يوشك تفشي جائحة "كورونا" أن يفضي إلى اضطرابات اجتماعية تضع الإنسانية على المحك.
غيّر مرض "كوفيد-19" نمط حياتنا وطريقة عملنا، وقلب بعضًا من أكثر طقوسنا رُسُوخًا رأسًا على عقب. وقد أثبتت الجائحة، إلى جانب الاحتجاجات العالمية المطالِبة بالعدالة الاجتماعية، الحاجةَ الماسة إلى التصدي لعدم المساواة في مجتمعاتنا.. وتوفير حماية أفضل للأشخاص الأشد حاجةً بيننا.
اسْتَجْمَعَتْ "رُوبي مُوس" ما بقي من قواها، وهي التي أنهكتها عدوى الفيروس وأصابها الوهن، لِتَرْكَع متضرعةً إلى الله أن يحفظ زوجَها "أدولف موس"، وقد دام زواجهما 32 عامًا. وكانت ممرضةٌ قد اتصلت بها للتو من أحد مستشفيات مدينة توسكالوسا بولاية ألاباما لتخبرها أن أدولف لم يعد قادرا على التنفس، وإنْ كان جسمه موصولًا بجهاز تنفس يعمل بكامل طاقته؛ ذلك أن حالته الصحية أخذت في التدهور بسرعة. ابتهَلَت روبي إلى الله أن ينجيه من الموت. وما زالت تلك دعواها أن تتحقق المعجزة ويتعافى زوجُها، حتى جاءتها مكالمة هاتفية: "يحزنني أن أخبركِ أنه لم يكسب المعركة ضد الفيروس". أقيم مأتمُ أدولف في "مقبرة الكنيسة المعمدانية الرابعة" في يورك بولاية ألاباما في أبريل، حيث وُورِي الرجلُ الثَّرى في عُمرِ 67 عاما من دون مراسم تشييعٍ، وبحضور قِلَّةٍ من ذويه؛ فلم يستغرق حفلُ التأبين سوى عشر دقائق، على أن الرجل قد خدم الكنيسة المسيحية وكان مَحَلَّ احترامٍ وتقديرٍ كبيرين داخل مجتمعه المحلي. تقول روبي، وقد أعدت كُتيِّبًا صغيرا يخلد ذكرى زوجها الراحل: "لم يكن بمقدوري أن أُقيم لزوجي تأبينًا يليق به، فقد وصلتنا تعليماتٍ بتقليص الحضور إلى الجنازة إلى عشرة أشخاص فقط، بمن فيهم اثنين من المسؤولين عن عملية التشييع والدفن". وتضيف مُعلقةً: "بدا الأمر وكأن العالم كما نعرفه قد انتهى، وأن عهدًا جديدًا سيبدأ".
شهد عام 2020 تغييرات لم يكن لأحد أن يتصورها من قريب أو بعيد، غيَّرت مجرى حياة الناس وأنماط عيشهم؛ ومن ذلك أن الموت في زمن "كورونا" مُختلِفٌ لا يشبه أي موت. فأهل الميت ينعونه وحيدين معزولين. إذ تغيرت طقوس الموت على نحو غير مسبوق. ففي أيرلندا، مثلًا، فُرضت قيودٌ صارمة على تشييع الجنائز وفق الطقوس المَرْعية التي كان الميت خلالها يُوضَع في نعش مفتوح يُحيط به المشيِّعون فيُغنُّون ويتعانقون ويرفعون نَخْب وداعِه. ولم يعد الأميركيون من أصول إفريقية يقيمون مراسم تشييعِ ودفن موتاهم على الطريقة التي داوَمُوا عليها منذ زمن بعيد يعود إلى عصور النخاسة والرقيق؛ بل باتوا يكتفون بإقامتها في نطاقٍ ضيقٍ للغاية تحت قيود مُشدَّدة. وفي البلدان الشرقية والشرق أوسطية، حيث تُمارَس شعيرة غُسْل الميت على نطاق واسع، صار يُلتزَم في غسل الميت باستخدام مستلزمات الوقاية الشخصية الخاصة بكل القائمين على عملية الدفن، إنْ تم هذا الغسل أصلا. يَلفظ المصابُ أنفاسه الأخيرة وحيدًا معزولًا بلا توديعٍ من ذويه، فلا يحظى أحباؤه بتقبيلِ جثمانه أو لمسِه. فلقد جعلت الجائحةُ رحلةَ الموت، الأشدّ وحدةً وقفرًا في تاريخ الإنسانية المشترك. قال "ويليام هُوي"، أستاذ العلوم الإنسانية الطبية لدى "جامعة بايلور": "الجنازة ضرورية للغاية للتغلب على الحزن. فلا يمكن أن تكون الجنائز المقامة عبر منصة 'زوم' بديلًا لمراسم التشييع والدفن بالطريقة المعتادة قبل الجائحة. شخصيًا أخشى من التأثير النفسي الخطير لحظر إقامة الجنائز بالطريقة المعتادة، وما يعنيه ذلك من حرمانِ ذوي الموتى من فرصة وداعِ أحبائهم وأقربائهم، وما تُهيِّئه تقاليد الجنائز من فرصِ التلاقي في الفضاء المادي نفسه للمواساة والتعازي والتَّصَبُّر". وأشار هُوي أيضًا إلى أنه "لا يزال بعضُ أهالي ضحايا التفجيرات الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر 2011، لم يتعافوا بعد من حقيقة أنه لم يُعثر على جثتِ أحبّائهم وأنهم رحلوا وحيدين من دون وداعٍ يليق بهم. وتلكم حال المَكْلُوم بموتِ قريب، إذ يَحتاج -كي يتجاوز الفاجعةِ- إلى توديع الفقيد وداعًا مباشرًا. والحقيقةُ المؤلمة، أن فيروس "كورونا" غيّر مجرى الحياة العادية. إلى جانب الأرقام القياسية التي يواصل الفيروس حصدها من الأرواح، فقد عطَّل معظم الجوانب الأساسية في حياتنا وأخرج العالم كله عن مساره. عجيبٌ كيف انقلبت كلُّ الموازين بعد تفشي الفيروس، فتغيرت عاداتٌ وتقاليدٌ راسخةٌ في حياتنا، من حيث أنماط العمل والتعليم وفي المحيط العائلي. تبدَّلت العاداتُ اليومية بسبب "كورونا". لقد أَرغَمنا الوباء على تغيير وتيرة حياتنا جميعا، ووضَعَنا في نمطِ حياةٍ جديدٍ نلتزم به، مختلفٌ عما اعتدناه منذ أعوام. فمنذ مارس الماضي، أصبحت أنماط سلوكنا غير اعتيادية؛ إذ دَفعَ الخوفُ والهلعُ من انتشار الفيروس حُشودَ الناس إما إلى التهافت على شراء أوراق المراحيض أو إلى الاندفاع في مجادلاتٍ بشأن أهمية وضع الأقنعة الواقية من عدمه في الأماكن العامة.
ولقد صار يُوضَعُ موضعَ الاختبار والمحاكمة ما يَسِمُ مجتمعات العالم من مظاهر تفاوتٍ بنيوي وتصادم خطير بين القيم الثقافية والواقع. ما تعريفُ "وظيفةٍ أساسية"؟ وما هي صفات "العامِل الأساسي"؟ ولماذا يُكلَّفُ العمالُ الفقراء -وبنِسبٍ غير متكافئةٍ- بأعمالٍ تُعرِّض حياتهم للخطر في ظروفٍ تَنْعَدِمُ فيها الحماية ضد الفيروس؟
وَفد إلى مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية نحو 1.9 مليون سائح أجنبي، للاستمتاع بالرقص والغناء طيلة أسبوع من احتفالاتِ الكرنفال الشهيرة في فبراير 2020. كان الحاضرون يتلذذون بكوكتيل "كايبيرينيا" -المشروب الوطني للبرازيل- ويمرحون على طول شواطئ "كوباكابانا" الشهيرة، ولم يَبدُ أن أحدًا منهم فكَّر بما يعانيه فقراء المدينة. على أن عشرات الآلاف من الأشخاص الذين احْتَشَدوا في وسط المدينة خلال الأحد الأخير من الكرنفال، حظوا بفرصة مشاهدة الراقصات البرازيليات الفقيرات في موكبِ العروض الذي تتنافس فيه 13 مدرسة عريقة في فن "السامبا" على الفوز بالصدارة في هذا الحدث. قدَّمت مدرسة "يونيدوس دو فيرادورو" العريقة لفن السامبا عرضًا فنيا كرَّم النساء السوداوات الفقيرات اللائي يَمْتَهِنَّ الغسيل في البيوت بمدينة سلفادور البرازيلية، وهن مِن أحفادِ المستعبَدين الأفارقة. وقد فازت المدرسة بأفضل استعراضٍ راقصٍ خلال السباق المحموم للظفر بلقب الكرنفال السنوي. وقد ترك العرض الفائز انطباعًا حسَنًا لدى حشود المحتفلين من البرازيليين والسياح من مختلف بلدان العالم؛ إذ لعلهم اسْتَحْسَنوا اختيار الفرقة لموضوعٍ يرتبط بمعاناة إحدى الشرائح المستضعفة الفقيرة في المجتمع البرازيلي.
لكن ذلك الشعور الجميل لم يدم طويلاً، إذ انتهى بصورة مفاجئة. فقد سَجَّلت البرازيل أول حالةِ إصابة بفيروس "كورونا" في ذلك اليوم نفسه. إذ إن رجل أعمال ستّينيًا كان قد عاد للتو من شمال إيطاليا، فتوجه إلى إحدى المستشفيات في ساو باولو بسبب الحمى والسعال والتهاب الحلق. وقد تأكدت إصابته بالفيروس، فكان أول حالة في البرازيل وفي أميركا اللاتينية. وقد أوحت إصابته إلى خبراء الأمراض السارية باحتمال أن يكون الفيروس قد اجتاح أميركا الجنوبية بالفعل. فسرعان ما بات الفيروس يشكل خطرًا محدقا بالأشخاص الذين لا قدرة لهم على النجاة من تبعاته الطبية والاقتصادية؛ ومنهم أولئك النسوة اللائي يمتهن الغسيل في البيوت (ويُعرَفن باسم "لافادايراس") وملايين آخرين ممن يعيشون في الأحياء الفقيرة والمكتظة في البرازيل. وإذا كان للبشرية أن تَنْتَصِر في نهاية المطاف على "كوفيد-19" وفيروسات أخرى قد تظهر مستقبلًا، فيجب إدراج الفقراء والمحرومين اجتماعيًا (ومنهم الـ"لافادايراس") في المنظومة نفسها التي تروم السلامة للجميع. احتلت البرازيل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في أواخر أغسطس الماضي من حيث إجمالي عدد الإصابات والوفيات المؤكدة بسبب الفيروس.
"كورونا" فيروس مخادعٌ وغريب. ويُعرض للخطر على نحو خاص شريحةً معينة من الناس يعانون أصلًا وضعًا اجتماعيًا مزمنًا تسوده اللامساواة القائمة على الطبقة الاجتماعية والدين والعرق والثروة؛ وقد استغل الفيروس هذا الوضعَ. وأفضى تزامن تفشي الفيروس مع الاضطرابات المدنية التي انفجرت في الولايات المتحدة صيف هذا العام، إلى اندلاع سلسلة من الأزمات المتداخلة. وإذ يغزو الفيروس المستجد الرئتين، يستمر الهجوم على السود على يد "فيروس" آخر معروف لطالما قَضَّ مضاجعهم. وقد شهدنا كيف أثار مشهدُ مقتل "جورج فلويد" ببرودة تحت ركبة ضابط شرطة ردودَ فعلٍ غاضبةٍ دامت مدة طويلة في مختلف أنحاء العالم؛ ما أَطلق العنانَ لمظاهراتٍ رَفَعت لافتاتٍ سُطِّرت عليها عبارة "حياة السود مهمة"، فصارت لَهَباً امتدت ألسنته إلى العالم برمته من الشرق الأوسط إلى أوروبا وأكثر الأجزاء غير المتوقعة من الريف الأميركي. وقد أَكْسَبت تلك العبارةُ إقرارًا عالميًا لمفهومِ قدسية الحياة وحرمتها ووحدة كَيْنُونتها. إذ شارك في تلك الاحتجاجات مختلف فئات المجتمع الدولي وطوائفه، فكانوا على قلب رجل واحد بشأن ضرورة شَقِّ جـدار الصمت والجهر بصوت الحق في مواجهة انتهاكات الشرطة الممنهجة وتحدي رواسب امتياز العرق الأبيض. ولقد شهدت تلك الاحتجاجات زخمًا كبيرا عبر العالم، صاحبتها حملاتٌ استهدفت تماثيل ونُصب تذكارية لشخصيات تاريخية داخل المباني الجامعية التاريخية، كان لها دورٌ في تكريس العبودية والعنصرية والاستعمار.
ولقد كشفت ردود الفعل تلك عن أمر بسيط بات لزامًا علينا إدراكُه والتحسُّب لنتائجه والاستعداد لمواجهة هذه النتائج: للنجاة من هذا الفيروس وغيره من الفيروسات غير المعروفة التي ربما تصيب البشر مستقبلًا، يجب أن تتوحَّد جهودُنا ونعمل معًا من أجل بناء مجتمعات أكثر إنصافًا وعدلًا. وهنا تَسْطَع حقيقةٌ جَليَّة مفادها أنه ينبغي للإنسانية أن تكون كيانًا واحدا متماسكا ومتراص الصفوف في المعركة ضد الجائحة. ذلك أن وجودنا الجماعي رهنٌ بالقدرة على التوصل إلى فهمٍ أكبر بكثير للعلاقة المباشرة بين الرعاية الصحية الشاملة والعدالة الاجتماعية. كما أن الأمر يتطلب الاستعداد لاتخاذ خطوات حاسمة للتخفيف من وطأة الجائحة الأبدية التي لا يزال الإنسان لم يَستطع إلى القضاء عليها سبيلاً، وهي جائحةُ الفقر الطاحن المُدقِع الذي يقف حجر عثرةٍ أمام تحقيق ما تصبو إليه الإنسانية من أهداف مشتركة.
استخفَّ بعض الناس بالفيروس وتهاونوا في التعامل معه. ولقد شاهد العالم ما حصل من مدٍّ وجزرٍ في وتيرة انتشار الفيروس، وما كان من نهايةٍ مأساوية لهؤلاء المتهاونين. وفي أوج الأرقام الكبيرة لحالات الإصابة بالفيروس، دعا أسقفٌ بارز بإحدى الكنائس بولاية فرجينيا -واسمه "جيرالد غلين" وكان بعمر 66 عامًا- المصلينَ يوم الأحد الرابع في مارس الماضي إلى عدم الخوف من الفيروس. ومِثل غَيْرِه من كبار القساوسة، خالف غلين -وكان ضابطَ شرطة سابق- تعليمات حاكم ولاية فرجينيا وجِهاتٍ أخرى بمنع جميع التجمعات العامة والخاصة لأكثر من 10 أشخاص. "لدي اعتقاد راسخ أن الرب أكبر من هذا الفيروس اللعين"، هكذا خَطَب غلين في حَشْدٍ من المصلين، معلنًا أنه لا يهابُ الموت. توفي غلين متأثرًا بفيروس "كورونا" بعد ثلاثة أسابيع على إصابته بالمرض، وقد أبان في رحلة المواجهة عن إيمان راسخ وعزم لا يَلِين؛ لكن قدرة الفيروس على الفتك كانت أقوى من عزيمة غريمه، فأبى إلا أن يُسَلِّمه إلى الموت.
بعد أسابيع على تفشي الجائحة، قررت السلطات السعودية حصر موسم الحج هذا العام على عدد محدود جـدا من الحجاج على نحو استثنـائي بكل المقاييـس، وذلك لدرء المخاطر الصحية غير المسبوقة التي قد تطرأ خلال الخمسة أيام التي يحتاج إليها الحجيج لأداء شعائر الحج. وعادةً ما يؤدي فريضة الحج كل عام زهاء مليوني مسلم من شتى بقاع الأرض، ولكن تم تقليص ذلك العدد هذا العام إلى ألفِ شخص فقط. فلقد فرض هذا الوباء القاتل نفسه على أجندة الأديان العالمية الكبرى، ومنها الدين الإسلامي، الذي يدين به مليارا شخص من كل أصقاع الأرض. فالفيروس لا يستهدف أجسام ضحاياه فحسب، بل إنه يؤثر أيضًا في الروابط الروحية بين المؤمنين فارضًا تعليق التجمعات الدينية وما يرتبط بها من شعائر حسية وروحية بسبب ضرورة الامتثال للقواعد الصحية؛ ما ترك كثيرًا من المؤمنين يشعرون بالعزلة. نشر رجلٌ متدين وَرِعٌ من مدينة كولومبوس بولاية أوهايو أغنيةً على "فيسبوك" في الصيف الماضي، وكان يهدف من خلالها إلى بعث البهجة والسكينة في نفوس العديد من أصدقائه المسنين وغيرهم ممن أرهقتهم الجائحة وفرضت عليهم الوحدة والعزلة. إنه والِدِي، "فرانك موريس"، وقد بلغ الثامنة والسبعين من عمره في يونيو الماضي؛ وبهذه المناسبة أمسك قيثارته التي لا تفارقه، فجلس أمام حاسوبه وسجل نفسه وهو يعزف أغنيةً ألَّفها قبل 30 عامًا، بعنوان "ما أكثر نِعَم الله علي"، يُعَظِّم فيها فَضل الله عليه. خدم والدي كنيسةً ريفية صغيرة في سفوح جبال "الأبالاش"، ولم يستسغ حقيقة أنه لم يعد بإمكانه حضور العبادات الأسبوعية والاحتفال بعيد ميلاده مع أحبائه. لكن ذلك لم يمنعه من محاولة التواصل مع الآخرين. وبعد مشاهدة الفيديو، سألت والدي عن سبب تصويره لهذا المقطع ومشاركة محتواه مع الآخرين. أجاب ببساطة: "أردت التواصل مع الأشخاص الذين يكافحون القلق أو المرض لأشعرهم بأنني أفكر فيهم وأنهم ليسوا وحدهم؛ أردتهم أن يتذكروا نبي الله، داوود، حين يقول في مزموره: 'كنت صبيًا، وأنا الآن شيخ، وما رأيت صِدِّيقًا متروكًا، ولا ذُرِّيَةً له تستجدي خُبزًا'". ولطالما سمعت والدي يردد هذا المزمور مرارًا وتكرارًا.
لَعَمْرِي إن هذا الكلام المستوحى من أحد الكتب السماوية يبعث الأمل في القلوب. فلربما كان في الموت الذي يحمله الفيروس ذِكْرَى بما لا يمكن تجاهله. ثم إن الآثار الكارثية لهذا التهديد الصحي أزاحت الستار عن العديد من نقاط الضعف الإنساني، وأبرزت أهمية الوشائج التي تربط بين بني البشر. ولعل هذا أحد الجوانب المضيئة من أزمة الجائحة؛ ولعل في التهديد الذي تشكله، فرصةً ندرك من خلالها طبيعة العلاقة الترابطية القوية بين المجتمعات، على ما يعتريها من انقسامات مُفْتَعلة طال أمدها. وليس من قبيل المبالغة القول إن المجتمعات الإنسانية، على اختلاف مكوناتها، تشكل كيانًا واحدًا في المصير، إذا اشتكى منه عضوٌ وتألَّمْ تَدَاعَى له كاملُ الجسد بالسهر والحمى.
كانت ديترويت من بين المدن الأميركية القليلة التي تفشى فيها الفيروس في وقت مبكر وبشراسة كبيرة. لقد بلغ وَقْعُ الجائحة على المدينة حدًّا لا يمكن إلا أن يطفئ كل بارقةِ أملٍ في عودة الحياة إليها. وقد سبق لها أن أشهرت إفلاسها في عام 2013، بوصفها أكبر مركز لصناعة السيارات في العالم. ولطالما عانت ديترويت قبل تلك الأزمة بعقودٍ كونها من أكثر الحواضر الأميركية الكبرى فقرًا. ولكنها رغم ذلك كانت في طريقها إلى استعادة عافيتها. إذ عمل بعض سكان ديترويت الأوفياء على بث الروح فيها، فاستثمروا في مختلِف أحيائها، في وقت أدار لها آخرون ظهورهم بالنزوح منها بحثًا عن حياة أفضل. وقد كان من بين مظاهر عودة الحياة إلى المدينة، انتشار المطاعم الراقية والوحدات السكنية باهظة الثمن في وسط المدينة على ضفة النهر. أما الأحياء المنكوبة التي صارت في عِداد المناطق المفقودة عندما تخلى عنها سكانها، فباتت تجتذب أصحاب الاستثمارات العقارية ورواد المناطق الحضرية. ولكن الوضع تغير، عندما ضربت الجائحةُ المدينةَ في منتصف مارس. وسرعان ما كشف المرض النقاب عن جميع المشاكل القائمة سلفًا التي جعلت من ديترويت فريسة سهلة المنال.
ففي المدينة آلافُ الفقراء، وجلهم أميركيون من أصول إفريقية، قُطعت المياه عنهم بسبب عجزهم عن سداد فواتير المياه. فكيف لهؤلاء غسل أيديهم في مواجهة انتشار هذا الفيروس المسبب لمرض "كوفيد-19"؟ وفي غضون أسابيع قليلة من انتشار الوباء، فَقَدَ أزيد من 40 بالمئة من سكان المدينة العاملينَ وظائفهم، سُرِّح العديد منهم بصفة نهائية. واستنادًا إلى استطلاعٍ أجرته "جامعة ميشيغان" مع أكثر من 700 مشارك، بلغ معدل البطالة في ديترويت بحلول أواخر أبريل، نحو 48 بالمئة، أي أكثر من ضعف معدل البطالة في عموم الولاية التابعة لها. ثم سرعان ما اجتاح الوباء المدينة حاصدًا أرواح الكثيرين. كان جيسون هارغروف أبًا لستة أطفال، وكان يقود حافلة نقل عام في ديترويت؛ وهي وظيفةٌ تُصنَّف ضمن الوظائف الأساسية في مدينة يعتمد نحو 20 بالمئة من سكانها على وسائل النقل العام. وبدءًا من مطلع شهر مارس، أصبح هارغروف قلقًا حيال الوضع. هنالك أعربَ لزوجته وزملائه في العمل عن خوفه من أن مزاولة هذه الوظيفة باتت خطرة. قال هارغروف إن ذلك الكابوس قد تحقق عندما صعدت امرأة في منتصف العمر إلى حافلته ووقفت خلفه وسعلت سعالًا متكررا، حتى إنها لم تكلف نفسها عناء تغطية فمها عند السعال. في فيديو بثه هارغروف على "فيسبوك" في 21 مارس، فجَّر غضبه من السلوك المستهتر لتلك المرأة، قائلًا: "أشعر بأني شخصيًا تعرضت للاعتداء، وأن ما حصل يومئذ كان فيه اعتداء على بقية ركاب الحافلة". بعد أحد عشر يومًا على نشر الفيديو، توفي هارغروف في وحدة العناية المركزة بأحد مستشفيات ديترويت. كان أحدَ العاملين في الخطوط المكشوفة أمام الفيروس؛ لذا كان يُدرك جيدًا مدى خطورة المهنة التي يزاولها في زمن تفشي الوباء. تقول زوجته، "ديشا جونسون هارغروف": "كان جيسون يهتم كثيرًا بعمله. لم يكن يجني ملايين الدولارات، لكنه كان يستشعر مسؤوليةً مباشرة عن سلامة ركابه، وكان دومًا يحرص على معاملتهم بلطف، يبتسم في وجوههم ويلقي تحية الصباح على الجميع. ذلكم هو الشخص الذي فقدناه".
أنْ يعمل هارغروف من بيته، فهذا ما لم يكن بوسعه، شأنه شأن كثير ممن يشتغلون في قطاع النقل العام في المدن المكتظة مثل طوكيو ونيويورك ومومباي. وكثيرٌ من ركاب حافلته كانوا عمالًا مُياومين هم أنفسهم، لم يكن أمامهم خيار سوى العمل في وظائف متدنية الأجر، تتطلب الحضور الفعلي في مكان العمل، بمصنع أو في محل للبقالة أو دار للرعاية الاجتماعية. وبذلك أصبحت الحافلات وكأنها "طَبَقُ بِتْري" يسير على عجلات.
عَلم يقينًا أنه ستظل فئات معينة من الناس معرضة لخطر الإصابة بالفيروس أو الموت لأبسط الأسباب: فهؤلاء ليس بوسعهم الحصول على الرعاية الصحية، كما أنهم يعملون -مثل هارغروف- في إحدى وظائف الخطوط الأمامية، التي تكون فيها مخاطر العدوى مسألة حتمية. ففي الولايات المتحدة، عانى السود واللاتينيون ارتفاع حالات الوفيات بمعدلات مختلفة عن بقية السكان، إما بسبب ظروف صحية قائمة في الغالب قبل تفشي الفيروس، أو ببساطة لأن طبيعة عملهم تجبرهم على الخروج من البيت. وينسحب هذا الوضع على مختلف بقاع العالم. ففي كل مرة ندخل فيها محل بقالة، نحدق في عيون أم يائسة أو عيون عاملين آخرين ممن لا يستطيعون كسب لقمة عيشهم سوى بالحضور الفعلي لمقر عملهم هذا. إنه ترابط إنساني أدركناها فجأة، وينطوي على حقيقة مفادها أن بعض الفئات البشرية الأضعف والأكثر هشاشة بيننا هي نفسها التي لا غنى لنا عنها لاستمرار حياتنا. تقول "شاران بورو"، الأمينة العامة لِـ "الاتحاد الدولي للنقابات الحرة"، والذي يضم 200 مليون منخرط من 163 دولة ومنطقة: "لقد انفرط العقد الاجتماعي في دول عديدة؛ ونجد أن تلك المؤسسات العالمية ذاتها التي أُنشئت لتعزيز الحقوق والمساواة والنمو الشامل والاستقرار العالمي، قد أسهمت في سلسلة الأزمات التي تكالبت على عالم اليوم". وطبعًا كان معدل الفقر يسير وفق منحنى تصاعدي مطَّرِد حتى قبل تفشي هذا الوباء بزمن بعيد.
يعيش زهاء نصف سكان العالم حياة الفقر، وفق ما أورده تقريرٌ لمنظمة "أوكسفام" الدولية التي تسعى إلى التخفيف من حدة الفقر بالعالم. ويشير تقرير المنظمة السنوي إلى أن 2513 شخصًا من الأكثر ثراءً في العالم يمتلكون ثروة تفوق ما يمتلكه أكثر من 4.6 مليار شخص. وتحذر المنظمة من أن تفشي الوباء يزيد الوضع سوءًا على نحو لا يدع مجالًا للشك، مشيرةً في تقريرها الصادر في يوليو الماضي إلى أن الأزمة ستترك قرابة 12 ألف شخص يواجهون خطر الموت جوعًا كل يوم مع حلول نهاية عام 2020. وتؤكد المنظمة أن عدد الوفيات من الجوع المرتبط بالوباء ربما يتجاوز عدد من سيقضي عليهم الوباء نفسه. وتشير "أوكسفام" أيضًا إلى أن الوباء قد يتسبب في ظهور بؤر جديدة للجوع حول العالم، والتي تشمل -حسب تصنيف المنظمة- بلدانًا متعثرة مثل جنوب السودان وفنزويلا والبلدان متوسطة الدخل مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل. فخطر الفيروس يتهدد ملايين الأشخاص ممن كانوا بالكاد يتدبرون أمورهم المعيشية قبل تفشي الوباء. وليست الولايات المتحدة بمنأى عن براثن الجوع. ولم يسبق أن تعرضت العوائل إلى هذا المستوى من الضغط النفسي والمادي. فبعضها يعاني انعدام الأمن الغذائي، وذلك بسبب إجراءات الحجر الصحي التي فَرضت على الشركات إغلاق أبوابها وأَجبرت المؤسسات التعليمية على اللجوء إلى خيار التعليم من بعد. وأظهر استطلاع أجرته "مؤسسة كايزر فاميلي" في مايو الماضي أن 26 بالمئة من الأميركيين قالوا إنهم أو أحد أفراد عائلاتهم لم يجدوا ما يسدّوا به الرمق، أو أنهم اعتمدوا في معاشهم على إعانات الجمعيات الخيرية أو برامج المساعدة الغذائية الأميركية، ومنهم 13 بالمئة قالوا إنهم لجأوا بنك طعام أو مخزن للإمدادات الغذائية.
وقالت رئيسة الفرع الأميركي لمنظمة "أوكسفام"، في بيان صحافي: "الحقيقة المفزعة هي أن الفيروس يفاقم انعدام الأمن الغذائي في بلدنا. إذ يوجد اليوم في كل مدينة مِن الأهالي مَنْ ينام جائعًا. فمن كان على حافة الهاوية قبل تفشي الوباء، صار يكافح للبقاء واقفًا على قدميه. ويعاني قرابة ربع سكان ولاية مسيسيبي انعدام الأمن الغذائي، فيما ينهش الجوع أكثر من ثلث الأطفال في لويزيانا". وبينما يصارع العديد من الأميركيين للبقاء على قيد الحياة، باتت حياة من يقوم على رعاية الفئات الأكثر هشاشةً، في مرمى الجائحة أكثر من غيره.
في أحد أيام يوليو الحارة، كان "فينس كوشمان"، أحد مديري بنك الطعام في منطقة كليفلاند الكبرى، يتصبب عرقًا وهو يوجِّه حركة المرور في موقف سيارات تابع للبلدية. تقلصت أعداد موظفي المكاتب المتجولين بالسيارات وسط المدينة، بسبب الجائحة؛ ومن ثم فقد تحول موقف السيارات الشاسع إلى منصة تنطلق منها عملية توزيع الطعام أسبوعيًا كل يوم خميس على نحو 2000 عائلة بالمنطقة. وظل كوشمان يعمل، على مرّ ثمانية أعوام، في ما يسميه أحد أكثر بنوك الطعام ازدحامًا بالولايات المتحدة. ويرى أن عملَه يدخل في خانة الخدمة العامة؛ إذ يقول إن أداء الخدمة المجتمعية من أهم مقومات الحياة في المدينة. ولذا حزن كثيرًا حين أصابته عدوى الفيروس في مارس؛ وقد ظل يجهل كيف حدث ذلك. وفوَّت عليه المرضُ ستة أسابيع تقريبًا من العمل إذ كان يتعافى. يقول كوشمان: "لطالما مررنا بأوقات عصيبة كثيرة؛ لذا أعتقد أننا نتصدى للأزمات بطريقة أفضل من غيرنا في أماكن كثيرة أخرى لم تألف مواجهة الشدائد. كما أننا حريصون على ألّا نحكم على الآخرين في أوقات الشدة". ويستطرد كوشمان قائلا: "أقول دومًا للمتطوعين معي إننا أبدًا لا نعرف الظروف التي تدفع المرء إلى الوقوف في طابور للحصول على الطعام. لا يهمني إذا دخل المرء إلى موقف السيارات بسيارة فارهة؛ فنحن لا نعرف هل صاحبها يعيش مشردًا داخلها. فمهمتنا تتمثل في التعامل معهم بلطف وبما يحفظ كرامتهم، مع إدراك حقيقة أن في هذا العمل فرصة لخدمة هؤلاء".
ولكن ليس ما تعانيه العوائل المغلوبة على أمرها من جوعٍ، وحده ما يقض مضجع القائمين على التعليم في مختلِف أنحاء العالم، بل إن ما يبعث على القلق البالغ هو أنه من المحتمل أن الوضع سيتسبب في انتكاسات دراسية لا يمكن استدراكها لعددٍ كبير جدا من الأطفال. وفي مارس الماضي، أظهر استطلاعٌ للرأي أجراه "مركز أسوشيتد برس-نورك لبحوث الشؤون العامة" أنه مع تحول المدارس الأميركية من نظام الفصول الدراسية الحضوري إلى التدريس من بُعد، بات القلق يساور أولياء الأمور في العوائل ذات دخل سنوي دون 50 ألف دولار تحديدًا بشأن الآفاق المستقبلية لأطفالهم. وقد قال نحو 72 بالمئة من هؤلاء إنهم متخوفون من تراجع مستوى التحصيل العلمي لأطفالهم. هذا في الوقت الذي تنتاب المخاوف ذاتُها 56 بالمئة من الآباء في العوائل ذات الدخل المرتفع. ويقول رئيس "قسم سياسة التعليم والتحليل الاجتماعي" لدى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا: "نحن ندرك بالفعل أن التعليم الحضوري يفيد عموم الطلاب، من حيث التحصيل العلمي ولتغذية المهارات الاجتماعية والعاطفية لديهم. بل إنه حتى الانقطاعات المدرسية المبرمجة، مثل الإجازات الصيفية، يمكن أن تبطئ مستوى نشاط الطالب في دراسته، وقد يكون لهذه الانقطاعات وقعٌ سلبي أكبر على الطلاب من عوائل الطبقة العاملة والفقيرة، منه على الأطفال والشباب من الطبقة المتوسطة". ورغم ما تسبب فيه الوباء من إغلاق للمدارس وأماكن العمل على نحو غيَّر طبيعة حياتنا اليومية، فإنه يتواصل العمل على إعادة النظر في التحولات الاجتماعية التي طبعت تاريخ البشرية. فعالمنا أضحى يموج بالتيارات الفكرية المتصارعة في شكل اضطرابات عرقية وانتفاضات اجتماعية ودعوات مستمرة تطالب بتصحيح أوجه عدم المساواة الاجتماعية.
بعد وفاة "جورج فلويد"، الأميركي من أصل إفريقي والبالغ من العمر قيد حياته 46 عامًا، والذي قضى اختناقًا لدى اعتقاله بتهمة استخدام فاتورة مزورة بقيمة 20 دولار، اندلعت واحدةٌ من أكبر الاحتجاجات في تاريخ الولايات المتحدة واتخذت زخما كبيرًا لم ينقطع. حسب العديد من استطلاعات الرأي المنشورة، فقد شهدت الأسابيع الخمسة الأولى من وفاة فلويد في مايو الماضي احتجاجات عارمة شارك فيها 15 إلى 26 مليون شخص في أنحاء الولايات المتحدة، انضم إليهم ملايين آخرون حول العالم للتعبير عن تضامنهم. وتعليقًا على ذلك، قالت "ديفا وودلي"، الأستاذة المشاركة لدى "المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية" في نيويورك: "إن الاحتجاجات واسعة النطاق التي شهدناها هي بحق غير مسبوقة". ثم أضافت موضحةً أن ما حصل "ثمرة جهود منسقة لنشطاء من المدن والضواحي والمناطق الريفية، حيث امتد لهب المظاهرات الاحتجاجية بشعار "حياة السود مهمة" إلى أزيد من 40 بالمئة من المقاطعات الأميركية".
بلغت معاناة المواطنين السود الأميركيين من الاضطهاد على مدى أربعة قرون أَوْجَها بحادث مقتل فلويد، والذي صدم العالم بالحقيقة المُرَّة، وهي أن حياة السود غير مهمة. لقد أزالت قضية فلويد أخيرًا الغشاوة عن أعين كثيرين ممن لم تكن آثار معاناة السود تطالهم في شيء. وقد لا تكون حياة فلويد مهمة للبعض، ولكن وفاته أثرت في الكثيرين. وقف الشباب من الريف الأميركي، والطلاب البيض الأثرياء، والعديد من الأشخاص العاديين في صفٍّ واحدٍ تضامنًا مع مؤسسي حركة "حياة السود مهمة" ونشطاء حركة الحقوق المدنية من جميع أنحاء العالم في المطالبة بتحقيق العدالة العرقية والاجتماعية. ولعل احتجاجات "حياة الأفارقة مهمة" استمالت وشائج الترابط البشري، فكان في موت فلويد حياة جديدة للعنصر البشري. لقد غيّر مرض "كوفيد-19" العديد من أنماط سلوكنا الاجتماعي تغييرًا جذريا، لكن هل سيغير القيم التي تقوم عليها هويتنا الثقافية؟ إن لنا في دروس التاريخ المعاصر وعِبَرِه ما يُبشِّر بالخير. فخلال القرن الماضي، تحققت خطوات كبيرة في مجالي حقوق الإنسان والتقدم الاجتماعي، وكان ذلك بعد سلسلة من أحداث الموت المروعة والاضطرابات الاجتماعية الكبرى.
إذ ظفرت المرأة الأميركية بحق التصويت في أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى وما تلاها من خسائر تسبب فيها وباء الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918. فقد فتحت الأزمتان المتلاحقتان سوق العمل الأميركي أمام النساء، وأماطت اللثام عن أوجه عدم المساواة بين الجنسين؛ وهو ما لم يعد بالأمر المستساغ في أعقاب الحرب وبعد انحسار جائحة الإنفلونزا القاتلة. تأسست منظمة "الأمم المتحدة" بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتكون الضامن الدولي للحفاظ على السلم بين بلدان العالم وتعزيز حقوق الإنسان والحقوق الاجتماعية، ولا يزال يؤول إليها دورُ الحَكَم في النزاعات والخلافات بين الدول. وقد كان للجنود السود الأميركيين العائدين من الحرب نفسها ضد الاستبداد والفاشية دورٌ قوي في المراحل الأولى لِتَشَكُّل حركة الحـقوق المدنية وإبطـال ما كـانَ مِن قـوانين وأنظمة مُشَرْعِنةٍ للتمييز العنصري.
وهـا هـو فيـروس "كـورونـا" الجـامـح يَزُجُّ بالعالـم في أَتُون أزمـةٍ أخـرى لا تـزال تداعياتها الخطيرة مستمـرة، ولا سبيل إلى التغلب عليها ما لم تَحدُث استجابةٌ عالمية. ارتبط ظهور هذا الفيروس بإصاباتِ فئاتٍ معينة من المجتمع مُعرَّضة صحيًا إلى الخطر، قبل أن يتَّسع نطاق تفشيه فيهاجم الجميع بلا هوادة. استمرت حالات الإصابة في الارتفاع، في الولايات المتحدة والبرازيل والهند وأجزاء أخرى من العالم. وقد فاقم الفيروس الأوضاع الصحية القائمة قبل تفشيه، كما زادت التفاوتات الاجتماعية الهائلة من انتشاره كالنار في الهشيم في مختلف دول العالم. أما الـدرس الجلي من هذه الأزمة لنبني المستقبل، فهو أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بإحداث التغيير المطلوب لضمان العدالة والإنصاف العالميين. جميعُنا ينظر بعيون النساء السوداوات غسالات الملابس في البرازيل، كما أننا صرنا نشعر بأننا في خط مواجهة واحد مع العمــال ممـن لا يمكن الاستغناء عنهم وإن خُذِلوا، ومنهم هارغروف الذي استمر في مزاولة عمله سائقًا للحافلة إلى ما قبل أيام من وفاته بسبب "كوفيد-19".
ولقد أظهر حجم التكلفة البشرية والمالية والاجتماعية للجائحة أن ما بين جميع البشر رباطُ أُخوةٍ إنسانيةٍ لا يمكن أن يتصدَّع أو ينكسر، كما أن الوباء جعلنا أكثر وعيًا بأهمية فئاتٍ من المجتمع تعمل في الخدمات الرئيسة، لم يُلْتَفَتْ لها منذ وقت طويل. قالت ديشا عن زوجها الراحل: "كان جيسون يَحتَرِز لسلامة ركابه باتخاذ ما يلزم من تدابير، ومنها تعقيم حافلته. كان يهتم بحماية ركابه، فكانوا بالمقابل يدفعون عنه أذَى الركاب المتسيّبين. لقد كانوا جميعًا يدركون أنهم على متن الحافلة معًا". لا مفر لنا من تقبّل الحقيقة التي يُجلِّيها الموتُ في زمن الجائحة.. وهي أننا جميعًا نركب الحافلة نفسها.
في مرتفعات البيرو المكتنَفة بالغيوم، تبقى أطلال "تشوكيكيراو" -صعبة الوصول- بمنأى عن حشود الزوار المتدفقين إلى "ماتشو بيتشو". لكن ذلك قد يتغير قريبًا.
تُعرَف بنفورها من الماء، على أنها ظلت فردًا من طواقم السفن منذ بزوغ تاريخ الإبحار.