منذ عام 2016، قُتل 1297 من قادة المجتمع في كولومبيا بعد وقوفهم في وجه أصحاب مشروعات التعمير وعصابات المخدرات.
ضبط "لويس مانويل سالامانكا" توازنه لدى البوابة الخلفية لشاحنة صغيرة مغطاة متهالكة، حيث تشبث برفّ السقف إذ كانت الشاحنة تنحدر أسفل الطرق الخلفية المتعرجة لجبال الأنديز. كان الوقت فجرًا من يوم 22 مايو 2018، وقد بدأت تتحرك "نودو دي ألماغوير"، وهي تشكيلة خصبة من الجبال المقبَّبة في جنوب غرب كولومبيا تعرف بالإنجليزية باسم "النجد الكولومبي".
عندما تلاشى الضباب، لاحت لنا امرأةٌ تحلب بقرة بنية امتلأ ضرعها لبنًا في رقعة أرض جرداء. وشاهدنا حافلات بلونين أحمر وأبيض مكتظة بأطفال المدارس وهي تتنافس في المرور على طرق ضيقة مع عربات تجرها خيول وبغال. وأسفل منا بما يزيد على 200 متر، تدفق نهر ماغدالينا عبر وادٍ زمردي اللون شديد الانحدار تُغذّيه الشلالات المنهمرة من كل اتجاه. كنا متجهين نحو "كوينتشانا"، وهي قرية تؤوي زُهاء 90 عائلة متوارية في التلال الخضراء الضبابية لدى مقاطعة "هويلا" المعروفة بزراعة البن واستخراج النفط وبكونها موطنًا لمنابع العديد من الأنهار الكبرى. وكوينتشانا هي أيضا نقطة الانطلاق إلى مجتمع صغير يسمى "لا غايتانا" وموقع أثري لتُحف تعود إلى الحقبة ما قبل الكولومبية: تماثيل حجرية لآلهة عملاقة ومقابر تعود زمنيًا إلى القرن الأول وحتى الثامن للميلاد.
استُهدف -وما يزال- قادة السكان الأصليين والمعلمون والمزارعون وغيرهم، بعد استنكارهم الأضرار التي تلحق بأراضيهم وثقافتهم.
وقد أُعيد اكتشافها في عام 1942، لِتُسهم في تسكين هذه المنطقة على الخريطة. كرّس سالامانكا حياته المهنية لدراسة تاريخ المنطقة وصونه. فلقد كان هذا الرجل -البالغ من العمر حينَها 64 عامًا- أحد أشهر علماء الأنثروبولوجيا في كولومبيا. كان هادئ الحديث وانتقائيًا في كلماته، وله وجه مستدير وديع يبعث على الاطمئنان. ولقد جئت للقاء سالامانكا خلال لحظة انتقالية مشحونة تعيشها كولومبيا، البلد الذي كان قد عانى نصف قرن من الصراع المسلح العنيف. وكنت أتّبع مجرى نهر ماغدالينا -الممر المائي الحيوي الشهير الذي يمتد زُهاء 1500 كيلومتر عبر وسط هذه الدولة الأميركية الجنوبية- وأُمضي الوقت مع أشخاص يعملون لدعم سلام هش على طول ضفاف النهر. وكان منتصف عام 2018 فترة هدوء نسبي.. لكنها لم تدم. "من الأفضل أن نذهب قبل أن تُمطر"، قال لي سالامانكا مُحدِّقًا في السحب التي تخترق صدوع الوادي وهو يتمسك بالقضبان المعدنية الباردة للشاحنة عند كل اهتزاز لدى الرصيف. كانت هذه الشاحنة الصغيرة ذات النقل الجماعي ما تزال غاصة بالركاب عند بلوغ وجهتنا أخيرًا، فاضطررنا -أنا وسالامانكا- للتأرجح تارة بعد تارة. هنالك كرر على مسمَعَيه قولَه ذاك بهدوء: "من الأفضل أن نذهب قبل أن تُمطر".
ولعل أشهر القطع الأثرية في النّجد الكولومبي هي تلك التماثيل الصخرية المدهشة في منتزه مُدرَج على قائمة التراث العالمي لمنظمة "اليونسكو"، تتخلله مروج منسقَّة العشب ومسارات من الحصى في "سان أوغستين" المجاورة، عاصمة المقاطعة. ويؤوي المنتزه ألواحًا حجرية كبيرة منتصبة نُحِتَت في هيآت تشبه الإنسان لسحالي وقرود تطل على مناظر خلابة للتلال المحيطة. يشبه التنزه في مسارات سان أوغستين المرتَّبَة زيارة حديقة حيوانات من حجارة. وأخبرني سالامانكا أن زيارة لا غايتانا، على النقيض من ذلك، هي حضورٌ لدى آثار الحقبة ما قبل الكولومبية في البرية. فموقعها مخفي بعيدًا عند خاصرة جبل، حيث الممر محجوب بنباتات مجتاحة ظلت تنمو منذ عقود، حين كانت كوينتشانا محظورة على الزوار، بوصفها بوابة تُفضي إلى ممر لتهريب المخدرات تسيطر عليه مليشيات مسلحة.
تُعد كولومبيا واحدة من أكثر دول العالم تنوعًا حيويًا، وهي أيضًا موطن للآثار المقدسة التي تشير إلى التأثير الدائم لثقافات ما قبل الحقبة الكولومبية.
على مَرّ أكثر من نصف قرن، كانت "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" ذات التوجه الماركسي، والمعروفة اختصارًا باسم "فارك" (FARC)، في حالة حرب ضد الدولة الكولومبية. وانضمت إلى ذلك الصراع مليشيات يسارية أخرى وجماعات يمينية شبه عسكرية وعصابات المخدرات والجيش الأميركي، ممّا جعل مساحات شاسعة من الأدغال وغيرها من المناطق النائية غير آمنة للزوار والسكان المحليين على حد سواء. قُتل ما يقرب من 270 ألف شخص في النزاع، واختفى 81 ألفًا، ونزح 7.4 مليون من بيوتهم. وكان من المفترض أن يغير اتفاقُ سلام موقَّع عام 2016 كل شيء. فقد وافق جنود "فارك" على إلقاء أسلحتهم، وتعهدت الحكومة بالترحيب بهم مرة أخرى في المجتمع. ووعدت الدولة، على نحو حاسم، بإنشاء أو تحسين الخدمات العامة في المناطق الريفية التي كانت تسيطر عليها المليشيات. فكان هناك أمل في إعادة فتح مناطق النزاع السابقة في وجه الزوار، لخلق مزيد من الفرص للأهالي الذين يعيشون هناك. لكن إغراء المزايا التجارية للموارد غير المستغَلة كان له ثمن باهظ. فقد انتقل إلى هنا عُمال مناجم الذهب ومُربُّو الماشية وتجار المخدرات، وأصبح أهالي المنطقة الذين يجرؤون على الدفاع عن أرضهم وثقافتهم ضد التنمية العمرانية عرضةً للخطر. فحسب "معهد دراسات التنمية والسلام"، وهو منظمة غير ربحية مقرها في بوغوتا تُعرف باسم "إنديباز"، قُتل 1297 فردًا من "القادة الاجتماعيين" الكولومبيين -العديد منهم من السكان الأصليين والكولومبيين من أصل إفريقي المدافعين عن الأرض والناشطين البيئيين- منذ اتفاق السلام عام 2016. وثَبَتَ تورطُ الجماعات المسلحة المتنافسة في السيطرة على الأراضي الغنية بالموارد، لكن لم يُسفِر سوى أقل من 10 بالمئة من التحقيقات عن أحكام قضائية ضدهم. وتعليقًا على تلك الجرائم، قال لي "ليوناردو غونزاليس"، من منظمة "إنديباز": "يجري كل ذلك على نحو منهجي: أسلوب قتل هؤلاء القادة؛ ونوعية القادة المستهدفين؛ والأماكن التي تُرتَكَب فيها هذه الجرائم". أجل، فالأمر منهجي ومتكرر؛ ولا أدَلَّ على ذلك من أن كولومبيا في عام 2020 سجّلت أكبر عدد من القتلى في صفوف الناشطين البيئيين على مستوى العالم، وذلك للمرة الثانية تواليًا، حسب تقرير منظمة "غلوبال ويتنس" المعنية بالتحقيقات والناشطة في مجال البيئة وحقوق الإنسان، ومقرها في لندن. وبعد مرور عام تقريبًا على اليوم التالي لمقابلتي سالامانكا، أصبح عالم الأنثروبولوجيا أحدَ هؤلاء الضحايا؛ ففي ليلة 11 مايو 2019، قُتل رميًا بالرصاص وتُرك لدى باب منزله.
تشير الأبحاث إلى أن الدوبامين هو السبب الحقيقي الذي يجعلنا نفضل مواجهة تحديات كبيرة كسباقات الماراثون أو حل المشاكل الصعبة في بيئة العمل.
مصب نهر الأمازون ليس مجرد نهاية لأقوى أنهار العالم وأكثرها عنفوانًا، بل هو أيضًا بداية لعالم مدهش يصنعه الماء.
سواء أَرأينا الدلافين الوردية أشباحًا تُغيّر أشكالها أم لعنةً تؤْذي الصيادين، تبقى هذه الكائنات مهيمنة على مشهد الأمازون ومصباته. ولكن مع تغير المشهد البيئي للمنطقة، بات مستقبل أكبر دلافين المياه...