انطلق عالِمان لتعقب أسماك القرش البيضاء الكبيرة. لكن بعد أن انقلب الوضع رأسًا على عقب، تحولت لقطة أحدهما المذهلة إلى مصدر إلهام لحالات من التزييف الرقمي؛ لكنها أوجدت حالة من الوعي الحقيقي.
في بعض الأحيان، تأتي أفضل الصور من خارج ما خطّطنا له مُسبقًا. ففي عام 2003، كنت أدرس -بصفتي عالمَ أحياء بحرية- غابات عشب البحر، لنيل درجة الدكتوراه؛ لكني كنت في حقيقة الأمر أمضي بلا هوادة إلى أن أصيرَ مصورًا فوتوغرافيًا.
إذ كنت قد أصبحت مقتنعًا أن بإمكاني إحداث أثر أكبر في جهود صون الطبيعة من خلال الصور أكثر من الأبحاث. لذلك أحجمت عن مراجعة فصول أطروحتي الجامعية، وبدأت أُمضي جل وقتي في التقاط الصور. ومع مرور الوقت، زاد عدد الصور التي كنت ألتقطها لأسماك القرش الأبيض الكبير (Carcharodon carcharias)، وكان ذلك بداية هوس كانت تذكيه صداقتي مع عالم الأحياء "مايكل شول"، من "مؤسسة القرش الأبيض". كانت هذه المخلوقات تتميز بالضخامة والجرأة والجاذبية؛ وكانت أيضًا بحاجة ماسة إلى تغيير الصورة التي رسخت في أذهان كثير من الناس عنها.
ففي يوم صيفي، أخطرني مايكل بوجود عدد كبير ومُحيِّر من أسماك القرش بالقرب من الطرف الجنوبي لجنوب إفريقيا؛ إذ احتشد ما يقرب من اثني عشر قرشًا أبيض كبيرًا على امتداد 1.5 كيلومتر من الشاطئ وكانت تجوب المياه التي يقل عمقها عن مترين. كانت القروش تتربص خلف الأمواج المتكسرة، على مرمى حجر من الشاطئ. وسرعان ما رسمتُ خطة في ذهني وحزمت مُعدّاتي للالتحاق بمايكل هناك.
ولمعرفة ما كانت تفعله أسماك القرش، فكرنا أولًا في مراقبتها من قارب أبحاث مايكل. لكن تَبيَّنَت لنا صعوبة ذلك لأن ردة فعل القروش كانت قوية -وفي اتجاهات متعاكسة على نحو يثير الاستغراب- حيال الضوضاء الصادرة عن القارب. حاول بعضها عض المحركات، فيما فرت أخرى عند سماع صوتها.
لم تكن لدينا ميزانية للاستطلاع الجوي، ولم تكن طائرات التصوير المسيَّرة (الدرونات) الصغيرة قد اختُرعت بعد. بدا أن جهود بحثنا قد أُحبطت، إلى أن اقترحت وسيلة أقل تعقيدًا وأقل كلفة في تعقبها، ألا وهي قارب كاياك بحري.
ولَمّا كانت تلك فكرتي الألمعية، كان علي أن أكون أول من يَمضي قُدمًا. فبعد تركيب جهاز (جي. بي. إس.) على قارب الكاياك، حشرتُ جسمي في المقعد وبدأت أجدّف. وفي غضون دقائق معدودة، وجدت نفسي بين أسماك القرش. كانت تلك النزهة الأولى مرهقة للأعصاب: لك أن تتخيل أن ما يفصلك عن أحد مفترسات القمة على المحيط هو أقل من ثلاثة سنتيمترات من البلاستيك.. وأن هذا البلاستيك أصفر فاقع، وهو لون يجده بعض أسماك القرش جذابًا للغاية. ولحسن حظي، لم تُبدِ القروش أي سلوك عدواني تجاه مركبتي القريبة من سطح الماء. وتمكنت من متابعتها من مسافة قريبة ومراقبة سلوكها الطبيعي.
هنالك اشتعلت غريزة المصور في دواخلي، وراودَت خيالي صورةٌ رغبتُ بالتقاطها: قرش يتتبعه باحث في قارب كاياك. لكن تَبَينَ أن التقاط الصورة أمرٌ معقد في الواقع. فقد كان عدد كبير من القروش البيضاء الكبيرة يحيط بقاربي؛ لكن كان من شأن أخف ريح تُموِّجُ سطحَ المحيط أن تُحول طيفَ القرش الناعم إلى إحدى لوحات التجريد التكعيبي. عندها اضطررتُ لانتظار ظروف الهدوء المواتية.
وبعد أسابيع قليلة، سنحت الظروف وكنت على أتم استعداد. كنتُ مشدودًا إلى الجسر العلوي لقارب مايكل، فشرعتُ في التقاط صور لباحثين يتتبعون أسماك القرش؛ صور اعتقدتُ أنها جميلة ولكنها عادية. لم يتبق لي سوى بضع إطارات على لفة فيلم، عندما اقتربت سمكة قرش جريئة من مؤخرة قارب الكاياك وصعدت في عمود الماء. وما إن شقت زعنفتُها الظهرية سطحَ الماء، حتى نظر العالِم الذي في الزورق إلى الوراء. فبدلًا من أن يتتبع العالِمُ سمكةَ القرش، كانت هي التي تتتبع العالِمَ. فما كان مني إلا أن كبست على زر المصراع.
لقيت الصورة صدى لدى الناس بطريقة لم أتوقعها من قبل. فقد تلقيت 100 ألف زيارة لموقعي على الإنترنت في الساعات الأربعة والعشرين الأولى (في عام 2003، أي قبل فورة وسائل التواصل الاجتماعي، كان يُنظر إلى هذا الأمر على أنه انتشار سريع).
ثم اتخذت الأمور منحى غير متوقع: إذ شك عدد متزايد من الناس في ضلوعي في تزييف الصورة. وسرعان ما تناسلت نظريات المؤامرة على الإنترنت؛ إذ قام معلقون بتحليل كل شيء، بدءًا من زاوية الظلال وحتى التموجات التي أحدثها القرش. وبدأتُ أحضر الشريحة الأصلية معي إلى المقابلات الإعلامية بوصفها دليلًا على صحتها. وقد جعلتني هذه الصورة مشهورًا بصفتي مصورًا ومكنتني من دفع عدة فواتير، لكنني سئمت من الاضطرار في كل مرة للدفاع عنها. ولم أشعر بالارتياح إلا عندما توقف هاتفي عن الرنين.
وبعد مرور أعوام على ذلك، اتخذَت قصة هذه الصورة منحى سرياليًا. فعندما تسبب "إعصار إيرين" في وقوع فيضانات هائلة في بورتو ريكو عام 2011، عرضت قناة (7 News) في ميامي صورة لسمكة قرش تسبح في شارع مغمور بالمياه. كان مشهدًا مذهلا، لكن سمكة القرش بدت مألوفة.
لقد كانت تلك سمكة القرش نفسها التي التقطت صورتها. لكن شخصًا ما قام بتعديل صورتها باستخدام برنامج "فوتوشوب" في أعقاب ذلك الإعصار. وفي عام 2012، ظهرت مجددًا وهي تسبح على طريق سريع مغمور بالمياه في نيو جيرسي في أعقاب "إعصار ساندي". وفي عام 2017، كانت تتجول على طول شوارع هيوستن المغمورة بالمياه بُعَيدَ "إعصار هارفي". وعندما ادّعى أحد المخادعين الهزليين على الإنترنت أن حوض القروش في "المركز العلمي" بالكويت قد انهار، تم دمجُ سمكة القرش نفسها رقميًا في إحدى الصور فظهرت وهي تسبح إلى جوار مصعد استُعير بدوره من صورة فيضان في "محطة الاتحاد" في تورنتو بكندا. وفي الآونة الأخيرة، تلقيت رسالة نصية بعد أن دمر "إعصار لورا" ساحل لويزيانا؛ تقول: "خمِّن من عاد؟". نقرتُ على الرابط، لأجد سمكة القرش نفسها.. تارة أخرى.
إن قلة قليلة من الناس هي التي لا تبالي بأسماك القرش، وهذا هو السبب الذي يجعل هذه الصور المزيفة مقنعة للغاية. فلهذه الأسماك طريقتها في جذب انتباهنا؛ وبصفتي مصورًا وراوي قصص، غالبًا ما أستغل ذلك. فيمكنني من خلال صورة وقصة بليغتين تحويلَ أسماك القرش من مخلوقات شريرة وخطرة إلى حيوانات غير حصينة وتستحق الاحترام والحماية.
وأسماك القرش راوية قصص أيضًا. فهي تنذرنا ببعض قضايا صون الطبيعة الأكثر إلحاحًا التي تواجه محيطاتنا، كالصيد الجائر والتغير المناخي. لكن علينا أن نصغي إليها. وعلى الرغم من أن صورة قارب الكاياك تبدو للوهلة الأولى كنذير سوء، فإن ملابساتها الحقيقية هي على النقيض من ذلك؛ إذ تنطوي على قصة حبلى بالدهشة وحب الاستطلاع والتعايش. فمن صورة واحدة تَولَّدَت فرصٌ لا حصر لها لتعريف الناس أكثر إلى أسماك القرش؛ وتلكم أحاديث غالبًا ما تبدأ بالخوف والجهل، ولكنها تنتهي.. بالانبهار.
تَملَّكَ أحد المصورين اليأسُ بعد أن تلقى أنباء مفجعة خلال أدائه إحدى المَهمات الصعبة. ثم اتخذ البابا "فرنسيس" منعطفًا منحَه باب أمل لتدارك ما فات.
مَهمة محفوفة بالمصاعب في خبايا صناعة الببور الأسيرة في أميركا تُفضي إلى بصيص من الأمل.
مع افتتاح المتحف الذي طال انتظاره على رصيف ميناء تاريخي، تعيد هذه المدينة الواقعة جنوب الولايات المتحدة الوصل بساحلها.. وتعيد حساباتها مع ماضيها المأساوي.