أغــادر وفـي القــلب..
"مهما طالت أعمار الناس وأعمالهم إلا أنها تبقى قصيرة، ويبقى فعلها فقط هو المحدِّد لطول زمن بقاء أثرها، سواء في ذاكرة الناس أو التاريخ، الذي سينقل بدوره الأثر إلى ذاكرة أجيال مقبلة. ولأصحاب الريادة من البشر مكانة خاصة في ذاكرة الزمن، ويحفظ فعلهم ليبقى نقاط ضوء تنير الدرب للاحقين".
بهذه الكلمات استفتحتُ أولَ عدد لي منذ تسلمي مهام رئاسة التحرير لدى مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية" في عام 2013. والآن بعد إصدار مئة عدد وعدد (101)، جاء قراري الرحيل، وكلي يقين أني سرت على النهج الذي يترك أثرًا يستحق أن يروى؛ مما يجعلني أتطلع اليوم إلى تلك الأيام والأعوام التي مضت بكل اعتزاز وفخر. فلقد تمكنت وفريق العمل من الارتقاء بمجلتنا لتحظى بمكانتها المستحقة في الوسط المعرفي والفوتوغرافي بالمنطقة العربية.
خلال الأسبوعين الأخيرين من عام 2021، نظمنا أول معرض فوتوغرافي لمصوري ناشيونال جيوغرافيك العربية؛ ولأن الأثر هو الحقيقة الوحيدة الباقية بعد زوال الأحداث والشخوص وتبدّل الأمكنة، فإننا اليوم نفخر بنشأة قاعدة بيانات تشمل أكثر من ألف مصور عربي ينتمون لعائلة ناشيونال جيوغرافيك العربية، ظلت أعمالهم ترفد منصاتنا الرقمية التي بلغ عدد متابعيها حتى الآن 6.5 مليون. وتمكن الموقع الإلكتروني للمجلة -في حلته الجديدة- من اجتذاب أكثر من مليونَي متصفح. كما أننا نحتفي في هذه الأيام بإطلاق التطبيق الإلكتروني. هذا فضلًا عن إقامتنا أول معسكر شاطئي لمحبي المجلة، وهو مشروع اشتغلنا عليه طويلا وهدفْنا من خلاله إلى نقل المعارف والعلوم للناشئين وإلهامهم صونَ كوكب الأرض.
أغادر منصب رئيس التحرير حاملةً في جعبتي سيرةً حُبلى بالجهد والمثابرة والإنجازات، حيث حباني الله بهالة من النجاح والتألق والبهاء ظلت تلاحقني حيثما حللت وارتحلت. وها أنا اليومَ أنضمّ إليكم، قرّاءنا الأوفياء، بصفتي قارئة مثلكم، ولكن بإحساس المدرك تمامًا أن وراء كل كلمة وصورة جهودًا جبارة وحبًّا لا محدودًا وحرصًا شديدًا على أن يصل هذا المحتوى إلى كل قارئ في أبهى حُلّة.
أغادر وفي ذاكرتي لحظات عمل منهكة مُجهدة لأفراد فريق التحرير، عادةً ما كانت تنتهي بضحكات هستيرية يتخللها شيء من التوتر والجدال "الجميل".
أغادر وفي قلبي حنين لكل شخص من فريقي الصغير وقد توطّدت علاقتنا حتى صرنا كأفراد عائلة واحدة.
أغادر وفي ذهني قناعة راسخة أن هذه المجلة لم يَقُدها إلّا مُحبٌّ عاشقٌ لعوالمها؛ ولن يُدير دفة أمورها من بَعدُ إلا كل مجتهد صادق.
أبدأ عام 2022 بكل فخر واعتزاز بهذا الإرث الزاخر الذي تشرفت بالائتمان عليه منذ ثماني سنوات؛ واليوم إذ أُسلّم مفتاح هذا الكنز لمن سيخلفني، يغمرني الأمل بأن المقبل أجمل بكل تأكيد.
كل التقدير لفريقي الرائع.. لتلك السواعد القوية والقلوب المحبة التي أرست الأرضية التي تتحرك عليها اليوم مجلة "ناشيونال جيوغرافيك العربية".