الإمارات تجمع العالم، على مرّ ستة شهور متواصلة، في أكبر حدث بشري.. تحت مظلة "إكسبو 2020 دبي".
من قلب حديقة عامرة بأشجار النخيل وفواكه الصيف، خرج رجل ثمانيني بلباس بحري تراثي يسمى "المقصر"، وهو يخطو باتجاه الشاطئ. يعرف وجهته جيدًا وقد وطَّنَ فيها عمودًا خشبيًا صغيرًا غرسه وسط حشائش بحرية متناثرة فوق رمال ذلك الشاطئ.
المسافة قصيرة من بيته المطل على البحر إلى مكانه الشهير ذاك، إلا أنه ظل يتوقف برهة من الزمن؛ فركبتاه ما عادتا تمنحاه طاقة الشباب، على أنه لم يفقد بالكامل حماسَ الشباب وعنفوانه. وقفت أتأمل المشهد من بعيد.. غير بعيد عن مسار للمشي والركض يحج إليه أناس بسحنات متباينة الأشكال والألوان، أتوا من كل فجّ عميق لا يعرف بعضهم قصص بعض ولا ثقافاتهم ولا عاداتهم؛ لكنهم وجدوا ههنا فسحة مثلى لممارسة رياضة الصباح وقد تآلفوا وانتظموا في مجموعة واحدة. أما على شاطئ البحر فثمة مجموعات أخرى اقتنصت لنفسها لحظات تتأمل فيها أجواء صبيحةٍ خيَّم عليها ضباب خفيف لعله كان يُخفي تباشير يوم صيفي صحو.
كانت عقارب الساعة تدنو من السادسة صباحًا وقد بدأت أشعة الشمس تتسلل على استحياء من خلف الأبراج الشاهقة المطلة من الجهة الشرقية لمكاني على شاطئ مدينة جميرا في إمارة دبي بالإمارات العربية المتحدة.
اشتهرت جميرا منذ القِدم بوصفها محطة تجارية مهمة، وذلك بفضل موقعها الجغرافي المطل على الخليج العربي؛ وقد أدّت دورًا كبيرًا في ربط الطرق التجارية الواصلة بين إمارات "الساحل المتصالح" (دولة الإمارات العربية المتحدة، اليوم) وعُمان وشبه الجزيرة العربية ومناطق غرب الخليج العربي. فضلًا عن ذلك، فإنها تشكل جسرًا مباشرًا يصلها بمدن التجارة في شبه القارة الهندية وشرق آسيا. تحتضن المدينة "موقع جميرا الأثري" الذي يُعد من أهم المواقع الأثرية المكتشفة في دولة الإمارات وأحد الشواهد التاريخية التي تدل على حقبة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وتحديدًا العصر العباسي. يضم الموقع الأثري ثمانية مبانٍ، خمسة منها سكنية، بالإضافة إلى الخان والمسجد والسوق.
"تفضل.. اقرب حياك يا ولدي"
بتلك العبارة الترحيبية المحلية، استقبلني "سالم المهيري" وعينه لا تفارق أسلاكه الرقيقة التي يبرع في تشكيلها بأنامله في شكل "قرقور"، إحدى أدوات الصيد التقليدية الشائعة بمنطقة الخليج العربي. لم يسبق أن التقيت المهيري من قبل، سوى متابعتي مقاطع الفيديو التي ينشرها له رواد مواقع التواصل الاجتماعي وهو ينثر روائع الكَلِم والحِكَم والأشعار في المديح والغزل وأحوال الناس. اتخذت مكاني بالقرب منه وبدأ الحديث سريعًا منسابًا مع رجل خَبر البحر منذ الثامنة من عمره، ومخر عباب الخليج في رحلات غوص لم يعد يذكر عددها، لكنه لم ينس قصصها وذكرياتها بكل أفراحها وأتراحها. لم تكن تلك الرحلات الساعية وراء كسب اللؤلؤ سهلة المنال، بل غالبًا ما كانت تصطدم بأهوال وصعاب أفضت في بعض الأحيان إلى هلاك هذا الغواص أو ذاك. لكن أكبر كارثة حلت بنشاط صيد اللؤلؤ هي ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني خلال أواخر عشرينيات القرن الماضي؛ ما أدى إلى كساد حرفة الغوص في عموم منطقة الخليج العربي.
هل تعلم بالحدث المقبل في دبي؟
هكذا سألته. اعتدل في جلسته ثم نظر إليّ نظرة العارف المُلمّ قبل أن يجيب: "دبي هي إكسبو منذ أن عرفتها في صباي، هي درة مضيئة تتجدد في كل يوم ولا منافس لها سوى نفسها. البشر هنا بمختلف ألوانهم وأجناسهم يعيشون على هذه الأرض المباركة". أمسك قليلًا عن الكلام ثم أطرق برأسه قائلًا: "حياتنا لم تكن يسيرة في السابق، إلا أننا تشاركنا حلوها ومرها مع كل من سكن مدينتا. كان بعضنا عونًا وسندًا لبعض، وقد عملنا في مهن شتى سعيًا وراء كسب قوتنا؛ لكن ظل البحر وخيراته مورد رزقنا الدائم".
لم ينتسب المهيري إلى أي مدرسة نظامية، إلا أنه تلقن النزر اليسير من أساسيات الكتابة لدى "الكتاتيب"، إحدى المراكز التعليمية التقليدية التي كانت شائعة في مختلف الإمارات، حيث يلقَّن الطفل مبادئ الحساب وما تيسّر من آيات القرآن الكريم، ويحفظ بعضًا من الأشعار والقصائد الفصيحة.
يقول المهيري: "كنا نصطاد ونجمع غلّتنا ثم نتجه بها إلى خور دبي، حيث السوق الكبير والمشترون الكثر؛ ففي هذا المكان حتما ستجد مبتغاك". لم تكن المسافة من خور دبي إلى جميرا قصيرة ولا الطرق ممهدة، لذا كان بعض السكان يقتصدون في رحلتهم تلك إذ يذهبون لبيع سلعهم وشراء حاجاتهم الأساسية التي لا تتوافر سوى في أسواق الخور.
في كل مرة أزور مدينة دبي، أتفكر في مشاهدها البهية وأبراجها الباسقة الحديثة التي ترسّخت صورتها في الأذهان حتى صارت السمة الأبرز للمكان. واليوم إذ تفتح هذه المدينة أذرعها لاستقبال العالم في "إكسبو 2020 دبي"، ما زلت أتساءل عن أي المناطق فيها كان أسبق إلى الحداثة؛ على أن لسان حالي ظل يجيبني أنه..
خور دبي
البدايات الأولى
لدي ارتباط وجداني بهذا المكان التاريخي في دبي. ففي كل زيارة للمدينة أسرق قليلًا من الوقت فأقصد إلى تلك البقعة الجغرافية الضارب تاريخها في القدم لأتجول على ضفاف خورها وأستكشف سكيكها (الممرات الضيقة) وأزقتها القديمة سواء في "ديرة" أو "بَر دبي". ههنا تفوح الأماكن بعبق الأصالة والعراقة المتجسدتين في السوق الكبير وسوق الذهب والمحلات التجارية المتنوعة، وبخاصة تلك التي تعرض التوابل والعطور وسط الممرات وعلى طول الطريق.
"من هنا كانت تبحر السفن إلى وجهاتها.. من هنا بدأ التّجار رحلتهم وشقوا طريقهم في مسيرة المال والأعمال"، يقول "محمد سلطان العويس"، مؤلف كتاب "خور دبي في ذاكرتي". إذ يبسط العويس بإيضاح مستفيض تفاصيل دقيقة ومواقف يومية بشخوصها الكثيرة التي عاشت في الخور ومنطقة ديرة تحديدًا، حيث استقرت عائلته قادمةً من إمارة الشارقة.
لم يكن العويس، وهو سفير سابق لدى ست دول أمضى 40 عامًا من العمل الرسمي في وزارة الخارجية الإماراتية، يدرك أهمية تلك التفاصيل، وإن بقيت ذاكرته حافلة بالشخوص والأحداث التي أدركها في صغره وشبابه. إلا أن رحلةً برفقة أحد أصدقائه من دبي إلى صنعاء أنعشت ذاكرته بأيام خلت وأقوام رحلت، حينما أشعلت فؤاده بالحنين إلى سنين الخور الخوالي. فهناك في الخور كان دائمًا ما يزور محل عمه لبيع زعانف القرش المجففة ذات الرائحة المميزة. كتب العويس مُعلّقًا على تلك الرحلة: "فور صعودي الطائرة، تلقفتني رائحة نفّاذة لا يمكن أن أخطئها أو أن يلتبس عليّ مصدرها، فقلت لصديقي أحمد مباشرة: هذه الرائحة ليست بغريبة، أعرفها حق المعرفة وأستطيع أن أميزها بدقة، لكنني لم أتوقع قَط أن تتسلل إلى الطائرة أو أن أصادفها في الأجواء، فهذا مكان غريب عليها؛ اعتدتها وعرفتها في مكان آخر.. وكذلك في زمن آخر". يمتلك العويس حاسة شم قوية، وهي غالبًا ما تنعم عليه بتذكر المواقف والشواهد التاريخية التي مر بها في حياته؛ لذا كان لها الفضل في التوثيق لذكرياته في خور دبي في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
سألته: ما الذي أسهم في بناء دبي الحديثة، وما العوامل القوية التي أسهمت في ريادتها؟
لم يفكر العويس كثيرًا أو يقلّب الأفكار في رأسه، بل كانت إجابته واضحة صريحة: "في بلدنا، عمومًا، الحقوق محفوظة وأمانات الناس مصانة. لكن العامل الأكبر في جذب مختلف الأقوام إلى دبي هو التشجيع المستمر والدعم الكبير اللذين حظي بهما التجار من لدن المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. فقد كان خير سند لهم في تحدياتهم وتذليل العقبات أمامهم؛ وكل ذلك ليمنح الفرصة للجميع وليعملوا في مكان واحد تحت ظل قانون يتساوى الجميع أمامه".
فلقد كان الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم إمارة دبي منذ عام 1958 حتى وفاته عام 1990، يتمتع بفِكر اقتصادي عميق بعيد الأفق؛ إذ عَمِل على جذب كبار التجار ورواد الأعمال ودعاهم لممارسة نشاطهم. يقول العويس: "استطاع الشيخ راشد بن سعيد أن يحول مدينته -التي تُوصف بأنها بلا موارد كبيرة- إلى مدينة عظيمة أنتجت مواردها بنفسها. تمثل دبي نموذجًا مثاليًا وملهمًا فريدًا في تكوينه يصعب تقليده. فهنا تجسّدت إرادة الحاكم ورؤيته بعيدة الأفق في التنمية المستدامة وتحسين مستوى المعيشة؛ حتى بلغت دبي هذه المكانة العالمية".
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عادت الشركات العاملة في حقول البترول لدى منطقة الخليج العربي إلى مزاولة أعمالها. حينها لم تكن الإمارات تمتلك أي ميناء كبير بإمكانه استيعاب حركة الاستيراد والتصدير المتسارعة؛ إلا أن الشيخ راشد بن سعيد أيقن أن أحلامه التي يرسمها في مخيلته ستصبح واقعًا في القريب. إذ كان مهمومًا بإحداث طفرة عمرانية حقيقية وتحقيق نمو سريع في البنية التحتية لدبي، على أن المنطقة من حوله كانت ما تزال تشق طريقها أيضًا. فصحيحٌ أن عجلة التنمية كانت تدور بالمنطقة عمومًا، لكن دورانها في دبي كان مختلفًا تمامًا؛ فالدقة والإنجاز السريع والفرادة في المشروعات كانت معايير لا يمكن تجاوزهما عند حاكم دبي.
كان مجلس الشيخ راشد بن سعيد، المعروف باسم "مجلس الحاكم" والواقع عند مدخل خور دبي، حلقة الوصل الثابتة بين الحاكم ورعيته؛ حيث كانوا يفدون إليه فيستقبلهم ويجلس وسطهم ليعرضوا عليه أمورهم ويطلبون حاجاتهم. وكان يصغي إليهم ويبحث في شؤونهم ويتدبرها ولا يَرُدُّهم إلا وقد نالوا مبتغاهم. وكان الشيخ راشد بن سعيد يجول في طرقات المدينة ويقف على مشروعاتها التنموية، قبل أن يعود إلى مجلسه ويقف في شرفته التي تتيح له رؤية تنقل الناس بين ضفتي الخور على متن العبّارات الصغيرة. ومن بعيد، يَرقُب السفن التجارية الضخمة وهي ترسو قبيل مدخل الخور على بعد نحو كيلومترين عن الساحل نظرًا لصعوبة دخولها إلا في أوقات المد. أما عندما يحدث الجزر فإن المياه تنحسر فتغدو الملاحة صعبة في الخور بل مستحيلة في بعض الأحيان. شكَّل مشروع تطوير الخور وتعميق قاعه أحد المشروعات الفارقة في دبي؛ إذ رأى الشيخ راشد بن سعيد أن هذا الخور سيكون الشريان التجاري الأهم للمدينة، وهو أمر يتيح لها أن تصل الشرق بالغرب، وأن تكون الحلقة التي تغذي حركة التجارة العالمية. فكان أن تم التطوير على مراحل نظرًا للكلفة الباهظة التي تطلبها المشروع التنموي الضخم. وأثمر ذلك الإنجاز تعزيزَ مكانة دبي ضمن خريطة "موانئ إعادة التصدير" التي اشتهرت بها منذ خمسينيات القرن الماضي، لمّا كانت تستقبل البضائع الأوروبية والآسيوية المحملة على متن السفن الضخمة العابرة للمحيطات.
"تمثل دبي نموذجًا مُلهمًا لكن يصعب تقليده. فهنا تجسّدت وما تزال إرادة الحاكم ورؤيته بعيدة الأفق في التنمية المستدامة وتحسين مستوى المعيشة؛ حتى بلغت دبي هذه المكانة العالمية". - محمد سلطان العويس
دبي الجنوب
إكسبو 2020.. نافذة للمستقبل
"حينما باشرت عملي في 'مجمع محمد بن راشد لتواصل العقول' عام 2015، كنت في كل يوم أنظر من شرفة مفتوحة على موقع إنشاءات 'إكسبو 2020 دبي' وأشاهد مساحات صفراء قاحلة تتخللها أشجار الغاف ونباتات صحراوية، وآلاف مؤلفة من الأعمدة الحديدية وأعمال الخرسانة. أشرد بذهني وأنا أتابع المشهد أمامي ولا يشتت انتباهي سوى هدير الشاحنات وأصوات العمال من بعيد"، تقول "شهد الزرعوني"، وهي ترافقني لنعبر بوابة "جناح الاستدامة". تشغل الزرعوني منصب مدير إدارة العلاقات الحكومية المحلية، وتؤدي مَهمتها بحماس بالغ في التواصل مع الجهات المعنية وإفادة وسائل الإعلام المحلية بكافة الاستعدادات والمستجدات حول "إكسبو 2020 دبي".
ذكّرني حديثُها بموقف مضى عليه نحو عقد من الزمن. إذ كنت في منطقة "الخوانيج"، القريبة من هذا الموقع وإحدى المناطق الزراعية الواقعة على أطراف دبي. حينها كلفني والدي بالعودة إلى أبوظبي وحدي بالسيارة، وكانت تلك المَهمة مختلفة بعض الشيء؛ إذ لم تكن لدي الدراية الكاملة بالطرق الخارجية آنذاك، ولم أعهد حينها المسارات والمسالك المؤدية إلى وجهتي من تلك المنطقة. سلكتُ الطريق الرئيسة المعروفة باسم "شارع محمد بن زايد" (شارع الإمارات آنذاك) المؤدية إلى أبوظبي؛ وبعد مرور أزيد من نصف ساعة، لم أجد نفسي سوى في طريق مزدحمة بالشاحنات الضخمة والرمال على جوانبها. حينها عرفت أني ضللت الطريق. كان عليّ الاستماع جيدًا إلى تعليمات والدي حين أرشدني لضمان الوصول إلى الطريق المقصودة. اتصلت به على الفور -إذ لم يكن لتطبيق الخرائط أي دور آنذاك كما الآن- كي يساعدني بحكم معرفته الدقيقة بالطريق. لم تغب تلك الرحلة عن ذهني؛ فقد شعرت بوحشة المكان الصحراوي ذاك، حيث تهيمن الشاحنات الضخمة على المركبات الخفيفة القليلة.
أتذكر جيدًا تعليق والدي آنذاك: "لا عليك، احفظ الطريق من الآن، فربما ستأتي كثيرًا إلى هذا المكان؛ ومن يدري.. لعلها تصير مدينة جديدة في بضع سنين!".
زرت موقع "إكسبو 2020 دبي" أول مرة في صيف عام 2019، حين كانت مبانيه شبه مكتملة وقد بدت ملامحها تتضح من قريب. ثم زرته ثانيةً في مطلع صيف العام الحالي إذ انتصب جُل أجنحة الدول المشاركة والأجنحة الرئيسة شامخًا يؤكد على جاهزية الموقع لاستقبال الزوار من كل حدب وصوب. ويمتد موقع "إكسبو 2020 دبي" على مساحة إجمالية تبلغ 4.38 كيلومتر مربع، وسيعمل على تقديم الحلول الواقعية في مجال الاستدامة وصون كوكبنا وموارده.
دولة الإمارات مركز رئيس للفعاليات العالمية الكبرى التي تستحوذ على اهتمام العالم.. ثقة المجتمع الدولي في قدراتها التنظيمية، وحالة الاستقرار بكل أنواعه الأمنية، والاقتصادية، والسياسية أسهمت في فوز دبي باستضافة إكسبو 2020. -محمد خلفان الصوافي
في يناير الماضي، قامت إدارة "إكسبو 2020 دبي" بافتتاح "جناح الاستدامة" ودعت الجمهور لخوض تجربة شائقة قبيل موعد الافتتاح الرسمي. "استقبلنا أكثر من 100 ألف زائر في تلك الفترة التجريبية، وقد كانت فرصة كبيرة لتشويق الجمهور وتعريفه أكثر إلى الفعاليات المقبلة، وكيف سيخلق هذا المحفل الدولي أجواء ممتعة قلما تتوفر في مكان آخر"، تقول الزرعوني وهي تواصل حديثها الشائق حول هذا الحدث ودوراته السابقة منذ انطلاقته أول مرة في لندن عام 1851 بغرض عرض ابتكارات الثورة الصناعية آنذاك تحت مسمى "المعرض العظيم".
عندما بدأت حكومة دبي تفكر في تنظيم حدث عالمي تجتذب فيه سكان المعمورة من كل جهاتها، تمت مناقشة العديد من المشروعات؛ إلا أن رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، كانت سبّاقة وفريدة على مستوى المنطقة العربية. إذ شكل فريقًا لوضع الأجندة الدولية التي بإمكانها أن تجمع العالم في بقعة واحدة وتوحدهم على قلب رجل واحد؛ فكانت فكرته أن تستضيف الإمارة حدثًا إنسانيًا لا يمكن أن يتكرر كل عام، وأن يُنقَش في ذاكرة الناس ويدخل سِجلّ الإرث الإنساني.يقول "محمد خلفان الصوافي"، كاتب متخصص في الشؤون السياسية: "أعتقد أن المسألة تراكمية، إذ إن دولة الإمارات مركزٌ رئيس للفعاليات العالمية الكبرى التي تستحوذ على اهتمام العالم، ولديها شراكات مثمرة مع دول العالم قاطبة". أما عن الأسباب التي أسهمت بفوز دبي في استضافة "إكسبو 2020 دبي"، فإن الصوافي يشير إلى "ثقة المجتمع الدولي في قدرات دولة الإمارات التنظيمية، وحالة الاستقرار بكل أنواعه، الأمنية والاقتصادية والسياسية. فضلًا عن إدراك دول العالم محورية الإمارات في منطقة الشرق الأوسط". كل هذه العوامل أعطت دبي أحقية الاستضافة بعد فوزها في عام 2012 بواقع 116 صوتًا من أصوات الدول الـ 165 الأعضاء لدى "المكتب الدولي للمعارض". بعدها، أعلنت 191 دولة مشاركتها الرسمية في هذا التجمع الدولي الأكبر من نوعه.
"طالع هذه القبة العملاقة.. هذا القلب النابض"، تقول الزرعوني ناظرةً باتجاه قبة ضخمة يبلغ ارتفاعها 65 مترًا وتتميز بحلقات ذهبية تغطي "ساحة الوصل"، التي تُعد نقطة الالتقاء بين أجنحة إكسبو الرئيسة: الاستدامة، والتنقل، والفرص. تقول الزرعوني: "تشير مفردة 'الوصل' إلى الاسم القديم لدبي؛ وهذه هي الغاية التي يعمل 'إكسبو 2020 دبي' على تحقيقها عبر شعاره: 'تواصل العقول وصُنع المستقبل'". صُممت القبة وفق الشعار الرسمي لـ "إكسبو 2020 دبي" الذي استُلهم من قطعة أثرية عُثر عليها في موقع "ساروق الحديد" الأثري.
ففي عام 2002، كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يحلق بمروحيته فوق منطقة صحراوية في جنوب دبي، وقد لاحظ أن هناك اختلافًا مثيرًا في هيأة الكثبان الرملية للمنطقة. حينها كلف فريقًا من الجيولوجيين وعلماء الآثار بدراسة المنطقة وتقديم تفسير علمي لذلك الاختلاف. وقد وجد هؤلاء العلماء أدلة مباشرة -منها نقوش ومشغولات ذهبية- على وجود نشاط بشري في الموقع يعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة. وكانت المنطقة قد بلغت أوجها في العصر الحديدي، حين شكلت محطة وصل بين الحضارات التي نشأت في منطقة الخليج العربي.
أخذتني الزرعوني إلى "مجمع محمد بن راشد لتواصل العقول"، حيث يشتغل فريق عمل "إكسبو 2020 دبي" ويدير مَهمة صناعة هذا الحدث. الحركة متسارعة في المكان، وأصوات المتحاورين في كل زاوية. لوهلة، تشعر بأنك في قلب خلية نحل نشطة لا تكل ولا تمل. سألتها عن سرّ هذا النشاط الدؤوب وكيف تستطيع مجاراته. أجابت: "العلاقة بين عملي هنا وهوايتي المفضلة، الفروسية، هي السرعة والرغبة في بلوغ الهدف بأقصى وقت ممكن وبإنجاز عظيم لا يتحقق لدى الجميع".
أعود الآن إلى شاطئ جميرا، حيث تركت سالم المهيري يشتغل في مهنته وقد بلغت الشمس كبد السماء. جلست أنظر بهدوء إلى مدى الدقة في صنعته التي دأب عليها منذ عقود، حتى قطع عليّ لحظة الشرود تلك؛ فقال: "إن أبناء جيلي لم يتعلموا في المدارس الحديثة ولا الجامعات؛ لكن ظلت لدينا دائمًا أفكار تصنع الحاضر والمستقبل معًا. وقد وهبنا الله قيادة رشيدة تمتلك من الحكمة والأفكار النيّرة ما يجعل من دولة الإمارات خيرَ موطن للاجتهاد والتميز.. والإنجازات".
مصب نهر الأمازون ليس مجرد نهاية لأقوى أنهار العالم وأكثرها عنفوانًا، بل هو أيضًا بداية لعالم مدهش يصنعه الماء.
سواء أَرأينا الدلافين الوردية أشباحًا تُغيّر أشكالها أم لعنةً تؤْذي الصيادين، تبقى هذه الكائنات مهيمنة على مشهد الأمازون ومصباته. ولكن مع تغير المشهد البيئي للمنطقة، بات مستقبل أكبر دلافين المياه...
يراقب عالِمان ضغوط الفيضانات في غابات الأمازون المنخفضة.. ويسابقان الزمن لحمايتها ضد الظروف البيئية الشديدة التي ما فتئت تتزايد على مر السنوات.