المسيرة الملحمية لآخر قطعان الرنة الكنـديـة
مع إشراقة شمس الصباح، راحَ قطيع من آلاف غزلان الرنّة يتجول في أرجاء المناطق المتجمدة البعيدة بشمال غرب كندا. وفي خضم الحركة البطيئة لهذه الحشود، ظلت أجسادها تتوارى وسط غمامة من الأبخرة الناتجة عن التحام أنفاسها الدافئة بالهواء البارد. وبدت قرونها وكأنها غابة متشابكة تتمايل أغصانها وسط الضباب. حين يَلمح المرءُ هذا القطيع المرتحِل من بعيد، يبدو وكأنه خط ملتو طويل خَطَّتهُ ريشة رسام بلون بني على لوحة بيضاء ناصعة كالثلج وهو يرسم مشهدًا لمنظر طبيعي في القطب الشمالي. من بعيد، كان القطيع تحت مراقبة أربعة رعاة من شعب "إنوفيالويت" مسلَّحين ببنادق وهم على متن دراجات بخارية مخصَّصة للسير على الثلوج. كانوا متأهبين متحفزين وهم يتابعون إيقاع حوافر هذه الحيوانات إذ تخطو فوق الأرض المتجمدة؛ وفي ذلك الصباح قارس البرودة، كانت مَهمتهم مرافقة القطيع إلى مناطق الولادة، أو بمعنى آخر أكبر وأعمق، كانوا يساهمون أيضًا في كتابة صفحة جديدة من تاريخ هذا القطيع العريق. "إنها حيوانات ذكية حقًا"، هكذا قال "دوغلاس إيساغوك"، الذي أصبح من أكثر الرعاة الأصليين خبرة بفضل اشتغاله بمجال غزلان الرنة منذ سبعة مواسم شتاء. يضيف قائلًا: أنا دائم التحدث إليها عند التنقل معها. فهي تهدأ، نوعًا ما، حين تعرف صوتي أو صوت مَركبتي الثلجية". وإذْ يَتقدم آخر قطيع رنة حُرّ في كندا، شمال "الدائرة القطبية الشمالية" مباشرة، فإنه يحمل معه وشائج تربطه إلى تجربة أسطورية. بدأت التجربة منذ مئة عام تقريبًا، بعد تناقص أعداد غزلان الكاريبو المحلية التي اعتمد عليها شعب الإنوفيالويت زمنًا طويلًا، فتم وضع خطة جريئة لحل مشكلة ندرة الغذاء، من خلال استيراد الرنة. (الكاريبو والرنة نوعٌ واحد، غير أن الرنة خضعت للاستئناس). وتم تجريب أمر مماثل قبل ذلك، في مطلع القرن الحالي، بولاية ألاسكا الأميركية القريبة، عندما شُحنت جحافل من الرنة على متن القوارب والقطارات لتخوض غمار رحلات يَصعب تصديقها، من سيبيريا والنرويج إلى أميركا الشمالية.
وفي أواخر عام 1929، انطلقت مجموعة مما كان يشكل آنذاك قطيعًا متناميًا من الرنة -زُهاء 3500 رأس منها- من ألاسكا إلى كندا برعاية رُعاة يتحدرون من شعوب "سامي" و"إنويت". امتدت هذه الرحلة الشاقة على مسار متعرج طوله 2400 كيلومتر ودامت أكثر من خمسة أعوام، وقد شكلت البداية الصعبة لِما أصبح يُعرف باسم "مشروع الرنة الكندي". اليوم، وبعد عقود من الزمن، تنطلق مجموعة مساهمين من شعب الإنوفيالويت بالمشروع إلى آفاق غير مسبوقة. فهذا القطيع، الذي ظل شعب الإنوفيالويت يُسهم في رعايته، على أنه مملوك لعائلة واحدة، اشترته رسميًا "شركة الإنوفيالويت الإقليمية" (المعروفة اختصارًا باسم "آي. آر. سي") في عام 2021. وتحت الأعين الساهرة لإيساغوك وزملائه، تضاعف عدد القطيع بأكثر من الضعف، حتى وصل زُهاء 6000 رنة؛ مما أتاح تنفيذ خطة طموح تهدف إلى رسم مسار مستدام لشعب الإنوفيالويت الذي يعيش على أرض أجداده من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي لهم. وتعليقًا على ذلك، قال "بريان ويد"، مدير "منظمة التنمية الاقتصادية المجتمعية لشعب الإنوفيالويت": "غايتنا القصوى توفير الرنة بكثرة لشعب الإنوفيالويت؛ وهذا هو الهدف الأول. هناك عنصر الأمن الغذائي المتعلق بهذا القطيع، ولكن هناك أيضًا عنصر خلق فرص العمل المتعلق بالمكون الاقتصادي [من المشروع]". لا يقتصر نقل مِلكية قطيع الرنة إلى شعب الإنوفيالويت على إرساء الأمن والاستقرار للمستقبل، بل يمثل أيضًا فرصة لشعب الإنوفيالويت للتحكم في القطيع الذي استوردته الحكومة الاستعمارية وجلبته إلى أوطانهم. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، عندما وصلت الرنة إلى الأقاليم الشمالية الغربية، كان الدور المفترَض لهذه الحيوانات في حياة شعب الإنوفيالويت، هو في الغالب استبدال عادات تأمين الطعام التي ورثوها عن أجدادهم. وأخذت الحكومة الكندية تُنشئ محطات إدارية وتسمح باستحداث مراكز تجارية في جميع أنحاء المنطقة بعد استحواذها على الأقاليم الشمالية الغربية في أواخر القرن التاسع عشر. فلقد كان هؤلاء السكان الأصليون منذ قرون من الزمان يحصلون على قوتهم بالاعتماد في المقام الأول على صيد الحيوانات والأسماك، ولكن مع تناقص أعداد غزلان الكاريبو، تم استيراد الرنة لحل مشكلة نقص الغذاء. وقد أدى ذلك أيضًا إلى إحداث تغيير في العلاقة التي ربطت شعب الإنوفيالويت بالأرض، إذ أَمكَن في ذلك الوقت تربية الرنة بوصفها ماشية. يقول ويد: "الرنة مصنَّفة حيوانات مستأنَسة، مثل البقر أو الدجاج. وهي ترعى طوال اليوم وتستمر في التحرك ببطء شديد حتى تجد مراعي أكثر خضرة". في الأعوام التي سبقت سيطرة شركة "آي. آر. سي." على قطيع الرنة، كانت هذه الحيوانات مملوكة لعائلة من الإنوفيالويت (عائلة بايندرز) يعود ارتباطها بالرنة إلى زمان وصولها إلى "دلتا نهر ماكنزي". كانت عائلة بايندرز ترعى هذه الحيوانات وتبيع لحومها، ولكنها واجهت ظروفًا صعبة على نحو متزايد، بسبب قلة عدد الرعاة لصد المفترسات ومنع القطيع من الانقسام والتشتت. ومع انخفاض أعداد الرنة، كان زعماء الإنوفيالويت في شركة "آي آر سي" قد بدأوا يدركون الدور القوي الذي يمكن أن يؤديه تعزيز أعداد الرنة في مجتمعهم.
المسيرة الملحمية لآخر قطعان الرنة الكنـديـة
مع إشراقة شمس الصباح، راحَ قطيع من آلاف غزلان الرنّة يتجول في أرجاء المناطق المتجمدة البعيدة بشمال غرب كندا. وفي خضم الحركة البطيئة لهذه الحشود، ظلت أجسادها تتوارى وسط غمامة من الأبخرة الناتجة عن التحام أنفاسها الدافئة بالهواء البارد. وبدت قرونها وكأنها غابة متشابكة تتمايل أغصانها وسط الضباب. حين يَلمح المرءُ هذا القطيع المرتحِل من بعيد، يبدو وكأنه خط ملتو طويل خَطَّتهُ ريشة رسام بلون بني على لوحة بيضاء ناصعة كالثلج وهو يرسم مشهدًا لمنظر طبيعي في القطب الشمالي. من بعيد، كان القطيع تحت مراقبة أربعة رعاة من شعب "إنوفيالويت" مسلَّحين ببنادق وهم على متن دراجات بخارية مخصَّصة للسير على الثلوج. كانوا متأهبين متحفزين وهم يتابعون إيقاع حوافر هذه الحيوانات إذ تخطو فوق الأرض المتجمدة؛ وفي ذلك الصباح قارس البرودة، كانت مَهمتهم مرافقة القطيع إلى مناطق الولادة، أو بمعنى آخر أكبر وأعمق، كانوا يساهمون أيضًا في كتابة صفحة جديدة من تاريخ هذا القطيع العريق. "إنها حيوانات ذكية حقًا"، هكذا قال "دوغلاس إيساغوك"، الذي أصبح من أكثر الرعاة الأصليين خبرة بفضل اشتغاله بمجال غزلان الرنة منذ سبعة مواسم شتاء. يضيف قائلًا: أنا دائم التحدث إليها عند التنقل معها. فهي تهدأ، نوعًا ما، حين تعرف صوتي أو صوت مَركبتي الثلجية". وإذْ يَتقدم آخر قطيع رنة حُرّ في كندا، شمال "الدائرة القطبية الشمالية" مباشرة، فإنه يحمل معه وشائج تربطه إلى تجربة أسطورية. بدأت التجربة منذ مئة عام تقريبًا، بعد تناقص أعداد غزلان الكاريبو المحلية التي اعتمد عليها شعب الإنوفيالويت زمنًا طويلًا، فتم وضع خطة جريئة لحل مشكلة ندرة الغذاء، من خلال استيراد الرنة. (الكاريبو والرنة نوعٌ واحد، غير أن الرنة خضعت للاستئناس). وتم تجريب أمر مماثل قبل ذلك، في مطلع القرن الحالي، بولاية ألاسكا الأميركية القريبة، عندما شُحنت جحافل من الرنة على متن القوارب والقطارات لتخوض غمار رحلات يَصعب تصديقها، من سيبيريا والنرويج إلى أميركا الشمالية.
وفي أواخر عام 1929، انطلقت مجموعة مما كان يشكل آنذاك قطيعًا متناميًا من الرنة -زُهاء 3500 رأس منها- من ألاسكا إلى كندا برعاية رُعاة يتحدرون من شعوب "سامي" و"إنويت". امتدت هذه الرحلة الشاقة على مسار متعرج طوله 2400 كيلومتر ودامت أكثر من خمسة أعوام، وقد شكلت البداية الصعبة لِما أصبح يُعرف باسم "مشروع الرنة الكندي". اليوم، وبعد عقود من الزمن، تنطلق مجموعة مساهمين من شعب الإنوفيالويت بالمشروع إلى آفاق غير مسبوقة. فهذا القطيع، الذي ظل شعب الإنوفيالويت يُسهم في رعايته، على أنه مملوك لعائلة واحدة، اشترته رسميًا "شركة الإنوفيالويت الإقليمية" (المعروفة اختصارًا باسم "آي. آر. سي") في عام 2021. وتحت الأعين الساهرة لإيساغوك وزملائه، تضاعف عدد القطيع بأكثر من الضعف، حتى وصل زُهاء 6000 رنة؛ مما أتاح تنفيذ خطة طموح تهدف إلى رسم مسار مستدام لشعب الإنوفيالويت الذي يعيش على أرض أجداده من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي لهم. وتعليقًا على ذلك، قال "بريان ويد"، مدير "منظمة التنمية الاقتصادية المجتمعية لشعب الإنوفيالويت": "غايتنا القصوى توفير الرنة بكثرة لشعب الإنوفيالويت؛ وهذا هو الهدف الأول. هناك عنصر الأمن الغذائي المتعلق بهذا القطيع، ولكن هناك أيضًا عنصر خلق فرص العمل المتعلق بالمكون الاقتصادي [من المشروع]". لا يقتصر نقل مِلكية قطيع الرنة إلى شعب الإنوفيالويت على إرساء الأمن والاستقرار للمستقبل، بل يمثل أيضًا فرصة لشعب الإنوفيالويت للتحكم في القطيع الذي استوردته الحكومة الاستعمارية وجلبته إلى أوطانهم. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، عندما وصلت الرنة إلى الأقاليم الشمالية الغربية، كان الدور المفترَض لهذه الحيوانات في حياة شعب الإنوفيالويت، هو في الغالب استبدال عادات تأمين الطعام التي ورثوها عن أجدادهم. وأخذت الحكومة الكندية تُنشئ محطات إدارية وتسمح باستحداث مراكز تجارية في جميع أنحاء المنطقة بعد استحواذها على الأقاليم الشمالية الغربية في أواخر القرن التاسع عشر. فلقد كان هؤلاء السكان الأصليون منذ قرون من الزمان يحصلون على قوتهم بالاعتماد في المقام الأول على صيد الحيوانات والأسماك، ولكن مع تناقص أعداد غزلان الكاريبو، تم استيراد الرنة لحل مشكلة نقص الغذاء. وقد أدى ذلك أيضًا إلى إحداث تغيير في العلاقة التي ربطت شعب الإنوفيالويت بالأرض، إذ أَمكَن في ذلك الوقت تربية الرنة بوصفها ماشية. يقول ويد: "الرنة مصنَّفة حيوانات مستأنَسة، مثل البقر أو الدجاج. وهي ترعى طوال اليوم وتستمر في التحرك ببطء شديد حتى تجد مراعي أكثر خضرة". في الأعوام التي سبقت سيطرة شركة "آي. آر. سي." على قطيع الرنة، كانت هذه الحيوانات مملوكة لعائلة من الإنوفيالويت (عائلة بايندرز) يعود ارتباطها بالرنة إلى زمان وصولها إلى "دلتا نهر ماكنزي". كانت عائلة بايندرز ترعى هذه الحيوانات وتبيع لحومها، ولكنها واجهت ظروفًا صعبة على نحو متزايد، بسبب قلة عدد الرعاة لصد المفترسات ومنع القطيع من الانقسام والتشتت. ومع انخفاض أعداد الرنة، كان زعماء الإنوفيالويت في شركة "آي آر سي" قد بدأوا يدركون الدور القوي الذي يمكن أن يؤديه تعزيز أعداد الرنة في مجتمعهم.