الكنز الدفين الـــذي لــــم يُكـتَـــب لـــه أن يغيّر مجــرى تاريخ الرومان

قبل ألفي عام، شرع الجيش الروماني في رحلة بحث واسعة النطاق عن الفضة. وبفضل الشغف بعلوم الآثار، نكتشف الآن كم كان الرومان على وشك اكتشاف ثروة كانت لتُغير وجه تلك الإمبراطورية.

من السهل أن يمر المرء على هذا المقطع مرور الكرام. ويتعلق الأمر بحكاية لا يتجاوز طولها فقرة واحدة في حوليات المؤرخ الروماني "تاسيتوس"، تروي قصةً لم تُذكر في أي مكانٍ آخر عن قائد عسكري غير محبوبٍ يُجبر جنوده على العمل في منجمٍ وعر على حدود الإمبراطورية الرومانية. وتدور أحداث هذه الحكاية في عهد الإمبراطور "كلوديوس" (41-54 للميلاد)، في فترةٍ شهدت توسعًا هائلًا سعت خلالها روما إلى فرض سيطرتها على الأراضي الحدودية للإمبراطورية وما فيها من موارد وثروات. الموقع المذكور في فقرة تاسيتوس يشوبه غموض كثير، إذ وُصف بأنه "في مقاطعة ماتيوم"، على مشارف "جرمانيا الكبرى" الخاضعة للاحتلال الروماني. لكن الهدف واضح، وهو العثور على مزيد من ذلك المعدن الذي يمد الحكم الروماني بقوته وسطوته. فلقد كانت الفضة رائجة يتداولها النبلاء والضباط والجنود وتصب في بقية قطاعات الاقتصاد، على شكل عملاتٍ معدنيةٍ وسبائك وجواهر. ولم تكن تلك القطع المعدنية مجرد عملة فحسب، بل رمزًا لقوة حكام روما وسطوتهم إذ طُبعت على كلٍ منها صورة الإمبراطور، وتم تداولها على هذا الأساس في جميع أنحاء الإمبراطورية. وقد كان الجزء الأكبر من فضة روما يُستخرج حتى ذلك الحين من هسبانيا (وهي إسبانيا والبرتغال حاليًا)، لكن المنقبين الرومان لطالما سعوا وراء مناجم أخرى في أنحاء الإمبراطورية. وحسب رواية تاسيتوس، كان ذلك الفيلق الروماني قد "أُنهك" من مَهمة التنقيب عن المعادن التي عرفت الكثير من المشاق والمخاطر والعناء؛ فقد شمل عملهم "حفر مجاري المياه وتشييد البنى تحت الأرض، وهو أمرٌ كان من الصعب القيام به في العراء"، فما بالكم بذلك في الظلام الخانق الذي كان لا ينقطع إلا بالضوء الخافت لمصابيح الزيت. وللتعبير عن استيائهم، كتب جنود الفيلق رسالة إلى الإمبراطور يطلبون إليه الاعتراف بجهود قائدهم غير المحبوب، "كورتيوس روفوس"، وتكريمه بصفته قائدًا منتصرًا. إذ كانوا يأملون أن من شأن التكريم أن يشجع روفوس على التخلي عن ذلك المشروع الذي لم يؤت أي ثمار تُذكر. وفي النهاية، تم التخلي عن مشروع التنقيب عن الفضة، ودُمر المعسكر حيث كان يقيم الفيلق. لطالما أثارت قصة تاسيتوس فضول العلماء الكلاسيكيين، إذ لم يجدوا أي دليل أو أي ذِكر آخر لذلك المشروع. رفض بعضهم القصة ووصفوها بأنها محض انحراف -مزخرَف لكن غير قابل للتحقق- عن الموضوع. وقد وصفها "ألفريد هيرت"، من "جامعة ليفربول"، المتخصص في اقتصاد روما ومشروعات التعدين فيها، بأنها مثال على ما يُدعى "الميرابيليا" (أو الروائع)، وهي نوع من القصص العجيبة التي تُروى فقط لإمتاع القراء. لكن اكتشافًا حديثًا هَزَّ أوساط علم الآثار ويشير إلى أن تاسيتوس كان يروي قصة حقيقية. فيبدو أن روفوس ورجاله بحثوا عن الفضة بالفعل، لكنهم رحلوا قبل أن يصلوا إلى عرق المعدن الكبير. وقد بتنا نعلم الآن أنه كان هناك ما يكفي من الفضة في المنطقة لتغيير مسار الإمبراطورية الرومانية برمتها. لكن فداحة إضاعتهم اكتشافًا كان قريبًا لم تتضح إلا بعد مرور آلاف السنين، عندما ربط صياد ألماني فضولي كل خيوط القصة معًا.

الكنز الدفين الـــذي لــــم يُكـتَـــب لـــه أن يغيّر مجــرى تاريخ الرومان

قبل ألفي عام، شرع الجيش الروماني في رحلة بحث واسعة النطاق عن الفضة. وبفضل الشغف بعلوم الآثار، نكتشف الآن كم كان الرومان على وشك اكتشاف ثروة كانت لتُغير وجه تلك الإمبراطورية.

من السهل أن يمر المرء على هذا المقطع مرور الكرام. ويتعلق الأمر بحكاية لا يتجاوز طولها فقرة واحدة في حوليات المؤرخ الروماني "تاسيتوس"، تروي قصةً لم تُذكر في أي مكانٍ آخر عن قائد عسكري غير محبوبٍ يُجبر جنوده على العمل في منجمٍ وعر على حدود الإمبراطورية الرومانية. وتدور أحداث هذه الحكاية في عهد الإمبراطور "كلوديوس" (41-54 للميلاد)، في فترةٍ شهدت توسعًا هائلًا سعت خلالها روما إلى فرض سيطرتها على الأراضي الحدودية للإمبراطورية وما فيها من موارد وثروات. الموقع المذكور في فقرة تاسيتوس يشوبه غموض كثير، إذ وُصف بأنه "في مقاطعة ماتيوم"، على مشارف "جرمانيا الكبرى" الخاضعة للاحتلال الروماني. لكن الهدف واضح، وهو العثور على مزيد من ذلك المعدن الذي يمد الحكم الروماني بقوته وسطوته. فلقد كانت الفضة رائجة يتداولها النبلاء والضباط والجنود وتصب في بقية قطاعات الاقتصاد، على شكل عملاتٍ معدنيةٍ وسبائك وجواهر. ولم تكن تلك القطع المعدنية مجرد عملة فحسب، بل رمزًا لقوة حكام روما وسطوتهم إذ طُبعت على كلٍ منها صورة الإمبراطور، وتم تداولها على هذا الأساس في جميع أنحاء الإمبراطورية. وقد كان الجزء الأكبر من فضة روما يُستخرج حتى ذلك الحين من هسبانيا (وهي إسبانيا والبرتغال حاليًا)، لكن المنقبين الرومان لطالما سعوا وراء مناجم أخرى في أنحاء الإمبراطورية. وحسب رواية تاسيتوس، كان ذلك الفيلق الروماني قد "أُنهك" من مَهمة التنقيب عن المعادن التي عرفت الكثير من المشاق والمخاطر والعناء؛ فقد شمل عملهم "حفر مجاري المياه وتشييد البنى تحت الأرض، وهو أمرٌ كان من الصعب القيام به في العراء"، فما بالكم بذلك في الظلام الخانق الذي كان لا ينقطع إلا بالضوء الخافت لمصابيح الزيت. وللتعبير عن استيائهم، كتب جنود الفيلق رسالة إلى الإمبراطور يطلبون إليه الاعتراف بجهود قائدهم غير المحبوب، "كورتيوس روفوس"، وتكريمه بصفته قائدًا منتصرًا. إذ كانوا يأملون أن من شأن التكريم أن يشجع روفوس على التخلي عن ذلك المشروع الذي لم يؤت أي ثمار تُذكر. وفي النهاية، تم التخلي عن مشروع التنقيب عن الفضة، ودُمر المعسكر حيث كان يقيم الفيلق. لطالما أثارت قصة تاسيتوس فضول العلماء الكلاسيكيين، إذ لم يجدوا أي دليل أو أي ذِكر آخر لذلك المشروع. رفض بعضهم القصة ووصفوها بأنها محض انحراف -مزخرَف لكن غير قابل للتحقق- عن الموضوع. وقد وصفها "ألفريد هيرت"، من "جامعة ليفربول"، المتخصص في اقتصاد روما ومشروعات التعدين فيها، بأنها مثال على ما يُدعى "الميرابيليا" (أو الروائع)، وهي نوع من القصص العجيبة التي تُروى فقط لإمتاع القراء. لكن اكتشافًا حديثًا هَزَّ أوساط علم الآثار ويشير إلى أن تاسيتوس كان يروي قصة حقيقية. فيبدو أن روفوس ورجاله بحثوا عن الفضة بالفعل، لكنهم رحلوا قبل أن يصلوا إلى عرق المعدن الكبير. وقد بتنا نعلم الآن أنه كان هناك ما يكفي من الفضة في المنطقة لتغيير مسار الإمبراطورية الرومانية برمتها. لكن فداحة إضاعتهم اكتشافًا كان قريبًا لم تتضح إلا بعد مرور آلاف السنين، عندما ربط صياد ألماني فضولي كل خيوط القصة معًا.