في حُب الاستكشاف
في عام 2008، كنت أخوض في بحث بشأن التحريف المعرفي (Cognitive distortion) فيما يخص إدراكنا للاتجاهات السماوية الأربعة. على سبيل المثال، عندما يقول المرءُ إنه اتجه غربًا من دبي إلى أبوظبي، فإنه في الواقع قد اتجه نحو الجنوب الغربي.
ليس لذلك تأثير عملي في حياتنا، فالإنسان بطبيعته ميّال للاختصار في الوصف؛ لكنّ تراكم تلك التوصيفات غير الدقيقة يشوّش فهمنا العلاقةَ بين المواقع الجغرافية، فينجم عنه في نهاية المطاف تحريف لواقعنا المكاني. في زمن نستخدم فيه هواتفنا الذكية للتنقل من مكان إلى آخر، اضمحلت معرفتنا الطبيعية بالاتجاهات من حولنا. ولعلي أنتمي لآخر جيل استخدم "دليل الخرائط"؛ إذ كنت أتنافس مع أصدقائي في بلوغ مَرْتَبة أسميناها "حرّيف الخرائط"، وكانت تُطلَق على ذلك الشخص الذي تُعوِّل عليه حين تقود سيارتك نحو مكان بعيد، في غياب جهاز تحديد المواقع (GPS) باهض الثمن آنذاك.
مع مرور الزمن، طورتُ عادةَ التحقق من موقعي الجغرافي حيثما كنت؛ إذ يمثل مدى معرفتي بموقع الشمال دلالةً على وعيي المكاني. أحيانًا، أمتحن بعض أصدقائي بشأن العلاقة الجغرافية بين مكان وآخر، فأتفاجأ بافتقارهم لأي نوع من البوصلة في أذهانهم! لكن دعوني أناقض بعضًا مما طرحتُ آنفًا، فأقول إن معرفة الواقع بدقة هي ما يَحُول دون استكشافه أحيانًا. يُعرَف عنّي عِشقي الكبير للمدن ومقوّماتها الحضرية؛ وذلك أساس عملي الفوتوغرافي التوثيقي. وعادةً ما أَدرس جغرافيا المدن التي أزور، بل وأستمتع باستيعاب معالم أحيائها ودروبها؛ ما يدفعني لدراسة الخرائط بتمعن. في الواقع، لا أتلذذ بتجربة أي مدينة إلا حين أضع هاتفي جانبًا، فأتجول مشيًا على القدمين فترة زمنية ممتدة على غير هدى.. لاستكشاف المجهول. وتبلغ إثارتي ذروتها حين أصل إلى مرحلة لا أستطيع فيها تخمين موقع الشمال إطلاقًا.. حينئذ أتنفس روح المغامرة مستشعرًا سيلًا من الدوبامين يسري في كياني.
يبدأ الاستكشاف الحقيقي عندما نفقد "خارطة الطريق"، وهي حالة ذهنية لا تقتصر على التجوال الجغرافي، بل تتعداها بكثير لتجعل الفرد في حالة دائمة من الفضول تجاه المجهول. استمرار هذه الحالة -بحسب خبرتي المهنية- هو مصدر مستدام لإفراز كمّ وفير من هرمونات السعادة!
يرصد هذا العدد الخاص روح الاستكشاف لدى ناشيونال جيوغرافيك، وفيه نتعرف إلى أشخاص بسطوا لنا، وما زالوا، تخوم المعرفة.. برًّا وبحرًا وجوًّا.. أرجو لكم قراءة استكشافية ممتعة.