‎عندما زرت حديقة الأزهر للمرة الأولى عام 2008 -أي بعد ثلاث سنوات على افتتاحها- لم يشر دليلي إطلاقا إلى أصل هذه المساحة الخضراء التي تبلغ 30 هكتارا، والمحاطة كليا بأكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، وتسكن قلب القاهرة. ولكن في زيارة أخرى عام...
‎عندما زرت حديقة الأزهر للمرة الأولى عام 2008 -أي بعد ثلاث سنوات على افتتاحها- لم يشر دليلي إطلاقا إلى أصل هذه المساحة الخضراء التي تبلغ 30 هكتارا، والمحاطة كليا بأكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، وتسكن قلب القاهرة. ولكن في زيارة أخرى عام 2014 كان دليلي هذه المرة شاباً متحمساً يحكي عن المكان بكل فخر، وكأنه منزله، إذ أخذ يذكر أرقام المساحات وأنواع الأشجار والزهور وعدد الزوار بكل اعتزاز. ولكن فخره بدأ يخفت عندما صرح أن هذه البقعة التي تشبه الجنة في مخيلتي، كانت في الأساس مكب نفايات في المدينة لفترة تزيد على 500 سنة. وعلى الضيق الذي شعر به صاحبنا تجاه هذه المعلومة، فقد كانت بالنسبة إلي بمنزلة السر الأعظم للمكان.
ذاك في مصر، أما في كوريا الجنوبية، فيقول "نوه سو هونغ" أحد الداعمين الأوائل لمنتزه "تشونغيتشون": "لم أكن أعتقد أن المشكلة تكمن في التمويل، بل في الإرادة"، معلِّقاً على تحويل طريق كانت من أكثر طرق مدن آسيا اكتظاظا وتلوثا، إلى واحة تتلوى في العاصمة سيؤول ناشرة على جانبيها مباهج تسر الناظرين.
ولكن إرادة من؟ منذ أربع سنوات قرأت كتاب "الطريق الوعرة" -سيرة حياة "لي ميونغ باك" رئيس كوريا الجنوبية (2008-2013)- وفيه عرفت معنى تلك العبارة.. الموضوع ليس سياسة.. إنها إرادة. السر ليس في الأدوات.. إنه الإنسان.
إذاً فالجوهر ليس ذاك الاكتشاف أو الابتكار أو الإنتاج، إنما في تلك العملية الإنسانية الأعظم التي تحدث في عقل بعض البشر وتجعلهم يستكشفون ويبتكرون ويخترعون. كل الإثارة وكل الأسئلة يجب أن تكمن هناك، حول التحولات التي تحدث داخل العقل، في طريقة التفاعل مع المحيط والمعارف، وفي إرادة صاحب العقل الذي استغل وأنتج وأضاف إلى المحيط وإلى معارفه! أتساءل باستمرار لماذا تحدث هذه العمليات في عقل أحدهم دون غيره من آلاف بل ملايين البشر. الآن لا توجد إجابات علمية محددة بهذا الشأن؛ فلم يدرك العلم بعد سبب هذه الطفرة في ذهن شخص دون سواه، ولكننا ندرك ما أحدثه ذاك العقل من تأثيرات في محيطه.
في موضوع واحات المدن، الذي يتطرق إلى جمالية المناطق الخضراء في الحواضر وأهميتها لسكان المكان الذي ابتلعته المباني، يظهر الدور الذي تؤديه شخصيات معينة في إحداث فرق في المكان والزمان. في رأيي أن الأكثر إثارة وجدارة بالاحتفاء هي تلك الملَكة الإنسانية القادرة على تحويل الأمر إلى نقيضه.. فقط إن أراد صاحبها ذلك.