تراثنا الغذائي
"فليأكلوا فطيرة البريوش".. قِيلت هذه الجملة في القرن الثامن عشر وقد نُسِبَت إلى "ماري أنطوانيت". وعبّرت آنذاك عن تجاهل الطبقة الأرستقراطية للصعوبات التي واجهتها طبقات المجتمع الفرنسي الدنيا في تأمين القوت اليومي. تميزت تلك الفطيرة بحلاوتها؛ ما يشير إلى أن الأطعمة الحلوة كانت من الكماليات حينها في فرنسا وأوروبا عمومًا. وفي زمننا الحالي أصبحت الحلويات فعلًا من الكماليات التي تُقدَّم بعد الوجبات الرئيسة بوصفها أطباق تحلية، أو للتلذذ بها مع فناجين الشاي والقهوة.
يحيلني ذلك إلى التفكر في مأكولاتنا التقليدية الحلوة بمنطقة الخليج العربي، مثل "القرص" (أو الممروس) و"العصيدة" و"الرنجينة". فمن الشائع هنا أن تُؤكل هذه الأطباق دائمًا بعد الوجبات الرئيسة، أو ضمن "الفوالة"، وهي وجبة خفيفة في وقت الضحى أو العصر. لكن ثمة من يرى فيها أطباقًا خاصة بالأعياد؛ وهو تصور يختزل أهميتها ويضعها على هامش تراثنا "المطبخي". والحال أن التاريخ يُثبت أنها كانت وجبات دسمة مليئة بالسعرات الحرارية، شكّلت نِعْمَ الزاد والمُعين لأهل المنطقة على العيش في مناخٍ قاس. ينسحب الأمر أيضًا على مأكولات كثيرة في العالم، لا سيما الحلويات الشحمية (البودينغ) التي كانت تُؤكل طلبًا لسعراتها الحرارية. على أنّ ما يميز مأكولات منطقتنا هو شُح المكونات التي تتكرر في عدد من الأطباق، مثل الزيت والدقيق والسكر؛ ويبقى التمر أهمها بحُكم وفرته محليًا، على خلاف المكونات الأخرى التي كان جلها يُستورَد من الخارج.
مع دخولنا أشهر الصيف، نقدم لكم تحقيقًا يتناول موسم "التبسيل"، حيث يُحوَّل بُسر التمر (وتُنطَق "بِسْر" باللهجات المحلية) إلى تمر ناضج طويل الأمد. لطالما مارس أهل المنطقة هذه العادة مع طلوع فاكهة الصيف، لكن في سلطنة عُمان يتّشح موسم التبسيل بلباس ذي أبعاد اجتماعية واقتصادية تتألق فيها جودة التمر "المبسلي". ومن أجمل تجلياته، مشاركة جميع أفراد المجتمع، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا؛ لكلٌّ دوره الخاص عبر مراحل مختلفة. دائمًا ما ظل التمر جزءًا من نظامي الغذائي الخاص. وأَجِدُني هذا العام ولأول مرة، أُدخل بضع تمرات محلية ضمن الوجبات لتكون العنصر "الحلو" بدلًا من أنواع التوت، التي على كل فوائدها الجمة، فإنها تؤرقني بمدة صلاحيتها القصيرة وأسعارها المرتفعة نسبيًا، كما أن جلها لا يُنتَج محليًا. فالتمر، فضلًا عن قيمته الغذائية العالية، يُضفي على أكلنا طابع الأصالة والعراقة وكذا الإحساس بالانتماء إلى الأرض. لذا، لا يمكننا إلا أن نشجع على الإنتاج المحلي، كي نأكل مما نزرع ونحتفي بما نقطف.. كما نحتفي اليوم مع أهل عُمان بموسم التبسيل.