بين القاهرة.. وروما
ينجذب المهتمون بالهوية الحضرية في منطقة الخليج العربي إلى الطراز المعماري الحديث، والذي يتجسد لدينا في دولة الإمارات العربية المتحدة تحديدًا في تلك المباني التي شُيدت في سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته، أي بُعيد قيام الاتحاد. وبصفتي متخصصا في التوثيق للتراث المعماري في بلدي، فإني مهتم بعناصر هذا الطراز المُعبِّرة عن هوية المنطقة بأسلوب حديث تعجز عن تحقيقه أغلب النماذج المعاصرة.
على أنّ كثيرين ينجذبون لهذه المباني بدافع الحنين إلى ماضٍ حافل بذكريات مرتبطة بها. لا بأس بقليل من العاطفة، وإنْ كانت في بعض الأحيان تُشوش على التعامل مع التطوير العمراني بموضوعية؛ إذ أرى ضرورة إعادة النظر في الجدوى -العَمَلية والاقتصادية- من استمرار بعض هذه المباني (وأُشدد هنا على كلمة "بعض") في المشهد الحضري لمدننا. ثمة نقاش عام وجادّ يدور بشأن هذه المسألة العمرانية في دولة الإمارات؛ ما سيُفضي لا محالة إلى قرارات رشيدة تضفي على مباني مدننا طابع الحداثة دون الإخلال بالأصالة. نبقى في إطار العَمارة، لكن هذه المرة خارج منطقتنا وتحديدًا في مصر الشقيقة حيث يسافر عددُكم هذا لتقليب صفحات تاريخها العريق، ومواكبة مسيرتها نحو المستقبل في الآن ذاته.
ففي مصر إرث أثري زاخر نفيس يجعل أي قرار بتغيير المشهد العمراني غاية في الجرأة والشجاعة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو قرار نقل العاصمة الإدارية إلى موقع آخر على بعد 45 كيلومترًا شرق القاهرة. لم تكتمل بعد الملامح النهائية للعاصمة الجديدة -وكذلك اسمها الرسمي- لكنها خطوة إلى الأمام تحثنا على التطوير والانعتاق -المعقول- من كوابح الماضي، مهما بلغت عراقته. ذلك أَنّ للتاريخ قَدْره ومكانته المَرعية.. لكنَّ للمستقبل أيضًا أحكامه.
زُرتُ في الآونة الأخيرة مدينة روما، حارسة التاريخ الروماني وحاضنَته. وكما هو الحال في القاهرة، جعلتني كثرة الآثار والمزارات -والزحام- في "المدينة الخالدة" أتساءل إن كان مسؤولوها ينظرون في شأن نقل العاصمة الإدارية إلى موقع قريب. تختلف مُدن العالم من حيث العَمارة باختلاف التاريخ والحضارة؛ لكنّ للقاهرة طابعًا خاصًّا بصفتها عاصمة تجُرُّ وراءها إرثًا "إداريًا" مستمرًّا منذ أكثر من ألفية. وهي تعيش اليوم دورة حياة جديدة تحتفي بتاريخ مصر وتُترجم رؤيتَها المستقبلية على أرض الواقع الحالي.. من دون التفريط في كنزها التاريخي الغالي.
أرجو لكم سفرًا شائقًا بين دفَّتي هذا العدد!