تسلق دخل التاريخ

يسحب "نيمز" جسمَه المتثاقل المتعطش للأوكسجين إلى الأعلى وقد صار على مرأى من ناظريه تحقيق إنجاز تاريخي باعتلاء قمة "كي 2" في فصل الشتاء. فقد تحَمَّل هو وتسعة من زملائه النيباليين رياحًا غير متوقعة ودرجات حرارة دون الصفر وكثيرًا من المخاطر المُهلكة، في سبيل تسلق هذه القمة سيئة الصيت في ظروف بالغة القساوة. وقد كان كثيرون يرون استحالة تحقيق هذا الإنجاز. وزاد "نيمز" من تلك الصعوبات بالتسلق من دون عبوات أوكسجين.Mingma David Sherpa

تسلق دخل التاريخ

أعضاء الفريق النيبالي يغادرون مخيم الانطلاق مع أولى خيوط الفجر من أجل المرحلة الأخيرة من الصعود التي ستدوم ثلاثة أيام. أُجبر المتسلقون بفعل الظروف الجوية الخطيرة على التحصن بمخيم الانطلاق أسابيع، لكن توقعًا باعتدال أحوال الطقس منحهم الأمل في تحقيق إنجاز تاريخي.Sandro Gromen-Hayes

تسلق دخل التاريخ

أول فريق نيبالي بالكامل يحقق إنجازًا تاريخيًا بالتسلق إلى إحدى القمم التي لا يقل علوها عن 8000 متر، يحتفل في مخيم الانطلاق بالوصول إلى قمة جبل "كي 2" شتاءً. يقول "نيمز": "لقد حققنا ذلك من أجل نيبال". وهؤلاء المتسلقون العشرة الذين ستُخلَّد أسماؤهم في كتب الأرقام القياسية الخاصة بتسلق الجبال ينتمون جميعًا إلى قومية "الشيربا" ما عدا واحدًا؛ وهم (الصف العلوي، من اليسار): بيم شهيري، مينجما ديفيد، جيلجي، داوا تيمبا؛ (الصف الأوسط، من اليسار): داوا تنجين، نيرمال بورجا (الشهير باسم "نيمز وهو من قومية الماغار)، مينجما غيالجي، سونا، كيلو بيمبا؛ (وفي الأمام): مينجما تينزي.Sandro Gromen-Hayes

تسلق دخل التاريخ

دفعت مشاعر الاعتزاز الوطني فريقًا مكوَّنًا بأكمله من النيباليين إلى القيام بما اعتقد كثيرون أنه ضرب من المستحيلات: تسلق الجبل الثاني علوًّا في العالم خلال فصل الشتاء.

قلم: فريدي ويلكينسون

1 فبراير 2022 - تابع لعدد فبراير 2022

حــاول "مينجما غيالجي" (شيربا)، وظلمـة الليــل الحالكـة تغشاه من كل جانب، أن يوجه المدار المهتز للمصباح المثبَّت على ناصيته إلى مواطئ خطواته التالية، لكن البرد الشديد كان يسيطر على أفكاره. كان مينجما قد أسبل عليه بذلة سميكة خاصة، وتحتها سترة طويلة، فضلا عن طبقتين من الملابس الداخلية الطويلة، وعبوات الأوكسجين؛ لذا، كان من المفترض أن يكون على ما يرام. لكن لم يكن قد سبق له في كل القمم التي صعد إليها وكل العواصف الثلجية والرياح المتجمدة التي واجهها أن شعر بمثل هذا الانخفاض الشديد في درجات الحرارة.. برد موغل في القساوة ينخر العظام.
هنالك شعر بأن جسمه توقف عن العمل وأضحى لا يطاوعه. فقد كان جانبه الأيسر يتلقى ضربات قاصمة من ريح قوية، كانت كل نفحة منها ترسل سياطًا باردة تَنْفذ إلى كل قطعة ملابس يرتديها. لكن قدمه اليمنى كانت أشد ما يقلقه. فقد شعر بوخز فيها سرعان ما تحول إلى التهاب ليتحول في الأخير إلى خدر وتنمل، وهو مقدمة للسعة صقيع خطيرة. كان يعي بأن ذلك ما هو إلا علامة تشير إلى أن جسمه كان يعطي الأولوية لتدفق الدم من أجل تدفئة الأعضاء الحيوية؛ مُضَحيًا بالأطراف للحفاظ على المركز. وكان كل ذلك يحدث حتى قبل أن يَعبر إلى ما يسمى "منطقة الموت" -الواقعة على ارتفاع يربو على 8000 متر- حيث يمكن أن يتسبب نقص الأوكسجين في إصابة المتسلقين بالهلوسة وتراكم السوائل في رئتيهم وفقدان غريزتهم في الحفاظ على الذات.
شغّل "مينجما جي." -وهذا اسم شهرته- جهاز اللاسلكي الذي كان يحمله، وقد أوعز إليه ذهنه للحظات قصيرة أن يستدير وينادي: "داوا تنجين؟ داوا تنجين؟ لكنه لم يجد لندائه من مجيب سوى أنين الريح. واستطاع بالكاد تَبَيُّنَ الأضواء الخافتة الصادرة عن مصابيح زملائه وهم يمشون بخطى متثاقلة في صف متقطع فوق الثلج الموجود عند زاوية منخفضة فوقه. فاستنتج من هذا الصمت أن ما منع الجميع من إجابة ندائه إما انهماكهم الشديد في المهام التي كانوا ينجزون، وإما بلوغ معاناتهم في التسلق حدًّا لا يطاق.
حتى في أشهر الصيف حيث تكون الأحوال الجوية أكثر اعتدالا، يظل جبل "كي 2"، وهو القمة الثانية علوًا على وجه الأرض بارتفاع 8611 مترًا، من بين أكثر جبال العالم فتكًا بالمتسلقين. وعلى الرغم من أن ارتفاعه يقل عن ارتفاع جبل "إيفرست" بنحو 238 مترًا، فالوصول إلى قمته يتطلب مهارات تسلق أكبر ولا يتيح أي هامش للخطأ. فقد قال المتسلق الأميركي، "جورج بيل"، بعد فشله في بلوغ قمة "كي 2" عام 1953: "إنه جبل وحشي يحاول الفتك بالمرء". وقد ظل هذا اللقب لصيقًا بالجبل لعدة أسباب، منها أنه في مقابل كل أربعة متسلقين يتمكنون من بلوغ القمة والنزول منها، يلقى متسلق آخر حتفه أثناء محاولة القيام بذلك.
لكن في ذلك الوقت، أي بعد أربعة أسابيع تقريبًا على الانقلاب الشتوي حيث ينحرف نصف الكرة الشمالي بعيدًا عن دفء الشمس الذي يَهِب الحياة، تسود في الجبل أجواء تُعدّ من أقسى الظروف على هذا الكوكب؛ إذ يمكن أن تنخفض برودة الرياح في أعاليه إلى 60 درجة مئوية تحت الصفر.. أي متوسط درجة الحرارة نفسه تقريبًا على سطح المريخ.
ومع ذلك، كانت تلك اللحظة حلمًا لطالما انتظره "مينجما جي.". فحتى عندما كان يحاول بجهد جهيد رفس رقعة من الجليد بقدمه اليمنى الخدرة في محاولة مستميتة لدرء لسعة الصقيع عنه، كان يعلم أن بعض زملائه في الفريق يعكفون على تثبيت أجزاء من الحبال على الجبل باستخدام مجموعة من براغي الجليد ومسامير التعليق وأوتاد الثلج لِيُقيموا مسارًا آمنًا يمْكن ارتياده لبلوغ القمة.
وكان معظم متسلقي الجبال المحنّكين يرون أن التفكير في تسلق جبل "كي 2" خلال فصل الشتاء هو ضرب من الجنون. فقد حاولت ست بعثات بكامل عُدَّتها تحقيق هذا الإنجاز، لكن لم يستطع أَيٌّ منها الاقتراب من القمة؛ إذ انتصبت تحديات كثيرة يستعصي التغلب عليها: هبوب رياح تماثل قوتها قوة الأعاصير وغير قابلة للتنبؤ بها ويمكنها أن ترمي مجموعة من المتسلقين المثبَّتين بالحبال في لمح البصر؛ والانهيارات الصخرية والجليدية التي تهدر كدوّي المدفعية؛ وتناقص الهواء الذي يحرم الرئتين من تدفق الأوكسجين ويشوش على الذهن؛ والبرد القارس الذي لا يرحم. فكانت حتى أكثر الفرق عزمًا وخبرة تُصاب بفتور في حيويتها وهِمتها في ظل هذه الظروف القاسية؛ إذ غالبًا ما كانت الضغوط والمخاطر تشتت وحدتها بفعل النزاعات الشخصية والمسائل المتصلة بالقيادة.
وفي الأشهر الأخيرة من عام 2020، وصل نحو 60 متسلقًا إلى سفح جبل "كي 2" على نهر "غودوين أوستن الجليدي" القصي في الجزء الباكستاني من "سلسلة كاراكورام الجبلية"، وكانوا يتطلعون جميعهم إلى كسب الجولة الأخيرة المتبقية في تسلق الجبل الشاهق.. وربما الأصعب منالًا في هذا المجال. لكن "مينجما جي." وزملاءه التسعة -وكلهم من نيبال- كانوا يرون أن هذه البعثة لن تتيح تحقيق مجد شخصي فحسب، بل كانت فرصة سانحة لإثبات قدرة نيبال -البلد الذي يقترن اسمه بأعلى الجبال في العالم- على تحقيق ما كان يعتقد كثيرون أنه من باب المستحيلات.
بينما كان "مينجما جي." يستطلع وضعه في ذلك الوقت، بدا الطريق إلى قمة "كي 2" العصية قريب المنال على نحو مثير. لكن بأي كلفة؟ كان صاحبُنا يدرك تمام الإدراك أن تعرضه لإصابة خطيرة قد يغير مسار حياته إلى الأبد. فقدْ فقَدَ والدُه الذي كان أيضًا دليلًا جبليًا كلَّ أصابعه إلا اثنين بسبب لسعة صقيع عندما خلع قفازيه لشد أربطة الحذاء الطويل لأحد المتسلقين الأجانب في جبل "إيفرست". وماذا لو فقد أحد زملائه طرفًا من أطرافه أو لقي حتفه هناك؟ فهل يستحق بلوغ القمة تجشم هذا العناء؟ كان جواب "مينجما جي." وأعضاء البعثة بالإجماع: بلى ثم بلى؛ على أنهم كانوا يدركون تمامًا حجم المخاطر المحتملة والبرد اللاذع الذي يتسرب إلى عظامهم.

 عام 2020، كان مفهوم الإنجاز الرائد في تسلق الجبال يبدو وكأنه مفارقة تاريخية. ففي منتصف القرن الماضي، تمكن المتسلقون من اعتلاء أعلى قمم العالم كلها؛ وهي الجبال الأربعة عشر التي لا يقل ارتفاعها عن 8000 متر. ففي البداية، تحقق الصعود إلى قمة "أنابورنا 1" في نيبال عام 1950، ثم "إيفرست" و"نانغا باربات" الباكستانية في عام 1953؛ ثم استمر بلوغ القمم الباقية إلى أن سُجل أول صعود إلى جبل "شيشابانغما" في التبت عام 1964. 
شهدت تلك الفترة مسارًا محمومًا للجهود الوطنية، وحازت الفرق الأوروبية قصب السبق في غالبية الرحلات؛ على أن هذه الجبال توجد جميعها في آسيا. وإذا كانت جل البعثات في هذه الحقبة قد اعتمدت على القوميات المحلية، بمن فيها "الشيربا" و"التبتيون" و"البلتيون" الذين نقلوا المُعدات إلى "مخيم الانطلاق" وحملوا الأحمال إلى أعلى الجبال، فنادرًا ما اعترفت كتب التاريخ بالإسهامات الحقيقية لهؤلاء الشركاء الذين لا غنى عنهم.
وبعد تحقيق أولى إنجازات التسلق البارزة تلك، جاء متسلق الجبال البولندي، "أندريه زوادا" بِتَحدٍّ جديدٍ. فقد كان تسلق كل هذه القمم ذات الـ 8000 متر فما فوق- يتم خلال فصل الصيف، عند توفر أفضل الظروف. وخلص "زوادا" إلى أن التحدي الأصعب يكمن في تسلقها شتاءً حيث تشهد أقسى ظروف طبيعية على الإطلاق. وهكذا قاد صاحبُنا بعثةً أوصلت متسلقَين اثنين إلى قمة "إيفرست" في شتاء عام 1980 وبوَّأت بولندا مركز الصدارة من خلال سلسلة تاريخية من أولى عمليات التسلق الشتوية. ومن ثم تتالت إنجازات اعتلاء هذه القمم، الواحدة تلو الأخرى، لكن قمم باكستان قاومت بعناد متسلقي الجبال في فصل الشتاء حتى القرن الحادي والعشرين. ذلك أن "سلسلة كاراكورام الجبلية" التي تقع على خط العرض ثماني درجات شمال القمم النيبالية تتسم بأجواء تغلب عليها شدة البرودة والرياح خلال فصل الشتاء. وقد استنفدت 31 محاولة قبل أن يتحقق الصعود في آخر المطاف إلى قمة "نانغا باربات" عام 2016، ولم يتبق سوى "كي 2".
على الرغم من أن "إيفرست" يطغى على جبل "كي 2" في وسائل الإعلام المشهورة، فإن متسلقي الجبال الجادين يعدّونه تحديًا أصعب بكثير؛ وذلك لعدة أسباب، منها بُعده الشديد. فعندما كان أعضاء فريق الاستطلاع البريطاني يسجلون أولى الارتفاعات في قمم "كاراكورام" عام 1856، استبدلوا أسماء محلية بمُسمّيات الاستطلاع الخاصة بهم. فَجَبل "كي 1"، على سبيل المثال، عُرف بالاسم المحلي "ماشربروم". لكن جبل "كي 2" لا يُرى حتى من أقرب قرية -وهي "أسكول" التي يستغرق السير منها إلى سفح هذا الجبل أسبوعًا كاملا- لذا لم يُطلق عليه أي اسم محلي.
وبعد أربعة أيام من المشي فوق التضاريس الوعرة، لاح جبل "كي 2" من جهة الجنوب بشكله الهرمي المعروف مثل رأس سهم موجه نحو السماء. وسرعان ما لاحظ المتسلقون شدة انحداره، لاسيما قرب القمة؛ ما يعني أن كل خطأ يتضخم ليفضي بصاحبه إلى عواقب تكاد تكون مميتة. فإذا تعثر المتسلق بحذائه المسماري أو تشبث بحبل غير مأمون عن طريق الخطأ، فمن غير المحتمل أن يتوقف عن السقوط إلى أن يصطدم بالنهر الجليدي الذي يوجد على بعد آلاف الأمتار باتجاه الأسفل.
وإذ إن هامش الخطأ يتقلص على نحو أكبر في فصل الشتاء، يظل النجاح، أو بالأحرى النجاة، رهنًا بالمتطلبات اللوجستية: التخطيط لأسوأ الظروف والسيناريوهات المرعبة. فنادرًا ما يتخذ المتسلقون عند تسلق القمم المهيبة، من قبيل "إيفرست" و"كي 2"، اتجاهًا خطيًا واحدًا؛ بل إن الفرق تتحرك بوجه عام باتجاه أعلى الجبل وأسفله، وتتأقلم مع الارتفاعات الشاهقة أثناء إقامة شبكة من الحبال الثابتة والمخيمات المجهزة بالمُعدّات الضرورية كعبوات الأوكسجين والخيام والحبال. وخلال الأعوام الأخيرة، ساد أسلوب التسلق الأسرع والأخف، لكن تسلق "كي 2" شتاءً يتطلب جهدًا جماعيًا من الطراز القديم: إذ ينبغي للأفراد نقل العديد من الأحمال الثقيلة فوق التضاريس الخطرة. وينبغي اتباع النمط القديم للعمل الجماعي.

"مينجما جي." من العمر 33 عامًا وله مَنْكِبان عريضان وقامة تبلغ 175 سنتيمترًا، وهو طول غير معتاد لدى أهالي قومية "الشيربا". غالبًا ما يسدل كتلة شعره الكثيفة لتمتد إلى أسفل ياقته فيُحيل مظهره على موسيقيي الروك في سبعينيات القرن الماضي. ويميل إلى النظر في عين مُحدِّثه ويتميز بقدرة على النفاذ مباشرة إلى صلب الأمور؛ ما يُضفي أهمية على كلامه.
نشأ "مينجما جي." في "رولوالينغ"، وهو واد ضيق يقع غرب "إيفرست"، ويبعد عن "وادي خومبو" الذي يعج بالحركة، لكن رولوالينغ أنجبَ بعضًا من أشهر أدلّاء الشيربا الجبليين. وشَبَّ "مينجما جي." على سماع أبيه وأعمامه (الذين عملوا أدلّاء أيضًا) وهم يسردون الحكايات عن "إيفرست" حول موقد المطبخ خلال ليالي الشتاء الباردة. ولم تكن تلك القصص عن متسلقي الجبال الأجانب الذين كانوا يتوافدون إلى نيبال في كل فصل ربيع بقدر ما كانت تتمحور حول أبطال نشأوا محليًا مثل "باسانغ لامو" (من الشيربا) التي أصبحت في عام 1993 أول امرأة نيبالية تبلغ قمة "إيفرست" وتوفيت وهي في طريقها إلى أسفل الجبل؛ وابن عمه "لوبسانغ جانغبو" (من الشيربا) الذي ساعد المتسلقين خلال كارثة عام 1996 التي اشتهرت من خلال كتاب (Into Thin Air) ثم توفي بطريقة مأساوية بعد أربعة أشهر على ذلك.
وعندما بلغ "مينجما جي." سن التاسعة عشرة في عام 2006، أخذه عمه في أول رحلة له إلى "مناسلو". وفي العام التالي، وصل إلى قمة "إيفرست" خلال الفترة التي كان يعمل فيها لدى تاجر فرنسي في بيع مُعدّات التسلق؛ وبحلول عام 2011، كان يتولى بنفسه تنظيم رحلاته وقيادتها. وكانت تلك سنوات عصيبة. فخلال الفترة الممتدة من عام 2001  إلى عام 2008، أحكمت ثورة ماوية عنيفة قبضتها على نيبال، وآثر العديد من متسلقي الجبال الأجانب عدم الاقتراب من البلد. لذلك كانت المنافسة على أشدها بين الأدلاء لتقديم خدماتهم للقلة القليلة من المتسلقين الذين تجرأوا على القدوم إلى نيبال.
وفي موسم شتاء 2019-2020، تولى "مينجما جي." الإعداد لترتيبات محاولته الخاصة بأول تسلق شتوي لقمة "كي 2" رفقة ثلاثة متسلقين دفعوا المال لقاء ذلك. كانت الحياة في المخيم الأساسي (ويقع على ارتفاع 4960 مترًا، أي أعلى بنحو 550  مترًا من جبل ويتني، وهو أعلى نقطة في الجزء القاري من الولايات المتحدة) تجربة مريرة وقاسية في حد ذاتها. فقد كتب "مينجما جي." إلى الصحافي المتخصص في تسلق الجبال، "آلان أرنيت": "عندما كنا نغسل ملابسنا، كنا ننتظر أكثر من أسبوع لتجف، ما لم نضعها على السخّان الغازي أو الموقد".
بعد وصول "مينجما جي." إلى "مخيم الانطلاق"، أصيب في جهازه التنفسي العلوي، فاضطر للانسحاب من البعثة. لكن لم يمض وقت طويل حتى بدأ التفكير في معاودة المحاولة.
ثم حلت جائحة "كوفيد19-". فقد عشرات الآلاف من الأدلاء والحمّالين والطهاة موردَ عملهم على امتداد منطقة الهيمالايا. ففي غضون أسابيع قليلة من عودة "مينجما جي." من "كي 2"، أُلغي كل ما بُرمج على مرّ عام كامل من رحلات التسلق المصحوبة بأدلّاء، ولم يتبق له أي مورد رزق إلا مشروع صغير يحتاج إلى دعم. حاول إقناع بعض أصدقائه بخوض محاولة أخرى لتسلق "كي 2"، لكن لم يرغب أي أحد في إنفاق 10 آلاف دولار للحصول على تصريح لا يتيح الوصول إلّا إلى مخيم الانطلاق، فضلا عن عشرات آلاف أخرى من أجل رحلة بالحد الأدنى من العناصر الأساسية.
فكَّر "مينجما جي." في التراجع عن فكرته، لكن أمرًا ما كان يقض مضجعه. فقد كان "تينسينغ نورغي"، (من الشيربا) أحد أول شخصين وقفا على قمة "إيفرست"، ومع أنه كان بطلًا قوميًا تُعلَّق صورتُه بفخر داخل عدد لا يحصى من المنازل النيبالية، فقد حقق هذا الإنجاز بالتشارك مع "إدموند هيلاري" من نيوزيلندا. فكان المتسلقون النيباليون جزءًا من عمليات التسلق الرائدة الأخرى، ولكن لم يحقق أي منهم إنجاز أول تسلق بكل مراحله، بالاعتماد على نفسه. وتعليقًا على ذلك، يقول "مينجما جي.": "عندما بحثت في موقع ويكيبيديا، لم أجد أي عَلَم نيبالي في قائمة الرواد الذين تمكنوا من تحقيق تسلق شتوي لإحدى القمم التي لا يقل علوها عن 8000 متر. وأدركتُ أنه إذا فشلنا في بلوغ "كي 2" فسنفشل في بلوغ كل تلك القمم".
أدرك أنه سيكون عليه إنفاق المال، وإن تطلب الأمر رهن قطعة الأرض التي كان قد اشتراها في مدينة كاتماندو، وتمثل معظم مدخراته. تمكن من توظيف شقيقين، هما "كيلو بيمبا" و"داوا تينجين"، وكلاهما يكبرانه سنًّا، إضافة إلى زوجتيهما وأطفالهما المراهقين.. وعقود من الخبرة في تسلق الارتفاعات الشاهقة.
لكن عائلتيهما أبدتا بعض التحفظات. إذ يتذكر "مينجما جي." -الذي لم يسبق له الزواج- الأمرَ قائلًا: "وجدت صعوبةً كبيرة في إقناع زوجتَي كيلو بيمبا وداوا تينجين. إذ قالتا: 'إذا مات زوجانا، فسنأتي لنقيم في منزلك وسيكون عليك إطعامنا'. هنالك أصابني الذهول.. والقلق الشديد".
ثم ما لبثت أن ظهرت مشكلة أخرى. فبعدما أمضى "مينجما جي." أعوامًا في رحلات متتالية وتلبية متطلبات إدارة مشروعه، كان عليه مواجهة حقيقة مروعة للشيربا: لم يكن في كامل لياقته البدنية. لكن خلال مكوثه في كاتماندو بانتظار أن تنحسر الجائحة، بدأت امرأةٌ من عائلته تُقنعه بالخروج للمشي مسافات طويلة وركوب الدراجات. يقول عن ذلك: "فقدت كيلوجرامات كثيرة وبدأت أشعر بأني أسترجع قوتي".
لم يكن "مينجما جي." الشيربا الوحيد الذي يضع جبل "كي 2" نصب عينيه. فقد أدرك ثلاثة أشقّاء ("مينجما" و"تاشي لاكبا" و"تشانغ داوا"، المالكون الرئيسون لشركة "سيفن سامِت تريكس" المتخصصة في تنظيم رحلات التسلق) أن باكستان كانت إحدى وجهات تسلق الجبال القليلة التي لا تزال مفتوحة في جبال آسيا الشاهقة. واستطاعت هذه الشركة، من خلال تقاضي أتعاب أقل من أتعاب الشركات الغربية، إثبات وجودها بصفتها إحدى أنجح شركات تنظيم الرحلات الاستكشافية المملوكة لأفراد الشيربا، وقد دأبت على إيفاد إحدى أكبر المجموعات إلى قمة "إيفرست" خلال كل موسم. وفي ربيع عام 2021، بادرت الشركة، بعد أن استحضرت عامها الكارثي الموسوم بإلغاء الحجوزات، إلى نشر استبيانات على وسائل التواصل الاجتماعي لاستقصاء رغبة المتسلقين في تنظيم رحلة شتوية إلى "كي 2". وسرعان ما حُجزت رحلة واحدة بالكامل بمتسلقين من روسيا وإسبانيا وآيرلندا وتركيا والمملكة المتحدة.

في 21 ديسمبر 2020، وهو أول أيام الشتاء في التقويم، بدأ "مينجما جي." وزميلاه رحلة التسلق إلى جبل "كي 2". وبعد مرور عدة أيام، أقاموا مخيمهم على ارتفاع 6900 متر، أسفل موقع يُعرف باسم "الهرم الأسود"، وهو كتلة شبه عمودية من الصخور المتداعية؛ وكان ذلك أول التحديات التقنية الرئيسة التي واجهوها. إذ كان عليهم مكابدة يوم كامل من التسلق الدقيق بالحُزم الثقيلة للوصول إلى "المخيم الثالث" الذي يُعدّ منصة الانطلاق لأي محاولة جادة لبلوغ القمة. لكن مشكلة أخرى كانت بانتظارهم: نقص الحبال.
كان "مينجما جي." يعرف أن العديد من فِرق التسلق كانت تتأقلم مع متغيرات الطقس في المخيمات الموجودة أسفلهم، بمن في ذلك فريق نيبالي آخر بقيادة جندي سابق بالقوات الخاصة ذي شخصية جذابة تَحَول إلى متسلق، واسمه "نيرمال بورجا" لكنه اشتهر بلقب "نيمز". وقد سبق أن التقى "نيمز" و"مينجما جي." لقاءً عابرًا؛ إذ يقول هذا الأخير عن ذلك: "لم يكن هناك أي تعارف رسمي، بل تصافحنا في إحدى المرات، وقلت له: 'أنا مينجما جي'.. وطبعًا لم يكن من الضروري أن يُقدم نفسه".
حدث ذلك في عام 2019 عندما كان "نيمز" يخوض غمار رحلة لتسلق كل قمم العالم الأربع عشرة التي لا يقل علوها عن 8000 متر خلال مدة قياسية لم تتجاوز ستة أشهر وستة أيام. استأثر هذا الإنجاز باهتمام وسائل الإعلام، فتحول نيمز من اسم مغمور نسبيًا إلى معشوق على منصات التواصل الاجتماعي.
وفي واقع الأمر، كان من الطبيعي أن تثور في دواخل الرجلين بعض مشاعر التنافس. فقد كان كلاهما قائدين مقتدرين للغاية وفي أوج لياقتهما البدنية، وكانا خبيرين في ركوب أحد أشد المخاطر في العالم. لكن أساليبهما تباينت تباينًا كبيرًا: إذ كان يغلب على "مينجما جي." التحفظ والجدية؛ أما "نيمز" فكان معتدًا بنفسه ومرحًا، وقد أخبر -سلفًا- متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي -حسبما كان متوقعًا- عن هدفه المتمثل في أن يكون أول من يصل إلى قمة "كي 2" شتاءً.
ومع ذلك قرر "مينجما جي." الاتصال بنيمز عبر جهاز اللاسلكي ليسأله إن كانت لديه حبال إضافية. كان فريق نيمز قد وصل لتوّه إلى الجبل ولم يكن أفراده قد تأقلموا بعدُ مع المتغيرات الجوية، إلا أنهم تطوعوا لمد بعض الحبال إلى أعلى الجبل إلى فريق "مينجما جي.". وتجاذب الفريقان أطراف الحديث أثناء تناول الشاي في صباح اليوم التالي في المخيم الواقع أسفل "الهرم الأسود" مباشرة.. واكتشفا أن كليهما لم يجلبا متسلقين أجانب. ومن ثم حدتهم الرغبة جميعهم في بلوغ القمة وحدَهم.
وفي اليوم التالي، سار الجميع على طول الطريق نزولا إلى مخيم الانطلاق لاسترجاع حيويتهم. بدت السماء الرمادية وكأنها ترشح كل الألوان من النهر الجليدي، وأبدت ريح قوية إصرارًا على إرسال تيارات من بلّورات الجليد بين الخيام التي تخفق في حناياها. كان ذلك في 31 ديسمبر، ومع وجود توقعات وشيكة بسوء الأحوال الجوية، كان الوقت قد حان للحصول على قسط من الراحة.. إن كان ذلك ممكنًا في هذا المكان الموحش غير المضياف.
في ذلك المساء، عرّج "نيمز" على خيمة "مينجما جي." لدعوة هذا الفريق المنافس للاحتفال بالعام الجديد. لم يكن مزاج "مينجما جي. " يسمح له في بادئ الأمر بالذهاب، لكن "نيمز" أوفد اثنين من زملائه في الفريق لإقناعه بالانضمام إلى الاحتفال.
عندما يَنزع "نيمز" عنه مُعدّات تسلق المرتفعات العالية، تبدو عليه مظاهر الفتوة والشباب إذ يخفي خدّاه الناعمان ونُتف شعر وجهه سنواته السبع والثلاثين. فهذا الجندي السابق يفتخر بكونه دائمًا على أتم الاستعداد. قال لي: "هذا أمر يتعلمه المرء في الجيش، يا صاح"، ثم تابع كلامه الذي تتخلله كلمات بالعامية يَرُوج ذكرها في الحانات الإنجليزية، قائلًا: "لكل أمر خطة احتياطية. ولخططي الاحتياطية خطط احتياطية، يا رجل". وعندما وصل فريق "مينجما جي." إلى الحفل، قام "نيمز" على الفور بفتح قنينات الشراب. وسرعان ما انخرط الجميع في الرقص ومناقشة أحوال الطقس والخطة.
لا ينتمي "نيمز" إلى قومية "الشيربا" بل إلى "الماغار"، وهي مجموعة عرقية أصلية من التلال الوسطى لنيبال. نشأ في منطقة شيتوان قليلة الارتفاع والتي تشتهر بالفيَلة والببور أكثر من اشتهارها بالجبال المكسوة بالثلوج. وفي سن الثامنة عشرة، التحق بـ "لواء الجوركا"، وهو لواء مكون من الجنود النيباليين ظل تابعًا للجيش البريطاني بوصفه من بقايا الإمبراطورية البريطانية. فالانضمام إلى "الجوركا" يظل -إلى جانب العمل دليلًا جبليًا- من أفضل الفرص المهنية المتاحة للرجال النيباليين الطموحين، إذ يتقاضى جنود "الجوركا" رواتب مساوية لرواتب الجنود البريطانيين ولهم الحق في الحصول على الجنسية البريطانية.
بعد أن أمضى "نيمز" ستة أعوام في "الجوركا"، انضم إلى "دائرة القوارب الخاصة"، وهي وحدة شبيهة بقوة العمليات الخاصة للبحرية الأميركية، (SEAL). قال في مقابلة أُجريت معه عام 2019: "دعوني أكتفي بالقول إنني عُيِّنتُ في مناطق حساسة؛ هذا كل شيء". لكنه يستفيض في كتابه الأخير في مناقشة تجاربه العسكرية، بما في ذلك تبادل لإطلاق النار أصيب خلاله بعيار ناري في وجهه.
ويقول "نيمز" بنبرة متأملة: "في القوات الخاصة، ما تقوم به.. يشعرك بأنك لا تُقهر. لكن بعد أن ذهبت إلى الجبل، اتضح جليًا أن لِقوى الطبيعة رأيًا مخالفًا". في عام 2019، استقال من الجيش ليصبح متسلق جبال محترفًا ويتابع مشروع حُلمه: تسلق كل القمم الأربع عشرة التي لا يقل علوها عن 8000 متر في سبعة أشهر. كانت هذه الفكرة قد طُرحت من قبل، لكن لم يخض أي أحد غمار هذا التحدي بجدية.
أطلق "نيمز" على مسعاه ذاك، اسم "المشروع الممكن" ثم وظَّف طاقمًا من الأدلّاء النيباليين المحنَّكين للمساعدة في إعداد المسالك والتسلق معه، على غرار ما يقوم به كل فريق مشارك في "طواف فرنسا للدراجات" حيث يتوزع الدراجون لنَظم إيقاع قائدهم. وكان كلما بلغ قمةً، توجَّه مباشرة إلى التي تليها، مستعينًا بمروحية في بعض الأحيان؛ ما أتاح له الحفاظ على تأقلمه مع ارتفاعات أعلى. ولم يتردد في استخدام عبوات الأوكسجين، واعتمد في بعض الأماكن على الحبال التي ثبتتها فرقٌ أخرى؛ وهو ما قال عنه النقّاد الصارمون في مجال التسلق إنه قلل من أهمية الإنجاز.
وبعد مرور أكثر من عام على ذلك، ضم فريقه الخاص بجبل "كي 2" أحد العناصر المخضرمة الأساسية في تلك المجموعة، وهو "مينجما ديفيد" (من الشيربا)، الدليل الرشيق ذو الواحد والثلاثين ربيعًا واليد اليمنى لـ "نيمز". أمّا أكبر رجل في الفريق الجديد فكان هو "بيم شهيري" البالغ من العمر 42 عامًا، وهو من الشيربا المتحدرين من "رولوالينغ" ويتمتع بخبرة 20 عامًا في تسلق "إيفرست". ووظف "نيمز" أيضًا "داوا تيمبا" و"مينجما تينزي" (من الشيربا معًا) وكلاهما من متسلقي الجبال ذوي الخبرة العالية. أما آخر عضو في الفريق فهو أصغرهم: "غيلجي" (من الشيربا) وهو دليل يبلغ من العمر 28 عامًا ويتمتع بحس دعابة سرعان ما تسري عدواه إلى محدثيه.
بينما كان "غيلجي" يسرد النكات وينسق الموسيقى التي خيّمت على أجواء حفلة ليلة رأس السنة الجديدة، بدأت فكرة تسري بين الفريقين: لِمَ لا نوحد قوانا؟ كانت المكاسب واضحة، كما يقول "شهيري" متذكرًا: "لقد سرَّع ذلك من وتيرة العمل، وبدأنا نعمل معًا. وأصبح الأمر أكثر يُسرًا لأننا كنا جميعنا نيباليين".
يشتهر أفراد "الشيربا" الذين يعملون في تسلق الجبال بهدوء طبعهم عمومًا، ويتحلون بحس الانفصال عن الأشياء المادية الذي يُعد من صميم التعاليم البوذية؛ إذ يجعلهم ذلك ثابتين أمام شدائد الحياة. لكن هذه المهنة تلحق بهم ضررًا بالغًا. فبالإضافة إلى ما يكابدونه من ألم بدني (وجوه تلفحها لسعات الصقيع، والتهاب المفاصل، ومشكلات الظهر المزمنة) فقد فقدوا جميعهم أصدقاء وأقارب بسبب تسلق الجبال. وقد كانت الأعوام السبعة الماضية أشد وقعًا عليهم. إذ أدى انهيار ثلجي في عام 2014 إلى مقتل 16 من أفراد الشيربا الأكثر تمرسًا في "إيفرست"، وتوقف موسم التسلق؛ وفي عام 2015 أودى زلزال بحياة 19 شخصًا في "مخيم الانطلاق" على "إيفرست" وزهاء 9000 شخص في أنحاء نيبال. وكلفتهم الجائحة سنة أخرى من العطالة. وذاقوا أيضًا المرارة التي تصاحب مهنةً غالبًا ما يقابَل صاحبها بالجحود؛ إذ يقول "مينجما جي.": "تعترف قلة من المتسلقين الأجانب بمساعدتنا ولا تصفنا إلا بكوننا حمّالي الارتفاعات الشاهقة ونَكِرات مجهولي الهوية، أو تتظاهر بعدم وجودنا. فكأنهم يعتقدون أننا لا نقرأ مقالاتهم".
ثم تنامت أجواء التوتر مع ميل متعهدي التسلق النيباليين إلى الحصول على حصة إضافية من تجارة الإرشاد الجبلي المربحة التي هيمنت عليها الشركات الأجنبية منذ أعوام؛ إذ يقول "مينجما جي.": "نحن هم السكان المحليون، ولنا خبرة أكبر مما لدى شركات الإرشاد الأجنبية". فهو يقر بوجود منافسة شرسة في أوساط المتعهدين النيباليين، لكن "90 بالمئة من المتسلقين الأجانب لا يثقون إلا بالشركات الأجنبية".
وكان من شأن تحقيق أول تسلق إلى قمة "كي 2" في فصل الشتاء أن يثير الانتباه إلى أن النيباليين ماضون في أخذ مكانهم الصحيح المستحق، لا بصفتهم مشاركين، بل بوصفهم قادة في عالم تسلق الجبال. وقال لي "نيمز" في وقت لاحق: "كنا نريد أن نحقق إنجازًا من أجلنا ومن أجل التاريخ. لقد كان العمل ضمن فريق موحَّد أمرًا لا يحتاج إلى التفكير".
استيقظ "مينجما جي." في أول أيام السنة وآثار الثمالة لا تبارحه. فعلى الرغم من درجات الحرارة المتدنية دون الصفر، كان النوم قد غلبه في خيمته حتى قبل أن يندس داخل كيس نومه. وما لبث أن سمع صوت "نيمز" على جهاز اللاسلكي وهو يدعوه مجددًا إلى مخيَّمه لتناول الشاي. فلقد كان لديهما الكثير من الخطط التي ينبغي مناقشتها.
تتردد بين أفراد الشيربا مقولة تفيد بضرورة الحصول على مباركة الجبل حتى يسمح لفريق المتسلقين بالوصول إلى قمته والعودة منها سالمين. وهذا هو السبب الذي يدعو كل بعثة متجهة إلى جبال الهيمالايا إلى أداء طقوس "البوجا": الطلب إلى آلهة الجبال السماح بالصعود والمرور الآمن. لكن خلال الأسبوعين الأوليين من عام 2021، كان من الواضح الجلي أن جبل "كي 2" لم يكن مستعدًا للترحيب بأي إنسان ليقترب من قمته. فقد ظلت الرياح تُمشّط الجبل على مَرّ أيام بسرعة بلغت 160 كيلومترًا في الساعة وهوت بدرجات الحرارة إلى ما دون الصفر بكثير في مخيم الانطلاق؛ ما أجبر الجميع على التحصن داخل خيامهم.
عندما خفّت سرعة الرياح قليلًا، سارع فريق "نيمز" إلى المخيم الثاني للوقوف على حالة مُعدّاتهم. "لقد كان مشهد حطام"، كما كتب "نيمز" على "إنستغرام". فقد عصفت الرياح بكل العتاد الذي تركوه للتسلق إلى القمة: أكياس النوم، ونعال أحذيتهم الداخلية التي تسخن بالبطاريات، والقفازات الاحتياطية، والنظارات الواقية.
لكن تقارير الطقس توقعت أن تهدأ الرياح بدءًا من 14 يناير. وبعد العودة إلى مخيم الانطلاق، جُمع كثير من المُعدّات على عَجل، وانضم إلى المجموعة نيبالي آخر من الشيربا يُدعى "سونا"، من شركة "سيفن سامِت تريكس"، للمساعدة في نقلها إلى أعلى الجبل. وفي غضون ذلك، كان "نيمز" و"مينجما جي." يعيدان تقييم برنامجهما لبلوغ القمة. فبدلًا من إمضاء ليلة شديدة البرودة في المخيم الرابع -وهو المخيم الاعتيادي العالي المُقام على ارتفاع 7600 متر تقريبًا لمحاولة بلوغ القمة- خطط الرجلان للوصول إلى القمة في يوم واحد انطلاقًا من المخيم الثالث. وإذا سارت الأمور على ما يرام (مع التشديد على هذا الشرط)، فيمكنهم اعتلاء القمة في يوم الخامس عشر.
في وقت لاحق، وجَّه بعض المتسلقين في مخيم الانطلاق الاتهامَ للنيباليين بإخفاء خططهم، لضمان وصول فريق مكوَّن من النيباليين بالكامل إلى القمة، وهو اتهام لم يتردد "مينجما جي." في التصدي له خلال مقابلة مع "إكسبلوررز ويب" بالقول: "في بطولة كأس العالم لكرة القدم، لا أحد يريد بلدَه أن يخسر؟ كلا على الإطلاق. إذ يُبقي الفريق والمدرب على الخطة طي الكتمان لتحقيق النصر. لقد كان ذلك حالنا عندما كنا في كي 2".
وعندما بلغ هؤلاء النيباليون علوًا يناهز الـ 7000 متر بحلول مساء يوم الثالث عشر، انكشف السر وبدأت عدة أطراف في تسلق الجبل لتتعقبهم.
وبينما كانت تلك الفرق تستريح في صباح اليوم التالي في المخيم الثاني وسط رياح لاسعة، اندفع النيباليون إلى الأعلى باتجاه موضع أدنى بقليل من المخيم الثالث. يقول "مينجما جي.": "تدخل الطقس ليلعب لعبته الكبيرة. ففي أسفل المخيم الثالث، كانت تهب رياح شديدة، أما فوق المخيم الثالث، فلم تكن هناك أي رياح على الإطلاق".
وفي يوم الخامس عشر، انطلق "مينجما جي." وثلاثة آخرون لتثبيت الحبال في أعلى المخيم الثالث باتجاه جزء يُعرف باسم "الكتف"؛ لكن بينما كانوا يشقون طريقهم صعودًا على المنحدرات الثلجية التي بدت غير متناهية، حالت بينهم وبين مواصلة مسارهم متاهةٌ من الصدوع؛ شقوق في التضاريس الجليدية يمكن أن تبتلع البشر. وعند مسافة غير بعيدة من الموضع الاعتيادي للمخيم الرابع، اعترض سبيلهم صدع كبير، ما أجبرهم على التراجع مدة ساعات لإيجاد طريقة للالتفاف حوله. فغالبًا ما يضطر متسلقو الجبال تحت وطأة هذا النوع من التراجع المرهق والمحطم للمعنويات للتخلي عن الرحلة الاستكشافية، لكن "مينجما جي." والآخرين تابعوا مسيرهم. وبعد أن وجدوا جزءًا من كتلة ثلج صلبة -تتخذ شكل جسر ثلجي- عبر حقل الصدع، قاموا بتثبيت الحبال على طول الطريق المؤدية إلى "الكتف".
ثم قفلوا راجعين إلى المخيم الثالث وانضموا إلى بقية أفراد الفريق لأخذ قسط من الراحة المتقطعة بضع ساعات. يتذكر "غيلجي" تلك اللحظات قائلًا: "لقد واجهنا نوعًا مختلفًا من البرد يجعل المرء يشعر بالعطش وبعسر في هضم الطعام".
وفي وقتٍ ما بعد منتصف ليل يوم السادس عشر، بدأ الفريق في أخذ العُدة لمغادرة المخيم الثالث؛ ارتدى كل رجل -لأول مرة على الجبل- قناع أوكسجين للانطلاق إلى القمة.. جميعهم سوى رجل واحد. إذ كان "نيمز" قد قرر الرد على منتقديه بتسلق "الجبل الوحشي" شتاءً، وبلا أوكسجين؛ وهذا الأخير إنجازٌ تاريخي آخر سيُضاف إلى الإنجاز التاريخي الأول.. لو نجح في ذلك طبعًا. يقول: "لم أكن قد تأقلمت على نحو تام مع الأجواء. فقد عانيت لسعة صقيع أصابتني في ثلاثة أصابع. وإذا لم يكن المرء مدركًا تمامًا لإمكاناته وقدراته، فقد يفسد الأمر على الجميع".
شكّل متسلقو الجبال هؤلاء مجموعات صغيرة وشرعوا في اتّباع المسار المتجه إلى الأعلى والذي كان "مينجما جي." قد ثبت فيه الحبال بجهد جهيد، باتجاه موضع "الكتف". وقد آتت جهوده الحثيثة أكلها. فما تطلب ثماني ساعات في اليوم السابق تحقق في ذلك الوقت في زمن لم يتجاوز ثلاث ساعات وسط الظلام؛ لكن ريحًا شريرة بدأت تهب.
أَحسَّ "مينجما جي." بالوحدة واستشعر بداية لسعة صقيع، وكان على وشك إلغاء محاولته بلوغ القمة. ولكن لمّا لم يَتلقَّ أحدٌ نداءَه على جهاز اللاسلكي، لجأ إلى خياره الأخير: رفس الجليد بقدميه لتدفئتهما. "لقد نفع ذلك الأمر على نحو مذهل"، كما يقول.
وأخيرًا، نشر الفجر خيوطه الأولى فبلغت معظم المتسلقين الموجودين على "الكتف" لتمنح أبدانَهم بعض الدفء. وخفتت الريح، وعلى الرغم من استمرار درجات الحرارة المتدنية، فقد كان يومًا مثاليًا. لاح من الأعلى الجزء الأهم والأخير من المسار، ويسمّى "عنق الزجاجة"، وهو ممر متجمد يقع أسفل جدار من الجليد شديد الانحدار يُعرف باسم الكتلة الجليدية البرجية. أما خارج هذا الممر، فسيواجه المتسلقون منحدرات سهلة تُفضي إلى القمة؛ ولكن لو انهار جزء من الكتلة الجليدية البرجية أثناء وجود أحدهم في "عنق الزجاجة"، فمن المحتمل أن تودي بحياة أي شخص تحتها. ويمتد على رقعة أسفل الممر حقلٌ تنتشر فيه كتل جليدية لكلٍّ منها حجم ثلاجة.
قاد "مينجما تينزي" و"داوا تينجين" الفريق عبر هذا الممر الغادر، وقاموا بتثبيت الحبال خلفهم ليتبعها الآخرون. وبينما كانوا يشقون طريقهم أعلى الجبل، كان صوت الصخور الصغيرة وهي تتساقط يقعقع في أسفل الممر، فتضرب خوذة هذا المتسلق أو ذاك بين حين وآخر. لكن لم يكن بوسعهم القيام بأي شيء حيال الأمر سوى مواصلة تسلقهم. ومع اقتراب المجموعة من القمة، لم يكن لا "مينجما جي." ولا "نيمز" في المقدمة. فقد كانت هذه المهمة قد أسندت
لـ"مينجما تينزي"، وهو متخصص في تثبيت الحبال يبلغ من العمر 36 عامًا ويُعرف بابتسامة مرحة وسِنٍّ ذهبية. فقاد الفريق خلال تلك الساعات القليلة المتبقية وكان بإمكانه بلوغ القمة قبل الآخرين، لكنه توقف أسفل منها بمسافة قليلة. صعد المتسلقون بثبات، واحد تلو واحد، للالتحاق به. وبذل "نيمز" جهدًا جهيدًا وسط الهواء المتجمد ونقص الأوكسجين، إذ كان يلتقط نفَسين أو ثلاثة في كل خطوة. وبينما كانت أشعة الشمس تلمع على الغطاء الثلجي الخفيف الذي يكسو النقطة الثانية علوًّا على الكوكب، تجمع المتسلقون في مجموعة واحدة. كان الوصول الجماعي إلى القمة من بنات أفكار "نيمز"، وعندما تجمَّع المتسلقون العشرة جميعهم، شبكوا أذرعهم ثم واصلوا سيرهم بخطوات مُجهدة ومتثاقلة نحو القمة. ورويدًا رويدا، بدأت أصواتهم المفقودة من أثر الإنهاك تعود إليهم، ثم ما لبثت أن جرت على ألسنتهم -كما لو كانوا في حلم- كلمات من النشيد الوطني النيبالي:
كباقة من مئات الزهور ...
وشاح ثروات طبيعية لا تنتهي ...
أرض المعرفة، والسلام، والسهول، والتلال، 
والجبال الشاهقة ...
أرضنا الحبيبة والسالمة،
يحيا وطننا نيبال.

وحيـش يأبى الثبات

وحيـش يأبى الثبات

ترقُّبُ اكتشافات الديناصورات يعني أن وجهة النظر بشأنها لا تفتأ تتغير.

مــاذا لــو اختفــت الشمس.. الآن

استكشاف

مــاذا لــو اختفــت الشمس.. الآن

وُهِبنا في هذه الحياة، نحن البشر وسائر المخلوقات الأخرى، أشياء مجانية كثيرة؛ لعل من أبرزها ضوء الشمس. ولكن هل تساءل أحدٌ منّا يومًا عمّا سيحدث لو أن الشمس اختفت من حياتنا؟

لحظات مذهلة

لحظات مذهلة

يحكي مصورو ناشيونال جيوغرافيك، من خلال سلسلة وثائقية جديدة تستكشف عملهم، القصصَ التي كانت وراء صورهم الأكثر شهرة.