هل يستطيع الطب الجنائي إيقــاف تجــارة الوحيش غير القانونية؟

ثمة تقنيــات جديدة وأساليـب مبتكـرة تعمـل، بتركيز وتدرّج وتأنٍّ، على تغيير قواعد الاشتباك فـي المعركـة ضـد التهريـب.

أثار صـوت طلقــة ناريــة انتباه حراس الغابـة إلـى حدوث أمـر غـير طبيـعي. 
فساروا عبر الغابة في "محمية ثونغ ياي ناريسوان للحياة البرية" في غرب تايلاند، ليصلوا إلى موقع مخيم تتناثر فوقه دلائل على جريمة قتل. فقد كانت جثة أيّل "نَبَّاح" ملقاة على الأرض ومضرجة بالدماء. وكانت أجزاء من ضحيتين أخريين (طائر تدرج "كاليج" ونمر أسود نادر) لا تزال تنزف على لوح تقطيع وتغلي في قِدر حساء. اعتقل الحراس أربعة أشخاص في مسرح الجريمة للاشتباه بهم في صيد أنواع محمية وانتهاك قوانين حيازة السلاح، وهي جرائم يعاقَب عليها بالسجن مدة قد تصل إلى عشرة أعوام. لكن عنصرًا معقدًا برز على ساحة الأحداث. فقد كان زعيم فريق الصيد ذاك هو "بريمشاي كارناسوتا"، قطب إمبراطورية البناء وأحد أكثر الرجال في تايلاند وجاهةً ونفوذًا. دفع كارناسوتا ببراءته، وبدا واثقًا أن محامِييه الذين يتقاضون منه أجورًا مجزية سيخرجونه من هذا المأزق. لكنه لم يحسب حسابًا لإصرار شرطة الحياة البرية التايلاندية وعزيمة عناصرها. فقد طوق الحراس مسرح الجريمة وصادروا الجثث، إلى جانب ثلاث بنادق وطلقات ذخيرة ولحم الوحيش الذي كان في القِدر، وحتى كومة من البراز البشري في وقت لاحق. ثم نُقلت الأدلة في أكياس مختومة إلى أحد المختبرات الجنائية في بانكوك حيث قام الفنيون، بإشراف "كانيتا أويتافون"، مديرة "مركز مختبرات الطب الجنائي للحياة البرية" التابع لهيئة المنتزهات في تايلاند، بتحديد تسلسل الحمض النووي للحوم الوحيش والبراز، وأجرى "مكتب الشرطة للعلوم الجنائية" اختبارات باليستية (أي دراسة الرصاصات والجروح) على الجثث. يمكن أن نشَبّه ذلك بأحد مسلسلات التحقيق في مواقع الجريمة، لكن يمكن أن يحمل في هذه المرة عنوان "في الأدغال". فلمكافحة تنامي الصيد الممنوع وتهريب الحيوانات البرية في آسيا وإفريقيا، يلجأ حُماة الطبيعة والشرطة إلى أساليب ظلت منذ زمن طويل حكرًا على جرائم القتل والاعتداءات الجنسية وغيرها من الجرائم التي يكون ضحاياها بشر. وأثبتت تقنيات استخدام تسلسل الحمض النووي، وتحليل بصمات الأصابع، والتصوير بالأشعة تحت الحمراء للكشف عن الدم، والاختبارات الباليستية وتقنيات علمية أخرى فعاليتها ضد المجرمين، بدءًا من صيادي البنغول في زيمبابوي إلى لصوص أعشاش الصقور في إسكتلندا. وقد أدى التغيير الجذري في قوانين الحياة البرية إلى زيادة الاعتماد على الطب الجنائي. ففي الماضي، غالبًا ما كان الصيادون والمهربون الذين يُقبَض عليهم في حالة تلبس يعترفون بجرمهم ويدفعون غرامة رمزية. ولكن خلال الفترة ما بين عامي 2010 و2016 التي شهدت ارتفاع عدد عمليات الصيد غير القانوني، بدأت الدول في تشديد العقوبات بقدر كبير؛ إذْ يقول "روب أوغدن"، مدير علوم صون الطبيعة لدى "جامعة إدنبرة" والمتخصص في تحليل الحمض النووي: "لقد تحولت العقوبات من غرامة قدرها 50 دولارًا لحيازة العاج، إلى السجن مدة تصل إلى 10 أعوام". وهنالك شرعَ المجرمون من ذوي الإمكانات والموارد في توكيل محامين ماهرين للدفاع عنهم في المحكمة. "كان الدفاع يقول أشياء مثل: أثبتوا أنه عاج. ولقد فشلت ملاحقات قضائية عديدة لانتفاء أدلة علمية"، يقول أوغدن. كان للأدلة العلمية التي خضعت للتحليل في مختبر بانكوك دور حاسم في تقديم كارناسوتا إلى العدالة. وحاول الدفاع التشكيك في الطب الجنائي وسلسلة حفظ الأدلة، لكن أويتافون، مديرة المختبر، لم تترك أي مجال للشك لدى القضاة بأن مجموعة كارناسوتا هي التي أطلقت النار على ذلك الوحيش. وفي عام 2019، حكمت إحدى المحاكم على هذا الملياردير بالسجن ثلاثة أعوام وشهرين اثنين وغرامة قدرها مليونَي بات (59700 دولار)، وهو حكم حظي بإشادة "الصندوق العالمي لصون الحياة البرية" بوصفه "انتصارًا للحياة البرية ونصرًا لسيادة القانون". وتأتي إدانة كارناسوتا في وقت تتعرض فيه الحياة البرية وسيادة القانون للعديد من التهديدات. فارتفاع أسعار العاج وقرون الكركدن وقشور البنغول وغيرها من منتجات الحياة البرية، مثل لحوم الوحيش، والتطور المتزايد للجماعات المتمردة ومنظمات الجريمة الدولية، والفساد المستشري على الصعيد المحلي.. كلها عوامل تضع ضغوطًا غير مسبوقة على الأنواع المهددة بالانقراض. ففي جنوب إفريقيا، قتل الصيادون المخالِفون 10334 كركدنًّا، أسود وأبيض، ما بين عامي 2006 و2024، أي ما يعادل ثلثي العدد الإجمالي لهذه الحيوانات في البلد. وينتهي المطاف بمعظم القرون في فيتنام والصين حيث تُنحَت لتصبح قطعًا مزخرفة للزينة أو تُطحَن في شكل مسحوق لبيعها، بِزَعم استخدامها لأغراض طبية. وانخفض عدد الفيلة في إفريقيا من 472269 إلى نحو 415 ألف فيل بعد أن سمحت "اتفاقية الاتجار الدولي بالحيوانات والنباتات البرية المعرضة للانقراض" -المعروفة اختصارًا باسم "سايتس"- في عام 2008 ببيع العاج إلى الصين مرة واحدة؛ مما حفز الطلب وفتح الباب على مصراعيه لتجارة ضخمة بأنياب الفيلة تحت غطاء قانوني. وقد استقرت الأرقام، لكن هذه الحيوانات لا تزال في خطر. وتُعد حيوانات البنغول والفهود الثلجية وكثير من الأنواع الأخرى معرضة لخطر شديد أيضًا. فمنظمة "الأمم المتحدة" تُقدَّر قيمة الاتجار العالمي غير القانوني بالحياة البرية في نحو 23 مليار دولار سنويًا.

هل يستطيع الطب الجنائي إيقــاف تجــارة الوحيش غير القانونية؟

ثمة تقنيــات جديدة وأساليـب مبتكـرة تعمـل، بتركيز وتدرّج وتأنٍّ، على تغيير قواعد الاشتباك فـي المعركـة ضـد التهريـب.

أثار صـوت طلقــة ناريــة انتباه حراس الغابـة إلـى حدوث أمـر غـير طبيـعي. 
فساروا عبر الغابة في "محمية ثونغ ياي ناريسوان للحياة البرية" في غرب تايلاند، ليصلوا إلى موقع مخيم تتناثر فوقه دلائل على جريمة قتل. فقد كانت جثة أيّل "نَبَّاح" ملقاة على الأرض ومضرجة بالدماء. وكانت أجزاء من ضحيتين أخريين (طائر تدرج "كاليج" ونمر أسود نادر) لا تزال تنزف على لوح تقطيع وتغلي في قِدر حساء. اعتقل الحراس أربعة أشخاص في مسرح الجريمة للاشتباه بهم في صيد أنواع محمية وانتهاك قوانين حيازة السلاح، وهي جرائم يعاقَب عليها بالسجن مدة قد تصل إلى عشرة أعوام. لكن عنصرًا معقدًا برز على ساحة الأحداث. فقد كان زعيم فريق الصيد ذاك هو "بريمشاي كارناسوتا"، قطب إمبراطورية البناء وأحد أكثر الرجال في تايلاند وجاهةً ونفوذًا. دفع كارناسوتا ببراءته، وبدا واثقًا أن محامِييه الذين يتقاضون منه أجورًا مجزية سيخرجونه من هذا المأزق. لكنه لم يحسب حسابًا لإصرار شرطة الحياة البرية التايلاندية وعزيمة عناصرها. فقد طوق الحراس مسرح الجريمة وصادروا الجثث، إلى جانب ثلاث بنادق وطلقات ذخيرة ولحم الوحيش الذي كان في القِدر، وحتى كومة من البراز البشري في وقت لاحق. ثم نُقلت الأدلة في أكياس مختومة إلى أحد المختبرات الجنائية في بانكوك حيث قام الفنيون، بإشراف "كانيتا أويتافون"، مديرة "مركز مختبرات الطب الجنائي للحياة البرية" التابع لهيئة المنتزهات في تايلاند، بتحديد تسلسل الحمض النووي للحوم الوحيش والبراز، وأجرى "مكتب الشرطة للعلوم الجنائية" اختبارات باليستية (أي دراسة الرصاصات والجروح) على الجثث. يمكن أن نشَبّه ذلك بأحد مسلسلات التحقيق في مواقع الجريمة، لكن يمكن أن يحمل في هذه المرة عنوان "في الأدغال". فلمكافحة تنامي الصيد الممنوع وتهريب الحيوانات البرية في آسيا وإفريقيا، يلجأ حُماة الطبيعة والشرطة إلى أساليب ظلت منذ زمن طويل حكرًا على جرائم القتل والاعتداءات الجنسية وغيرها من الجرائم التي يكون ضحاياها بشر. وأثبتت تقنيات استخدام تسلسل الحمض النووي، وتحليل بصمات الأصابع، والتصوير بالأشعة تحت الحمراء للكشف عن الدم، والاختبارات الباليستية وتقنيات علمية أخرى فعاليتها ضد المجرمين، بدءًا من صيادي البنغول في زيمبابوي إلى لصوص أعشاش الصقور في إسكتلندا. وقد أدى التغيير الجذري في قوانين الحياة البرية إلى زيادة الاعتماد على الطب الجنائي. ففي الماضي، غالبًا ما كان الصيادون والمهربون الذين يُقبَض عليهم في حالة تلبس يعترفون بجرمهم ويدفعون غرامة رمزية. ولكن خلال الفترة ما بين عامي 2010 و2016 التي شهدت ارتفاع عدد عمليات الصيد غير القانوني، بدأت الدول في تشديد العقوبات بقدر كبير؛ إذْ يقول "روب أوغدن"، مدير علوم صون الطبيعة لدى "جامعة إدنبرة" والمتخصص في تحليل الحمض النووي: "لقد تحولت العقوبات من غرامة قدرها 50 دولارًا لحيازة العاج، إلى السجن مدة تصل إلى 10 أعوام". وهنالك شرعَ المجرمون من ذوي الإمكانات والموارد في توكيل محامين ماهرين للدفاع عنهم في المحكمة. "كان الدفاع يقول أشياء مثل: أثبتوا أنه عاج. ولقد فشلت ملاحقات قضائية عديدة لانتفاء أدلة علمية"، يقول أوغدن. كان للأدلة العلمية التي خضعت للتحليل في مختبر بانكوك دور حاسم في تقديم كارناسوتا إلى العدالة. وحاول الدفاع التشكيك في الطب الجنائي وسلسلة حفظ الأدلة، لكن أويتافون، مديرة المختبر، لم تترك أي مجال للشك لدى القضاة بأن مجموعة كارناسوتا هي التي أطلقت النار على ذلك الوحيش. وفي عام 2019، حكمت إحدى المحاكم على هذا الملياردير بالسجن ثلاثة أعوام وشهرين اثنين وغرامة قدرها مليونَي بات (59700 دولار)، وهو حكم حظي بإشادة "الصندوق العالمي لصون الحياة البرية" بوصفه "انتصارًا للحياة البرية ونصرًا لسيادة القانون". وتأتي إدانة كارناسوتا في وقت تتعرض فيه الحياة البرية وسيادة القانون للعديد من التهديدات. فارتفاع أسعار العاج وقرون الكركدن وقشور البنغول وغيرها من منتجات الحياة البرية، مثل لحوم الوحيش، والتطور المتزايد للجماعات المتمردة ومنظمات الجريمة الدولية، والفساد المستشري على الصعيد المحلي.. كلها عوامل تضع ضغوطًا غير مسبوقة على الأنواع المهددة بالانقراض. ففي جنوب إفريقيا، قتل الصيادون المخالِفون 10334 كركدنًّا، أسود وأبيض، ما بين عامي 2006 و2024، أي ما يعادل ثلثي العدد الإجمالي لهذه الحيوانات في البلد. وينتهي المطاف بمعظم القرون في فيتنام والصين حيث تُنحَت لتصبح قطعًا مزخرفة للزينة أو تُطحَن في شكل مسحوق لبيعها، بِزَعم استخدامها لأغراض طبية. وانخفض عدد الفيلة في إفريقيا من 472269 إلى نحو 415 ألف فيل بعد أن سمحت "اتفاقية الاتجار الدولي بالحيوانات والنباتات البرية المعرضة للانقراض" -المعروفة اختصارًا باسم "سايتس"- في عام 2008 ببيع العاج إلى الصين مرة واحدة؛ مما حفز الطلب وفتح الباب على مصراعيه لتجارة ضخمة بأنياب الفيلة تحت غطاء قانوني. وقد استقرت الأرقام، لكن هذه الحيوانات لا تزال في خطر. وتُعد حيوانات البنغول والفهود الثلجية وكثير من الأنواع الأخرى معرضة لخطر شديد أيضًا. فمنظمة "الأمم المتحدة" تُقدَّر قيمة الاتجار العالمي غير القانوني بالحياة البرية في نحو 23 مليار دولار سنويًا.