يحتضن "متحف ماتر" في مدينة فيلادلفيا الأميركية تشكيلة عينات طبية فريدة من نوعها. في الطابق السفلي يطفو كَبِدَان ملتحمان في وعاء زجاجي، كانا للتوأم الملتصقين "تشانغ" و"إنغ" اللذين عاشا في القرن التاسع عشر. وغير بعيد، يُحملق الزوار في أيادٍ متورمة بفعل مرض النقرس، وحصي استخرجت من مثانة قاضي قضاة أميركي عاش في القرن التاسع عشر، وورم سرطاني تم استئصاله من فك الرئيس الأميركي السابق "غروفر كليفلاند"، وعظم فخذ جندي من حقبة الحرب الأهلية الأميركية، به رصاصة مستقرة في موضع الإصابة. إلا أن إحدى المَعْروضات قرب المدخل تثير في النفس رهبة قلَّ نظيرها؛ فلو ألقى المرء نظرة من كثب، لرأى آثار جِبَاهِ الزوار على الواجهة الزجاجية التي تحوي هذه القطعة.
ويتعلق الأمر بصندوق خشبي صغير يضم 46 شريحة مجهرية، يعرض كُلٌّ منها قطعة من دماغ ألبرت أينشتاين. ثُبتت فوق إحدى الشرائح عدسةٌ مُكبِّرة تُبيِّن جزءاً من نسيج -بحجم طابع بريدي تقريبا- يشبه في تفرعاته والتواءاته البهية منظرا جويا لمصب نهري. وإن هذه الأنسجة الدماغية لفاتنة تسحر الألباب، وإن كانت -أو ربما لأنها- لا تبوح سوى بالنزر اليسير عن قوة الإدراك الخارقة عند ذلك العالِم الفيزيائي الفذ. تُبيّن معروضات أخرى في المتحف بعض الأمراض والتشوهات الناجمة عن هذا الخلل أو ذاك؛ أما دماغ أينشتاين فيمثل طاقة كامنة وقدرة عقل بشري فذّ فريد تجاوز الجميع. تقول الزائرة "كارن أوهير" وهي تحدق في عينةٍ من دماغ أينشتاين بلون الشاي: "إنه كان يرى الأمور من منظور مختلف عنا، وكان بإمكانه تجاوز ذلك إلى ما لم يكن يَرى؛ وهذا أمر مذهل حقا".
وما أَقلَّ الذين تألّقوا وتميزوا بإسهاماتهم اللافتة الغزيرة في مجال من المجالات عبر التاريخ؛ كالسيدة "موراساكي" في الإبداع الأدبي و"مايكل أنجلو" بلمسته الفنية البارعة و"ماري كوري" بنبوغها العلمي.. على سبيل المثال لا الحصر. يقول الفيلسوف الألماني "آرثر شوبنهاور": "إن العبقري يضيء عصرهُ كما يضيء مذنَّبٌ الدروبَ بين الكواكب". ولننظر إلى أثر أينشتاين في علم الفيزياء؛ إذ لم يستعن بأدواتٍ -إلا قوة فكره- حين تنبأ في نظرية النسبية العامة أن الأجسام الضخمة المتسارعة (كالثقوب السوداء التي يدور بعضها في فلك بعض) من شأنها إحداث تموجات في نسيج المكان والزمان. وقد تطلب الأمر 100 عام وقوة حاسوبية هائلة وتكنولوجيا متطورة، لإثبات صحة ما ذهب إليه أينشتاين، وذلك بعد الكشف الفيزيائي لموجات الجاذبية تلك في عام 2015 فقط.
لقد أَحدث أينشتاين ثورة في فهمنا لقوانين الكون نفسها، لكنّ فَهْمَنا لطريقة اشتغال عقل كعقله ما زال قاصرا. فما الذي يُميز طاقة دماغه وطرائق تفكيره عن أنداده الأذكياء فحسب؟ وما سر العبقرية بحد ذاتها؟
وقد ظل الفلاسفة منذ زمن بعيد يتفكّرون في أصول العبقرية؛ إذ اعتقد المفكرون الإغريق الأوائل أن فائضا في عصارة المرارة السوداء -وهو أحد سوائل الجسم الأربعة التي اقترحها أبقراط- تُلهم الشعراء والفلاسفة والنفوس الراقية "قوى عظيمة"، عـلى حـد ت
لتتمكن من قرأة بقية المقال، قم بالاشتراك بالمحتوى المتميز