أنْ تعيش اللحظة..

قررتُ أن أتحكم في علاقتي بهاتفي، لربما يتساءل بعضكم هل أوثّق لرحلاتي أم لا. كوني أعيش اللحظة، فذلك لا يتنافى مع تخليدها بالصورة والكلمة.

ما إنْ يحل شهر ديسمبر حتى تتردد على ألسن كثير من الناس كلمات تُعبر عن سرعة مرور الوقت، وبها نستذكر حالنا قبل عام وكأنه كان يوم أمس. لكن، ما سبب شعورنا بسرعة انقضاء الزمن؟ دعوني أستعرض لكم تجربةً لربما تختزن شيئًا من الإجابة. في سبتمبر الماضي، أمضيتُ إجازة أسبوعين في إيطاليا، التي يهوي فؤادي إليها أكثر من أي بلد أجنبي آخر؛ وذلك لِما تزخر به من آثار رومانية، وفنون تعود إلى عصر النهضة، وتنوع مناخي يتيح تنوعًا في المحاصيل يتيح بدوره تنوعًا في أساليب الطهي والأطباق ضمن مناطق متقاربة جغرافيًا. عادةً ما أركز في زياراتي تلك على إقليم أو اثنين، إلا أنني في هذه الرحلة -الأولى بعد تراجع الجائحة- قررت زيارة بعض الأصدقاء الذين يقطنون مناطق مختلفة من شبه الجزيرة، وذلك وفق جدول يزاوج بين الثقافة والترفيه. ولقد كانت رحلة رائعة بكل المقاييس ولم أشعر أني بحاجة إلى تمديد زمنها؛ حتى إنّي كنت أجيب، كلما سألني الأصدقاء عنها بعد عودتي، أنها دامت أسبوعين لكنها مرّت وكأنها شهر كامل! الغريب في الأمر أننا عادةً ما نستحضر ذلك التشبيه عندما نخوض تجارب سلبية، حيث تبدو الأيام وكأنها أسابيع. لكنْ، ما وجه الشبه هنا بين التجارب الإيجابية والسلبية؟ برأيي، الانغماس في أي شيء -إيجابيًا كان أم سلبيًا- هو ما يجعلنا نُحسّ بكل دقيقة من الزمن.

وأنا أكتب كلماتي هذه، تذكرت أنّي قلت الشيء ذاته قبل عام، يومَ زرت بلدًا متوسطيًا آخر وهو البرتغال. وقد جعلني الأمرُ أتفكر بوجه الشبه بين الرحلتين. دائمًا ما أستمتع برحلاتي عبر الخوض في ثقافة المكان الذي أزور؛ وفي هاتين الرحلتين، قلّلتُ نسبيًا من استخدام هاتفي النقال، بل عزفت عن مشاركة تجاربي هناك عبر منصات التواصل الاجتماعي. فلقد قررت أن "أعيش اللحظة" بكل تفاصيلها. هنالك أدركتُ أن هاتفي سلاحٌ ذو حدين فعلًا. فهو يختصر لنا المسافات ويقلص مدى الزمن، لكنه أضحى -وبإرادتنا- أداةً تُحدد وتيرة عيشنا من دون أن تدع لنا مجالًا للتمييز بين الوتيرة المهنية وتلك الشخصية التي تحتاج إلى جرعات من الهدوء والطمأنينة؛ ما يجعل كثيرين منّا في سباق ضد الزمن لمشاركة تفاصيل حياتهم. والحالُ أنني لا أحبّذ الدمج بين الحياة الشخصية والمهنية.

وإذْ قررتُ أن أتحكم في علاقتي بهاتفي، لربما يتساءل بعضكم هل أوثّق لرحلاتي أم لا. كوني أعيش اللحظة، فذلك لا يتنافى مع تخليدها بالصورة والكلمة. امتنعتُ منذ سنين عن أخذ كاميرتي الاحترافية في رحلاتي، لأنها تَشغَل حيزًا يجعلني أفكر بالصورة أكثر من خوض التجربة. وهنا نقطة تُحسب لهواتفنا الذكية؛ فهي توفر إمكانية التقاط صور عالية الجودة نسبيًا مع تسجيل ملاحظات نصية وصوتية سريعة لا تُخرجنا من تجربتنا ولا تُشعر الذين من حولنا بانشغالنا بأمرٍ آخر.

وبمناسبة الحديث عن الزمن والصورة، فإني لا أزال مقتنعًا أن الصورة هي أفضل أداة للتأريخ. صحيح أن الفيديو يستطيع نقل محتوى لا ترصده الصور، إلا أنه يتطلب أداة تشغيل تختلف مع اختلاف التقنية. ذلك أن جل ما نرى اليوم من وسائط متعددة ستتطلب حلًّا لعرضها في المستقبل، وبها تتجلى لنا حتمية اندثار بعض من هذا المحتوى. ذلك تحديدًا ما يجعلني وكثيرًا من المصورين نؤمن بمقولة مفادها أن "الصورة ليست بصورة حتى تُطبَع"؛ إذ إن نقلها من صيغة ذات رموز رقمية إلى معلومة مطبوعة يضمن على نحو أكبر عبورها عبر آلة الزمن.

.. وذلك تحديدًا ما نقدمه لكم في هذا العدد الخاص الذي يعرض أبرز ما تم التقاطه من صور في عام 2022 ضمن عوالم ناشيونال جيوغرافيك. وقد تطرقنا هذا العام إلى تشكيلة متنوعة من الموضوعات المحلية المعنية بالطبيعة والعمران والإنسان، ضمن إطار يقدم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا يحتذى في عالمنا العربي. ولعل ذلك ما يَتلخص في صورة غلاف عددكم هذا حيث التناغم بين الطبيعة والعمران في العاصمة أبوظبي.

في هذه الأيام، تحتفي دولة الإمارات العربية المتحدة، مَهدُ المجلة التي بين أيديكم، بِـ "عيد الاتحاد" الحادي والخمسين؛ ولهذه المناسبة الغالية، نرفع آيات التهاني والتبريكات إلى قيادة دولة الإمارات وشعبها وإلى المقيمين على أرضها وزوارها. وأرجو لكم قراءة ممتعة.. وكل عام وأنتم بألف خير.