واصطادت أول سمكة سلمون مرقط في "الفرع الأوسط". وسرعان ما تعلمت هي وأختها صيد السمك بذبابة الصيد الصناعية. وفي عام 1992، صدر فيلم "النهر يجري من خلالها"، استنادًا إلى رواية "ماك لين" الكلاسيكية عن صيد السمك والعلاقات الأسرية في مونتانا. فاستبد بالبلد هوس الصيد بالذبابة الصناعية. وأصبحت الأختان من بين أولى دليلات الصيد في المنطقة.
وتمتلك هاتشيسن اليوم متجرًا لبيع لوازم الصيد بالذبابة الصناعية في مدينة كولومبيا فولز بولاية مونتانا، وهي المدينة الواقعة على ضفاف النهر حيث نشأت. وتكتب عن صيد الأسماك، مع التركيز على جهود الحِفظ. وتعمل هاتشيسن دليلة مدة تناهز الـ 120 يومًا في العام وتصيد الأسماك بطريقة احترافية في أنحاء العالم. لكنها تظل -كما أخبرتني- متطلعة دائمًا إلى العودة إلى الديار وصيد السلمون المرقط. وتقول هاتشيسن إن سمكة السلمون المرقط نوع مميز من الأسماك. "فهي تَسحب، وتقاتل، وتفر هاربة". وبالنظر إلى أعداد الصيادين الذين يعاينون حجم الضرر الذي أصاب أماكن صيدهم المفضلة، فقد يتوقع المرء أن يصدر عنهم احتجاج صارخ بشأن تغير المناخ. أجل.. صدرت احتجاجات من بعضهم، لكن مشاعر الاحتجاج لدى كثيرين تحركت تحركًا بطيئًا. وكانت هاتشيسن تولي الاهتمام لهذه المسألة منذ دراستها في الكلية. وبصفتها دليلةً شابة آنذاك، فقد شعرت بالإحباط بسبب ما كانت تراه من تغيرات طالت النهر وبسبب تقاعس السياسيين. وطلب إليها أشقاؤها أن تبدأ في إطلاع الأشخاص المؤثرين على هذه الأماكن والتحدث عن هذا الأمر. فأعارت لذلك أذنًا صاغية. "لن يقوم أشخاص آخرون بهذا الأمر. فينبغي أن نتولى نحن ذلك"، كما قالت لي. ذهبت هاتشيسن مرات عديدة إلى العاصمة واشنطن للضغط على "الكونغرس" و"البيت الأبيض" من أجل حركة "احموا شتاءنا"، التي تضم أكثر من 200 رياضي محترف وفنان وغيرهم ممن تأثر عملهم بتغير المناخ. وصارت تتحدث عمّا تعاينه من تغيرات على الأنهار.. وتأثير ذلك على مسقط رأسها. فقالت أمام لجنة من الكونغرس في عام 2019: "إنني أهتم للأشخاص الذين سيفقدون وظائفهم وسبل عيشهم وجوهر سعادتهم مع انهيار هذه المنظومة". وقبل عام من ذلك، كانت حرائق غابات مهولة قد اندلعت في "المنتزه الوطني الجليدي" والمنطقة المحيطة به، فاضطرت هاتشيسن للابتعاد عن النهر مدة تسعة أيام. "عندما نتوقف عن العمل خلال موسم الحرائق، ونحن في ذروة موسم الصيد بالذبابة الصناعية، لا أستطيع كسب ما يكفي لاقتناء سلع البقالة اللازمة لفصل الشتاء لعائلتي"، كما قالت لي. فالأعمال التجارية الرئيسة التي لا يزال يزدهر نشاطها في بلدتها خلال أوقات كهذه، على حد قولها، هي الأماكن التي تبيع الكحول.
مصب نهر الأمازون ليس مجرد نهاية لأقوى أنهار العالم وأكثرها عنفوانًا، بل هو أيضًا بداية لعالم مدهش يصنعه الماء.
سواء أَرأينا الدلافين الوردية أشباحًا تُغيّر أشكالها أم لعنةً تؤْذي الصيادين، تبقى هذه الكائنات مهيمنة على مشهد الأمازون ومصباته. ولكن مع تغير المشهد البيئي للمنطقة، بات مستقبل أكبر دلافين المياه...
يراقب عالِمان ضغوط الفيضانات في غابات الأمازون المنخفضة.. ويسابقان الزمن لحمايتها ضد الظروف البيئية الشديدة التي ما فتئت تتزايد على مر السنوات.