هذه مركبتي الفضائية المفضلة: تلسكوب فيرمي الفضائي لأشعة "غاما" الذي يكشف كونًا يختلف تمامًا عمّا تراه أعيننا.
خلال طفولتي، كنت أُمضي بعض الوقت من فصل الصيف في شمال ولاية نيويورك بمنزل جَدَّيَّ المحاذي لإحدى البحيرات، بعيدًا عن التلوث الضوئي للمدن الكبرى. واعتدت في الليل سَحب بطانية من سريري لألتفع بها عبر الطريق المكسوة بإبر الصنوبر في طريقي من المنزل إلى رصيف القوارب. فكنت أتمدد هناك وأجول بناظري في السماء المليئة بالنجوم، على قدر ما كان يسمح به الأشخاصُ البالغون. كانت تعوزني الكلمات لأعبر عمّا كنت أشعر به آنذاك: إنها جاذبية الكون الجميلة المذهلة.
ولنسَرّع الزمنَ أكثر من عشرة أعوام حتى صيف عام 2002، حينَ عرفت أول مرة علم الفلك إلى أبعد الحدود الممكنة؛ فكنت مغمورة بروح النشاط والحيوية والإثارة. كنت متدربة صيفية لدى "جامعة شيكاغو"، وهي مؤسسة اشتهرت برواد الفيزياء الذين تخرجوا فيها؛ ومنهم "إنريكو فيرمي" الذي أمضى الأعوام الأخيرة من حياته ومساره المهني هناك.
في جامعة شيكاغو، أصلحتُ مُعدّات مصمَّمة للكشف عن الأشعة الكونية والبروتونات عالية الطاقة والنوى الأخرى التي تقصفنا من الفضاء. وعرفتُ أشعة غاما -أكثر أشكال الضوء حيوية- والزخم الذي أحدثه اكتشافها للإبداع والابتكار والمراصد؛ إذ حققَت دفعة كبيرة لمجال الفضاء. فكنت مبهورة بذلك الأمر.
وبعد ستة أعوام، أُطلق مسبار من فلوريدا على متن أحد صواريخ "دلتا 2"، ثم وُضع في مدار حول الأرض. وقد أصبح هذا المسبار، الذي سُمّي على اسم فيرمي، المركبةَ الفضائية المفضلة لدي.
كشف لي "تلسكوب فيرمي الفضائي لأشعة غاما" عن عالم لم أكن لأحلم به على الإطلاق.. عالم موسوم بالوهج والتصادمات الفضائية ومُفعم بالجمال والحركية. ففيرمي يرى كونًا يختلف تمامًا عمّا تلتقطه عيناي.. انتقال مذهل من الضوء المرئي المنبعث من الشاشة الموجودة في يدي والشاشة المثبتة على الحائط والشاشة المنتصبة على مكتبي.
فكل جزء من ضوء أشعة غاما يلتقطه فيرمي يحمل طاقة أكبر مما يمكن أن تراه العين البشرية، بما يتراوح ما بين آلاف ومليارات المرات. وتختزن أشعة غاما هذه أسرار أروع الأشياء في الكون، ألا وهي المادة الحلزونية التي تغذي الثقوب السوداء وبقايا النجوم الضخمة المتفجرة. وتبعث هذه الأحداث والتحركات الضوء بقدر هائل من الطاقة؛ فلا يمكن إلا لظواهر قليلة على الأرض أن تحاكيه. فهو غريب على البشر، وعلى كل ما يمكننا رؤيته ولمسه.
أرسل العلماء فيرمي إلى الفضاء مع أداتين لالتقاط أشعة غاما هذه. وكان هدفهم من المَهمة جمع بيانات مدتها خمسة أعوام. أما غايتهم الأكثر تفاؤلا، فهي بلوغ عشرة أعوام من التشغيل. وبدءًا من شهر يونيو الجاري، سيكون فيرمي قد أمضى 13 عامًا في الكشف عن الانفجارات والتصادمات السماوية.
وقد تحقق أحد اكتشافات فيرمي غير المتوقعة خلال عامه الأول في الأجواء. إذ اكتشف هذا التلسكوب فقاعتين هائلتين تبعثان أشعة غاما، وهما كرتين من الجسيمات المشحونة التي ظلت مجرتنا -درب التبانة- تدفعهما من مركزها منذ ملايين السنين. ومن المحتمل أن تكشف هاتان البِنيتان العملاقتان (إذ تمتد كل منهما على مسافة تبلغ 25 ألف سنة ضوئية طولًا) قصةَ ما كان يحدث منذ زمن سحيق من نشاط هائل وعنيف. لكن سبب وجودهما يظل لغزًا محيرًا.
وأجاب اكتشاف آخر من اكتشافات فيرمي عن سؤال عمره قرن من الزمن بشأن مصادر الأشعة الكونية. ففي أغسطس 1912، أصبح الفيزيائي "فكتور هيس" أول من رصد جسيمات الأشعة الكونية، وهو على متن منطاد هواء ساخن في علو زاد على خمسة كيلومترات فوق سطح الأرض؛ في إنجاز نال عنه "جائزة نوبل" مناصفةً. لكن بعد عقود من العمل، لم يستطع لا هيس ولا غيره تحديد سبب الأشعة الكونية. فهذه الجسيمات تحوي شحنات كهربائية؛ ولذا تنحرف بفعل الحقول المغناطيسية للمجرات، فتكون مساراتها عشوائية وغامضة.
ثم أطل علينا فيرمي بنظرته المثيرة للإعجاب؛ فعرفنا أن الأحداث التي تنتج الأشعة الكونية تنشئ أيضًا أشعة غاما مميزة. إذ قادتنا عيون فيرمي مباشرة إلى مواقع الانفجارات النجمية السابقة وسبب الأشعة الكونية. وقد أكد هذا الاكتشاف الشكوكَ التي أثيرت حول قدرة هذه النجوم المتفجرة ومحيطها المضطرب على تسريع البروتونات وغيرها من النوى الذرية التي تُنشئ الأشعة الكونية.
أما الضوء الذي يراه فيرمي، فهو نشيط للغاية إلى درجة أن البصريات التقليدية لا تستعمله ولا قِبَل لها بذلك. ولا يستخدم هذا المسبار المرايا العاكسة، مثل "تلسكوب جيمس ويب الفضائي" الذي سيُطلَق في وقت لاحق من عام 2021، ولا العدسات الانكسارية التي تكسر الإشعاع الوارد وتُركزه؛ بل هو كاشف للجسيمات يدور حول الأرض. إذ إن له أداة رئيسة مكونة من طبقات متناوبة من التنغستن والسيليكون بحجم سقيفة حديقة كبيرة. ويراقب "التلسكوب واسع النطاق" (LAT)، وهو العمود الفقري لفيرمي، زُهاء خُمُس سماء الليل في كل مرة ويحدد مصدر أشعة غاما في منطقة بحجم حبة رمل مثبتة على طول ذراع. ورسم فيرمي بفضل هذه الأداة، خرائط لآلاف الأجسام التي تنبعث منها أشعة غاما، انطلاقًا من أقصى المناطق المحيطة بالثقوب السوداء إلى أماكن النجوم المتفجرة.
وعندما تمر أشعة غاما عبر طبقات التنغستن في "التلسكوب واسع النطاق"، تجبر هذه المادة بعضًا منها على الانقسام إلى إلكترون ونظيره من المادة المضادة، البوزيترون. وترصد الطبقات المتناوبة من السيليكون تلك الجسيمات الوليدة المشحونة أثناء مرورها؛
وفي قاعدة "التلسكوب واسع النطاق"، يمتص مكونٌ ثالث هذه الجسيمات ويقيس طاقاتها. وفي غضون ثوانٍ قليلة، يجمع حاسوب فيرمي كل هذه المعلومات معًا لإعادة تشكيل طاقة أشعة غاما واتجاهها.. وهو ما يخبرنا بالمصدر الذي جاء منه هذا الضوء.
وفي الوقت نفسه، تُجري أداة فيرمي الأخرى المكونة من 14 كاشفًا أصغر للجسيمات تعمل بشكل مترابط، مسحًا شاملا للسماء (باستثناء المكان الذي تحجب فيه الأرض الرؤية) بحثًا عن ومضات بعيدة تسمى انفجارات أشعة غاما. فإذا استشعر كاشفان أو أكثر من الكاشفات الموجودة على هذه الأداة -"مراقب انفجارات أشعة غاما" (GBM)- إحدى نبضات أشعة غاما، فيمكن لنُظم فيرمي الحاسوبية إخطار علماء الفلك في الأرض بشأنها.
إن هذه القدرة على مسح السماء هي ما يجعل فيرمي أداة لا غنى عنها. فقد صُنع لتمشيط سماء تتغير على الدوام ولا تعرف للراحة سبيلا، ولمعاينة موت النجوم والموجات الصدمية الهائلة التي تنشط جسيمات الكون. وقد مكنت هذه القدرة الهائلة على الرؤية أيضًا من ربط علماء الفلك بنوع آخر من الإشارات لم يكن ضمن خطة فيرمي الأصلية لأنه لم يكن قد سبق أن شوهد أي منها.
يميل الكبار إلى تجاهل اللعب بوصفه أمرًا سخيفًا أو طفوليًا، لكن المرح قد يكون أمرًا أساسيًا لبقاء نوعنا البشري.
يمزج "بريان ماي" -أحد مؤسِّسي فرقة "كوين" ومستشار وكالة "ناسا"- بين الفيزياء الفلكية وموسيقى الروك لخلق تناغم كوني.
يعيش سكان جزيرة سينتينل الشمالية على الصيد وجمع الثمار.. وصد الغرباء. ورغم ذلك، فإن العالم يرفض أن يتركهم وشأنهم.