الهواء منبع الحياة.. والموت
كنت أطعمها بيدي، وخصوصا بعد أن أخذت ترفض الأكل أكثر من ثلاثة أيام متتالية. وقد غدا بَدنُها ضعيفًا واهنًا مما أفقدها القدرة على الحركة الطبيعية. كانت تغفو -بل تغوص في سبات عميق- بمعدل ثلاث مرات خلال الدقيقة الواحدة، فكنت أجاهد لإيقاظها في كل وقت وحين لأُدخل بضع لقيمات في فمها، كَرهًا لا طوعًا. لقد بدا الأمر مخيفًا. طلبنا سيارة إسعاف، فوصلت إلى بيتنا في وقت وجيز. ولمّا فحصها المُسعفون، أكدوا أن الأوكسجين لديها بلغ أدنى معدلاته فلا يصل إلى الدماغ بالقدر اللازم؛ وذلك أحد أعراض مرض "كوفيد-19"، الذي ثبتت إصابتها به من دون أي أعراض أخرى من التي صرنا نعرفها اليوم! هنالك سارعنا بنقلها إلى المستشفى، لتبقى تحت رحمة اللّه وجهاز الأوكسجين مدة قاربت الأسبوعين.
أسترجعُ هذه التفاصيل كل يوم بألم شديد، لكن مع حمد كثير للّه على انقضاء ذلك الحدث الأليم على خير. فوالدتي الآن تستعيد عافيتها شيئًا فشيئًا، رغم أن رئتيها ما زالتا مُجهَدَتين. ولقد كانت تلكَ تجربتي الأولى والحقيقية لمعنى أن يفقد الإنسان الهواء الطبيعي الذي يجب أن يصل إلى رئتيه ومنهما إلى أعضائه الحيوية الأخرى ليبقى على قيد الحياة.. وذلك ما أدركتُه بالتفصيل في التحقيق الرئيس لعددكم هذا عن تلوث الهواء. حسبما ورد في هذا التحقيق، الذي يحتفي بِـ"يوم الأرض" في هذا الشهر، فإن وصول الهواء الملوث -بفعل نشاطاتنا البشرية- إلى الجهاز التنفسي يسبب إجهادًا للقلب، وسرطانات مختلفة، ويكبح النمو الإدراكي لدى الطفل ويُعجّل بموت الأشخاص المُسنّين؛ فضلًا عن اقترانه بجملة من الأمراض كالسكّري والبدانة وهشاشة العظام وانخفاض معـدل الخصوبة.. وهلُمَّ عِللًا وأسقامًا. مُنطَلق هذه الأمراض ومُسبِّبها الأول هو الهواء الذي نتنفس.. هواءٌ لوّثَه بعض البشر في أماكن بعينها على كوكبنا. هواءٌ لا ندرك قيمته ونظل نتعامل معه بلا اهتمام. والحال أنه هدية ربّانية مُنِحَت لنا منذ أن أطلقنا صرختنا الأولى في الحياة؛ وأثمن بكثير مما ذُكر.. فهل من مُدَّكِر؟!