إنقاذ قصص حبيــسة فـي الجـليد
في صيف عام 2022، تشكلت بلدة صغيرة ولكنها نابضة بالحياة فوق غطاء غرينلاند الجليدي الذي يكون قاحلًا في العادة. كانت صفوف من الخيام الحمراء ترفرف وسط الريح، وكانت طائرة شحن عسكرية من طراز (C-130) تأتي أحيانا لتوصيل الطعام والوقود والمُعدّات. لكن النشاط الرئيس لهذا المخيم كان مخفيًا على عمق 10 أمتار تحت السطح، في شبكة من الأنفاق التي أمضى العمال أسابيع في شقها داخل الجليد باستخدام المناشير. كان الباحثون يرتدون سترات مبطَّنة بالريش ويكدحون على مدار الساعة في هذه الأنفاق الثلجية، فيما كانت آلة حفر ضخمة تحفر عميقًا لاستخراج عيّنات أساسية وما تكتنزه من أسرار في أعماق الغطاء الجليدي. فبعض هذه العيّنات الجليدية أسطوانية الشكل لم تر النور منذ 100 ألف سنة. وهي شفافة ولا تشوبها شائبة "مثل زجاج النوافذ"، كما يقول "يورغن بيدر ستيفنسن"، عالم الجليد لدى "معهد نيلز بور" بمدينة كوبنهاغن الدنماركية، الذي أشرف، بمعية عالمة الجليد "دورثي دال-جنسن"، على عمليات المخيم اليومية. فقد صار الباحثون العاملون في القطب الشمالي والقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) يدركون أن هذا الجليد يتيح نظرة نادرة إلى الماضي، وهي نظرة سرعان ما ستختفي مع تسارع وتيرة ذوبان الجليد في القطبين بفعل تغير المناخ. لقد كانت هذه الصفائح الجليدية الشاسعة التي تغطي غرينلاند وأنتاركتيكا تُشكل رقاقات ثلجية الواحدة تلو الأخرى، حيث كانت التساقطات الثلجية الشتوية تتراكم فوق بعضها بعضًا ليتشكل الجليد بفعل الضغط التدريجي. واندمجت الجيوب الهوائية بين رقاقات الثلج تلك لتُشكل فقاعات تقلصت وتلاشت تحت الضغط الكبير، مما أتاح للجليد امتصاص مزيج من النيتروجين والأوكسجين وثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى الحبيسة فيه؛ وتلكم صورة مثالية للغلاف الجوي. وذلك هو ما يميز عينات الجليد، كما يقول "فرانك فيلهلمز"، عالم الجليد لدى "معهد ألفريد فيغنر"، وهو مركز للأبحاث القطبية في بريمرهافن بألمانيا. ويستطرد قائلًا: "يمكنك الوصول مباشرة إلى هواء عمره مليون سنة". ويمكن للعلماء، من خلال تحليل الغازات الحبيسة في الجليد، إعادة تركيب التقلبات التي شهدتها غازات الدفيئة عبر الزمن، وتتبُّعها في بعض الحالات للوصول إلى مسبباتها المحتملة كحرائق الغابات، أو زيادة نمو الغابات والأراضي الرطبة التي تمتص ثاني أكسيد الكربون، أو الوقود الأحفوري في العينات الأحدث. ويمكنهم أيضًا، من خلال قياس آثار حامض الكبريتيك والبريليوم والكلور، رؤية الانفجارات البركانية الماضية والتغيرات في سطوع الشمس، والتي يمكن أن تؤثر أيضًا في المناخ. وفضلًا عن ذلك، يمكنهم، من خلال دراسة ذرات الأوكسجين في جزيئات الماء، تقدير درجات حرارة الغلاف الجوي. ويجمع العلماء هذه المعلومات مع البيانات المستمَدة من حلقات الأشجار وعينات الرواسب في قاع البحر، لمعرفة الكيفية التي أثرت بها غازات الدفيئة في أنماط هطول الأمطار والثلوج، ومواسم الزراعة، واستقرار الصفائح الجليدية. ويمكنهم بعد ذلك تطوير نماذج حاسوبية تحدد التأثيرات الدقيقة لغازات الدفيئة وتضع تنبؤات دقيقة بشأن الكيفية التي سيتغير بها المناخ بفعل تزايد الانبعاثات.
إنقاذ قصص حبيــسة فـي الجـليد
في صيف عام 2022، تشكلت بلدة صغيرة ولكنها نابضة بالحياة فوق غطاء غرينلاند الجليدي الذي يكون قاحلًا في العادة. كانت صفوف من الخيام الحمراء ترفرف وسط الريح، وكانت طائرة شحن عسكرية من طراز (C-130) تأتي أحيانا لتوصيل الطعام والوقود والمُعدّات. لكن النشاط الرئيس لهذا المخيم كان مخفيًا على عمق 10 أمتار تحت السطح، في شبكة من الأنفاق التي أمضى العمال أسابيع في شقها داخل الجليد باستخدام المناشير. كان الباحثون يرتدون سترات مبطَّنة بالريش ويكدحون على مدار الساعة في هذه الأنفاق الثلجية، فيما كانت آلة حفر ضخمة تحفر عميقًا لاستخراج عيّنات أساسية وما تكتنزه من أسرار في أعماق الغطاء الجليدي. فبعض هذه العيّنات الجليدية أسطوانية الشكل لم تر النور منذ 100 ألف سنة. وهي شفافة ولا تشوبها شائبة "مثل زجاج النوافذ"، كما يقول "يورغن بيدر ستيفنسن"، عالم الجليد لدى "معهد نيلز بور" بمدينة كوبنهاغن الدنماركية، الذي أشرف، بمعية عالمة الجليد "دورثي دال-جنسن"، على عمليات المخيم اليومية. فقد صار الباحثون العاملون في القطب الشمالي والقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) يدركون أن هذا الجليد يتيح نظرة نادرة إلى الماضي، وهي نظرة سرعان ما ستختفي مع تسارع وتيرة ذوبان الجليد في القطبين بفعل تغير المناخ. لقد كانت هذه الصفائح الجليدية الشاسعة التي تغطي غرينلاند وأنتاركتيكا تُشكل رقاقات ثلجية الواحدة تلو الأخرى، حيث كانت التساقطات الثلجية الشتوية تتراكم فوق بعضها بعضًا ليتشكل الجليد بفعل الضغط التدريجي. واندمجت الجيوب الهوائية بين رقاقات الثلج تلك لتُشكل فقاعات تقلصت وتلاشت تحت الضغط الكبير، مما أتاح للجليد امتصاص مزيج من النيتروجين والأوكسجين وثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى الحبيسة فيه؛ وتلكم صورة مثالية للغلاف الجوي. وذلك هو ما يميز عينات الجليد، كما يقول "فرانك فيلهلمز"، عالم الجليد لدى "معهد ألفريد فيغنر"، وهو مركز للأبحاث القطبية في بريمرهافن بألمانيا. ويستطرد قائلًا: "يمكنك الوصول مباشرة إلى هواء عمره مليون سنة". ويمكن للعلماء، من خلال تحليل الغازات الحبيسة في الجليد، إعادة تركيب التقلبات التي شهدتها غازات الدفيئة عبر الزمن، وتتبُّعها في بعض الحالات للوصول إلى مسبباتها المحتملة كحرائق الغابات، أو زيادة نمو الغابات والأراضي الرطبة التي تمتص ثاني أكسيد الكربون، أو الوقود الأحفوري في العينات الأحدث. ويمكنهم أيضًا، من خلال قياس آثار حامض الكبريتيك والبريليوم والكلور، رؤية الانفجارات البركانية الماضية والتغيرات في سطوع الشمس، والتي يمكن أن تؤثر أيضًا في المناخ. وفضلًا عن ذلك، يمكنهم، من خلال دراسة ذرات الأوكسجين في جزيئات الماء، تقدير درجات حرارة الغلاف الجوي. ويجمع العلماء هذه المعلومات مع البيانات المستمَدة من حلقات الأشجار وعينات الرواسب في قاع البحر، لمعرفة الكيفية التي أثرت بها غازات الدفيئة في أنماط هطول الأمطار والثلوج، ومواسم الزراعة، واستقرار الصفائح الجليدية. ويمكنهم بعد ذلك تطوير نماذج حاسوبية تحدد التأثيرات الدقيقة لغازات الدفيئة وتضع تنبؤات دقيقة بشأن الكيفية التي سيتغير بها المناخ بفعل تزايد الانبعاثات.