ضرورة التسامح

كلما اطّلعتُ على فظاعة المجازر والصراعات المرتكزة على العرق والدين في أرجاء العالم، يتضح لي جليًا عبقرية القيادة الحكيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، المتجلية في غرس قيم التسامح.

تحظى أوروبا بنصيب الأسد من أسفاري خارج المنطقة العربية، وذلك انطلاقًا من اهتمامي بتاريخ العَمارة والتطوير الحضري، فضلًا عن يُسر الوصول إليها وسهولة التنقل بين مدنها من دون تحضير مسبق. قد يكون مسعى الرفاهية دافعَ كثير من الناس لزيارة "القارة العجوز"، إلا أني شخصيًا لا أرى فيه ذلك الدافع الكبير، لأسباب لا يسع المجال هنا لذكرها.

ثمة بُعدٌ آخر يَسِم ترحالي هناك، ألا وهو استكشاف الوحدة الثقافية بين أهالي ضفاف المتوسط بمختلف بلدانها. وقد دفعني ذلك إلى زيارة جنوب القارة أكثر من أي مكان آخر. وبفعل ذلك، عادةً ما أَجدُني مستغرقًا في تجربة أسلوب الحياة المتوسطي (نِسبةً إلى البحر المتوسط) الذي يطغى بثقافته أحيانًا على الهوية الوطنية لكلٍّ من تلك البلدان.. فأجدُني أنقادُ إلى زمن وحدة أراضيها في حكم الرومان.

إلا أن هذه الوحدة الثقافية تكاد تتلاشى كلما ابتعدنا عن الساحل؛ ومن مظاهر ذلك، التعددية اللغوية التي لطالما ميّزت أوروبا -تاريخيًا على الأقل- خاصة إذا ما وضعنا رقعتها الجغرافية في الاعتبار. وكثيرًا ما ارتبطت هذه اللغات بوحدة عرقية قامت على أساسها دول، وتحديدًا في شرق القارة. ولربما ترسم هذه التعددية اليوم مشهدًا حضاريًا رائعًا يَطبع تجربتنا الثقافية عند زيارتها؛ والحال أنها كانت في زمن مضى سببًا في إشعال فتيل حروب طاحنة، لا سيما في أوج الحراك القومي الذي أسهم في نشوء ظواهر تاريخية كالنازية. يُقال إن أوروبا تعلمت دروس ماضيها الدموي، مما جعل بلدانها تتجنب النزاعات المسلحة (ضمن حدودها!) لتتجه ساعيةً نحو الوحدة السياسية والاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية.

على أن تلك الصورة الوردية تكاد تتلاشى عندما نرى واقع الحال في كوسوفو من خلال أحد تحقيقات عددكم هذا. ففي ذلك البلد، ما زالت الأحداث المروعة من أواخر تسعينيات القرن الماضي تلقي بظلها الحزين على السكان حتى اليوم. فثمة جراح لم تندمل، وملفات شخصية لم تُغلق، وتداعيات سياسية لم تُحل. لعل ما يعطي الصراع في كوسوفو -وقبلها في البوسنة والهرسك- بعدًا آخر هو التعددية الدينية. فسواءً أشئنا أم أبينا، فإن هذا العنصر حاضر بقوة في العقل الجمعي للشعوب، إذ يشكل مقياسًا إضافيًا لتحديد مدى التحاقها بالركب الحضاري.

كلما اطّلعتُ على فظاعة المجازر والصراعات المرتكزة على العرق والدين في أرجاء العالم، يتضح لي جليًا عبقرية القيادة الحكيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، المتجلية في غرس قيم التسامح لدى كافة أطياف المجتمع. قد يرى البعض أن التسامحَ نتيجةٌ طبيعية للتعددية الثقافية، إلا أن ترسيخ مبادئه على نحو منهجي ورسمي يدخل ضمن رؤية نيّرة بعيدة المدى، قوامها رأس المال البشري المحوري لاستدامة نهضتها الاقتصادية والثقافية.

أرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة!